17-أغسطس-2022
 الولايات المتحدة الأمريكية

عمومًا نحن إزاء علاقة أمر واقع يمسك فيها كل طرف بأنفه مع مصافحته الآخر""

مقال رأي

 

لا يمكن تجاهل المؤشرات الواضحة على عدم الارتياح الغربي–وهنا نعني بـ"الغرب" أساسًا منظومة جيوسياسية دولية لا تزال مهيمنة تمثلها أساسًا دول مجموعة السبع الكبار وتقودها واشنطن– تجاه الوضع السياسي في تونس، وتحديدًا خط سير قيس سعيّد. عدم الارتياح الخطابي هذا تواجهه ممارسة سياسية حذرة، تحاول احتواء شخص خارج التصنيف الكلاسيكي.

بين السياسة والأكاديميا تتأرجح المقاربة الغربية للتطورات في تونس بين التعامل مع الأمر الواقع ومحاولة الفهم

في المقابل تهتم أول مؤسسة أكاديمية غربية في العالم، ويأتي التصنيف الدولي لشانغهاي المنشور منذ أسبوع لتأكيد ذلك، بوصفها المؤسسة الجامعية الأولى عالميًا أي جامعة هارفارد، بالتجربة التونسية عبر "مدرسة كينيدي للحكم" باستضافة مسؤولين شهدا تجربة الانتقال الديمقراطي من موقع الحكم الرئيس السابق المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد. بين السياسة والأكاديميا تتأرجح المقاربة الغربية للتطورات في تونس بين التعامل مع الأمر الواقع ومحاولة الفهم.


في اللقاء الأخير بين وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي والقائمة بالأعمال الأمريكية في تونس ناتاشا فرانشيسكي، في انتظار قدوم السفير الجديد جوي هود الذي أثار لغطًا قبل وصوله حتى، نلحظ نقطة أساسية (وردت في البيانين التونسي والأمريكي): دعوة رسمية للرئيس قيس سعيّد للحضور في القمة الأمريكية الإفريقية التي ستتم في واشنطن في ديسمبر القادم. يأتي ذلك بعد حملة انتقادات غير مسبوقة من مسؤولين أمريكيين آخرها من أعلى مستوى بدء بوزير الخارجية ثم وزير الدفاع حول مسار قيس سعيّد الذي اتسم بالانفراد ومؤشرات تسلطية.

يتأرجح الموقف الأمريكي عمومًا بين الإقرار بالأمر الواقع الذي يمثله مسار ما بعد 25 جويلية وانتقاده. المقاربة الرسمية تبدو متجهة أساسًا نحو الاحتواء عبر التعامل الحذر مع رئيس يبدو النظر إليه في الأوساط الغربية عمومًا والأمريكية خاصة بأنه "غامض" و"غير متوقع" (unpredictable).

 

 

العقبات أمام علاقة جيدة بين الإدارة الأمريكية وقيس سعيّد ليس فقط سلوك الأخير والسياق التونسي بل أيضًا الإطار السياسي الذي ولدت فيه الإدارة الأمريكية الديمقراطية في مواجهة خصم "شعبوي" مثل ترامب، وما تعتبره هذه الإدارة من "تهديد خطير" على المستوى الدولي من الموجات "الشعبوية" ضد الديمقراطية الليبرالية بمعناها التقليدي، وترى في الرئيس التونسي أحد التمظهرات على ذلك.

جو بايدن شخص مخضرم، وعلى خلاف وزيره للخارجية أنطوني بلينكن المعروف بأنه "مؤمن صلب" بالمبادئ الليبرالية، فقد مر بمراحل مختلفة وعُرف بكونه "ليبرالي واقعي"

لكن جو بايدن شخص مخضرم، وعلى خلاف وزيره للخارجية أنطوني بلينكن المعروف بأنه "مؤمن صلب" بالمبادئ الليبرالية، فقد مر بمراحل دولية مختلفة واتسم تاريخيًا ومنذ وجوده منذ عقود في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس بأنه "ليبرالي واقعي". أهم اختبار للموقف الأمريكي الفعلي وليس الخطابي المعلن هو مدى دعمها لاتفاق قرض جديد بين تونس وصندوق النقد الدولي، حيث تتصرف الولايات المتحدة وبقية دول قمة السبع كطرف محدد لسياسات الصندوق.

ومثلما أشرت سابقًا يبدو العامل الجيوسياسي هو المحدد خاصة في السياق الراهن والمؤشرات تتزايد على تقدم جدي للمفاوضات التي أصبحت لأول مرة منذ سنتين "رسمية". عمومًا العبارة التي تتردد على الألسنة الناقدة للسلوك السياسي لقيس سعيّد في الغرب هي "لا يمكن أن نترك تونس تسقط"، إزاء التهديدات المالية والاقتصادية خاصة تلك المستجدة بعد الحرب الروسية في أوكرانيا. هنا تصبح "المسألة الديمقراطية" ثانوية أكثر فأكثر كمحدد للخيارات الغربية.

العبارة التي تتردد على الألسنة الناقدة لسلوك سعيّد في الغرب هي "لا يمكن أن نترك تونس تسقط" إزاء التهديدات المالية والاقتصادية.. هنا تصبح "المسألة الديمقراطية" ثانوية كمحدد للخيارات الغربية

الموقف الفرنسي كان أكثر صراحة، في البلاغ الرسمي الفرنسي للمكالمة التي حصلت منذ أسبوع بين الرئيسين التونسي والفرنسي، أي "دعم تونس" في خصوص طلبها لقرض من الصندوق. لكن يبقى من غير الواضح إن كان ماكرون سيستجيب للضغوط القادمة من نظيره الكندي والتي تعمل في الكواليس من أجل تأجيل ثان أو حتى إلغاء القمة الفرنكفونية المزمع عقدها في تونس قبل نهاية العام.

 

 
في المقابل تمضي اليابان في إنجاز القمة اليابانية الإفريقية في تونس آخر شهر أوت/أغسطس، واليابان للتذكير من أهم ممولي منظومة دول قمة السبع "الغربية"، لكن بنكهة آسيوية تولي قيمة أكبر للاقتصاد على حساب السياسة، خاصة في إطار القلق الياباني المتصاعد من توسع نفوذ الغريم الصيني دوليًا وخاصة في إفريقيا.

تمضي اليابان في إنجاز القمة اليابانية الإفريقية في تونس واليابان تولي قيمة أكبر للاقتصاد على حساب السياسة، خاصة في إطار القلق الياباني المتصاعد من توسع نفوذ الغريم الصيني دوليًا وخاصة في إفريقيا

يبقى من غير الواضح إن كانت ترتيبات القمة تستطيع تجاوز الإشكالات الديبلوماسية عند القيام بالدعوات لممثلي الدول الإفريقية، خاصة الإشكال التقليدي بين الجزائر والمغرب في خصوص دعوة ممثلي "الصحراء الغربية"، في وقت يتزايد فيه التوتر بين الدولتين الأكبر مغاربيًا.

في كل الحالات من الواضح أن من مصلحة قيس سعيّد القيام بكل شيء لكي لا تترك القمة اليابانية الإفريقية أي أثر سلبي على علاقاته مع كل من الجزائر أو الرباط، حيث يمشي منذ فترة على خيط رفيع بينهما في سياق سياسة "صفر مشاكل" مع الجيران والتحالفات الإقليمية ليس في المغرب الكبير فحسب بل عمومًا الممتدة عميقًا في اتجاه الشرق أيضًا إلى مصر والخليج.

من مصلحة قيس سعيّد القيام بكل شيء لكي لا تترك القمة اليابانية الإفريقية أي أثر سلبي على علاقاته مع كل من الجزائر أو الرباط، حيث يمشي منذ فترة على خيط رفيع بينهما في سياق سياسة "صفر مشاكل"

في المحصلة نحن إذًا لسنا إزاء رئيس "معزول" دوليًا بما في ذلك في المجال الغربي، رغم أننا لسنا إزاء رئيس "محبوب" من هذه الأطراف. ومن جهته أيضًا لا يبدو أنه يسعى كثيرًا لأن يكون محبوبًا منها، إذ لا يخفي عبر خطابه "السيادي" المتكرر أنه غير معني بمحاضرات غربية حول الديمقراطية في تونس. لكنه أيضًا يعلم جيدًا أنه على رأس دولة تحتاج لكي تتنفس ميزانيتها بالكاد أن تواصل على الأقل في المستقبل المنظور التعويل على التمويلات الغربية. عمومًا نحن إزاء علاقة أمر واقع يمسك فيها كل طرف بأنفه مع مصافحته الآخر. 

 

 
بعيدًا عن السياسة وفي المستوى الأكاديمي، كان من اللافت في الأسبوع الأخير الإعلان عن الاستدعاء الموجه لمسؤولين بارزين في مرحلة الانتقال الديمقراطي الرئيس المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد بصفة "باحثين كبيرين" (senior fellows) في "مدرسة كينيدي للحكم" المرموقة التابعة لجامعة هارفارد.

كان من اللافت في الأسبوع الأخير الإعلان عن الاستدعاء الموجه لمسؤولين بارزين في مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس في "مدرسة كينيدي للحكم" المرموقة التابعة لجامعة هارفارد

هنا ضروري التوضيح أن الدعوة تأتي في سياق برنامج بحثي بعنوان "مبادرة الديمقراطية في الأماكن الصعبة" (Initiative of Democracy in Hard Places) الذي يقوده الأكاديمي في العلوم السياسية المصري الأصل طارق مسعود. البرنامج يقوم على استدعاء شخصيات عامة للمشاركة في ندوات وإلقاء مداخلات حول تجاربها في سياق الانتقال الديمقراطي في الدول النامية سواء "الناجحة او الفاشلة" كما يشرح نص تقديم البرنامج. [1]

هذه المنهجية طبعًا تعتمد في إمكانية نجاحها على مدى جدية وقدرة أي مشارك على التقييم العميق لتجربته في الحكم. محاولة فهم تعطب الانتقال الديمقراطي في تونس أمر ضروري، ونحتاج القيام به في السياق الأكاديمي التونسي قبل الأمريكي بعيدًا عن الاستقطابات السياسية الحادة. طبعًا يجب الإشارة إلى أمر بديهي أي أن جامعة مرموقة بحثيًا مثل هارفارد لا تمثل في اختياراتها توجهًا رسميًا للإدارة الأمريكية. لكن من غير المبالغ فيه القول إن التوجه البحثي في "مدرسة كينيدي للحكم" يدافع تقليديًا عن التوجه الديمقراطي الليبرالي الكلاسيكي، بما يتماهى خاصة مع الخطاب الرسمي للإدارة الأمريكية الحالية لاسيما وزير الخارجية بلنيكن.
 
وبالمناسبة، من الورقات البحثية الملفتة للانتباه في السياق الأمريكي مؤخرًا، صدرت عن "معهد واشنطن للسياسة في الشرق الأدنى" في 8 أوت/أغسطس الماضي للباحثة في المعهد سابينا هانابارغ. [2] الورقة تصف توجهات الرئيس قيس سعيّد بأنها "ضد الديمقراطية" لكن في المقابل ترى أن الوقت ليس مناسبًا لقطع المعونة الأمريكية للقطاع الخاص والمجتمع المدني، في إشارة للنقاش الدائر بين الكونغرس والإدارة الأمريكية حول "تقليص المساعدات" السنوية الأمريكية والتي لم يصدر بعد قرار واضح ونهائي في خصوصها وبقيت عمليًا معلقة.

ورغم أنها ليست بأهمية التمويلات عبر صندوق النقد وشركائه خاصة البنك الدولي، فإن لهذه المساعدات قيمة سياسية ورمزية أساسًا. وربما ستكون الطريقة التي ستحاول من خلالها الإدارة الامريكية إضفاء بعد عملي ولو نسبي على انتقاداتها لخطوات قيس سعيّد. مقاربة هانابارغ في كل الحالات تدافع عن توجه لا أعتقد أنه ضعيف داخل الإدارة، أي الاحتواء عبر التمويل عوض المقاطعة، والأرجح أنه التوجه الذي يدفع نحوه الرئيس بايدن ومساعدوه في مجلس الأمن القومي.

 

[1] https://ash.harvard.edu/democracy-hard-places
[2] https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/how-engage-tunisias-new-constitutional-republic

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"