27-يوليو-2022
استفتاء تونس

إذا كان هناك من نص سيكون له تأثير عميق على حياة التونسيين فهو برنامج الإصلاحات موضوع التفاوض بين الحكومة وصندوق النقد (ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي

 

يوم الاثنين 25 جويلية/يوليو 2022، تاريخ الاستفتاء على الدستور الذي اقترحه الرئيس التونسي قيس سعيّد، كان يوم اختبار مسار فردي للرئيس تخلص فيه بشكل تدريجي من النخب المعارضة له وحتى بعض المناصرين، ليتقدم تدريجيًا إلى طرح مشروع دستور كتبه بنفسه متجاهلًا حتى من رشحهم للمشورة والاقتراح، لكن بعد تصويت حوالي المليونين ونصف نحن إزاء أمر واقع جديد، مركب ويتحدى ثنائية "إما أبيض أو أسود". 

الآن مرت مياه كثيرة منذ 25 جويلية/يوليو العام الفارط، لكن يمكن أن نسأل أساسًا سؤالين: لماذا مر الدستور؟ ولماذا لن يكون، في رأينا، أداة للإصلاح الفعلي، ولو أن الدستور الفعلي للمرحلة الجديدة سيكون "برنامج الإصلاحات" موضوع المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، والأرجح مضمون اتفاق جديد سيتم إمضاؤه في المرحلة بين الاستفتاء والانتخابات؟

لماذا مر الدستور؟ ولماذا لن يكون أداة للإصلاح الفعلي؟ ولو أن الدستور الفعلي للمرحلة الجديدة سيكون "برنامج الإصلاحات" موضوع المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد

الاستفتاء سينتقل من كونه دستور الرئيس، ودستور من صوتوا له، إلى دستور الجمهورية التونسية. هذا أمر واقع وسيقع تعزيزه باعتراف دولي بذلك. مجموعة من الملاحظات الأخرى تصبح ضرورية:

  • منذ 2011 إلى الآن اتجاه التصويت عقابي وليس على أساس تملك مشروع بديل جذري، وهو من سمات التأسيس الديمقراطي والحالة الطفولية غير الناضجة للحالة السياسية، سواء على مستوى الفاعل السياسي أو المقترعين عمومًا. إذ من الواضح أنّ غالبية الداعمين لدستور الرئيس لا يهمهم أصلًا الدستور، وهم معنيون فقط بإغلاق صفحة مرحلة حكم النهضة و"توافقاتها" المختلفة التي لم تصلح البلاد وشوهت العملية الديمقراطية. وبقاء هذه النخبة "التوافقية"، التي أرست نظامًا لا يتحمل الحاكم فيه المسؤولية ولا يصلح ويدفع فقط نحو تقاسم السلطة بين الجميع، في صدارة المعارضة مع حالات التهريج الأخرى مثل عبير موسي، هو عامل أساسي يدعم التصويت العقابي الذي يخدم مصلحة قيس سعيّد. وتجاهل هذا الشعور الأصلي الذي سمح بـ"قرارات 25 جويلية" هو حالة الإنكار الأصلية التي ساهمت في إيصالنا إلى ما نحن فيه. 
  • بأكثر قليلًا من ربع المسجلين لا يمكن للرئيس أن يتكلم باسم الشعب، ويعتبر نفسه ضميره المطلق، مثلما لم يكن من الممكن ادّعاء ذلك ممن تحصلوا على أغلبيات نسبية، أو بالأحرى أقليات وازنة، في انتخابات 2011 و2014 و2019. قيس سعيّد في النهاية نموذج لـ"حكم الأغلبية" الذي يضيق على الأقليات، مع استخدام مركز على آلية الاستفتاء المباشر الذي يعمق حالة الاستقطاب، حالة شعبوية كلاسيكية. 

  • بنسبة مشاركة بلغت مليونين و800 ألف ناخب (بالمناسبة أرقام هيئة الانتخابات متطابقة مع تقديرات جمعية "مراقبون" المعروفة بدقتها ومهنيتها والتي أعلنت في 26 جويلية/يوليو 2022 نسبة مشاركة تصل إلى 31٪)، أقل ببضعة عشرات الآلاف ممن صوتوا في تشريعية 2019 لا يمكن أن يقع التعامل مع قيس سعيّد على أنه شخص "معزول" مدعوم بالأجهزة الحاملة للسلاح فحسب. هذه المعطيات الحسابية تؤكد في نهاية الأمر التحليل السياسي الذي يحيل إلى أنه يعبر عن حالة سياسية واجتماعية جدية في وزنها وتأثيرها لا تحتاج للحضور النشيط عبر المسيرات حتى نراها. تتفيه هذا الكم من الناخبين من قبل المعارضة التي دعمت خيار المقاطعة يعكس حالة إنكار مزمنة. 
  • قيس سعيّد الطرف السياسي الوحيد الذي بصدد إما التوسع أو الهيمنة بشكل واضح. انتقل من قاعدة انتخابية واضحة في الدور الأول بحوالي 600 ألف صوت إلى "جبهة" مقترعين يدعمون خريطة طريقه تصل إلى أكثر من مليونين ونصف. طبعًا من البديهي الإشارة إلى أن المليونين و700 ألف صوت التي تحصل عليها في الدور الثاني من انتخابات 2019 لا تتعلق بدعم له بل هي "مؤجرة" من قواعد انتخابية لأطراف أصبح بعضها معاديًا له بشكل واضح. 

سيعترف الطرف الدولي بالأمر الواقع الجديد بل سيتقدم خطوة أخرى بمباركة مسار الموافقة على اتفاق جديد مع صندوق النقد وإطلاق التمويلات الدولية بالاستناد إلى ما منحه الاستفتاء من مشروعية للدستور

  • مقارنة بين أرقام استفتاء 2022 وأرقام تشريعية 2019 وإذا افترضنا أن القاعدة الانتخابية للأحزاب التي قاطعت الآن هي منضبطة عمومًا لتوجهات أحزابها فذلك سيعني أن قيس سعيّد جذب ناخبين جددًا لم يشاركوا في الاستحقاق السابق. ومن الواضح أن الوافدين الجدد ليسوا مهتمين بخيارات قيس سعيّد الدستورية، بل يستبطنون من خلاله انتقامًا من النخبة التي قادت العملية السياسية سابقًا. 
  • حسب التقديرات التي قدمها مدير مؤسسة "سيغما" للاستطلاع على التلفزة الوطنية الاثنين 25 جويلية/يوليو 2022 ليلًا فإننا إزاء مقاطعة نشيطة ذات خلفية سياسية تصل إلى حد 21% من الناخبين إذا جمعناها مع الـ2% ممن صوتوا بـ"لا" فإن ذلك سيقترب كثيرًا مع نسبة من صوتوا بـ"نعم"، إذ يصبحان معًا في حدود 23%. البقية أي أكثر من 50% غير معنيين بالعملية السياسية وهذا رقم في ارتفاع نسبي منذ 2011. 
  • تكتيك المقاطعة يجب أن يطرح أكثر من سؤال على أصحابه، وحسب البيانات الأولية خاصة لحركة النهضة وحلفائها في "جبهة الخلاص الوطني" نحن إزاء هروب إلى الأمام لا يختلف عن الهروب إلى الأمام للرئيس. 
  • أي محاولة لإحداث تطابق بين مرحلة قيس سعيّد بعد "قرارات 25 جويلية" ومرحلة حكم بن علي هي غير دقيقة وتحمل مغالطات. حتى بقياس المسار الفردي لقيس سعيّد، وهو حقيقي، فإن استفتاء 2002 مثلًا تحت حكم بن علي لم يضمن في الحد الأدنى حرية الانتخاب والاختيار وتم في سياق عام لقمع واضح لأبسط الحريات، حرية الرأي والتنظم. وهذان العاملان غير موجودين الآن: لو خاضت حملة الـ"لا" حملتها بمراقبيها وملاحظيها لفرضت بسهولة حرية الانتخاب، ولتمتعت بحق المشاركة في الحملة وفرضت ضغطًا جديًا من أجل شفافية أكبر. الحقيقة الواضحة أن المعارضة بأطيافها لا تتميز بالمرونة والقدرة على استغلال مواطن ضعف قيس سعيّد. 

لن يغير الدستور شيئًا في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ويصر الرئيس على التهرب من طرح بديل واضح اقتصادي إصلاحي ويتخفى عمومًا وراء المسلمة الشعبوية "الشعب يعرف ما يريد"

  • سيعترف الطرف الدولي بالأمر الواقع الجديد بل سيتقدم خطوة أخرى، في تقديرنا، بمباركة مسار الموافقة على اتفاق جديد مع صندوق النقد وإطلاق التمويلات الدولية بالاستناد إلى ما منحه الاستفتاء من مشروعية للدستور. ومن مظاهر إنكار جزء من المعارضة (خاصة "جبهة الخلاص الوطني" ومن ثمة النهضة) وعدم قدرتها على قراءة الموقف الغربي دعوتها المجتمع الدولي لعدم عقد اتفاق بين صندوق النقد والحكومة الحالية في حين كل المؤشرات توضح أن الأطراف الدولية الغربية داعمة ضمنيًا للمسار الحالي ولا ترغب في مواجهة على أساس المقاطعة. 
  • لن يغير الدستور شيئًا في الوضع الاقتصادي والاجتماعي. يصر الرئيس على التهرب من طرح بديل واضح اقتصادي إصلاحي، ويتخفى عمومًا وراء المسلمة الشعبوية "الشعب يعرف ما يريد". في حين أن النظام السياسي الجديد سيضع كل السلطات التنفيذية في أيدي الرئيس، حتى اختيار رئيس الحكومة لن يتأثر بنتائج الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الجهات والأقاليم الجديد (الغرفة الثانية). 

في الحقيقة، إذا كان هناك من نص سيكون له تأثير عميق على حياة التونسيين فهو برنامج الإصلاحات الذي يتم التفاوض عليه بين الحكومة وصندوق النقد. وبعيدًا عن الخطاب الاجتماعي المضخم للرئيس فإن الحكومة بصدد الدفع نحو برنامج إصلاحات لا يختلف عن أساسيات "برامج التعديل الهيكلي" المعتادة. 

إذا كان هناك من نص سيكون له تأثير عميق على حياة التونسيين فهو برنامج الإصلاحات، وسيكون زمن استغراق المفاوضات محددًا بالعوامل الجيوسياسية وقدرة الحكومة على ضبط الأوضاع وتمرير "الإصلاحات" المتماهية مع فلسفة صندوق النقد

تقديراتنا كما وضحنا في ورقة جديدة في "مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي" ونشرناها في 22 جويلية/يوليو 2022 تحت عنوان "الجيوسياسي والاقتصادي في علاقة تونس بصندوق النقد الدولي: هل نتجه إلى اتفاق جديد قبل نهاية سنة 2022؟"، تتمثل في التالي:

إثر قرار الانطلاق رسميًا في المفاوضات من قبل مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور نهاية جوان/يونيو 2022 والبيان ذي المنحى "الإيجابي" بعد زيارة الوفد التقني للصندوق بداية جويلية/يوليو الجاري، يمكن أن نستشرف "حالة وسط" تقوم فيها هذه الدول المعنية بانتظار محطة "الاستفتاء" وإن لم تحصل تجاوزات واضحة تشير إلى "تزوير إرادة الناخبين" (ويأتي هنا اهتمام سفارات الدول السبع بأداء "هيئة الانتخابات" الجديدة) ويتم المرور إلى التحضير إلى انتخابات في ديسمبر/كانون الأول 2022، حينها يمكن أن نتجه إلى واحد من ثلاثة احتمالات/سيناريوهات:

  • أولًا، يتم اتفاق في الحد الأدنى على أساس آلية "تمويل سريع" (RFI) بناء على برنامج مثل (Resilience and Sustainability Fund)، ويكون ذلك أداة مؤقتة للإبقاء على حالة من الاستقرار في انتظار أن تتضح الرؤية بشكل نهائي في خصوص استقرار النظام السياسي الجديد. 
  • ثانيًا، سيناريو آخر يتمثل في اتفاق مرحلي أو مؤقت (SBA) يمكن تحويله بعد الانتخابات المقررة في ديسمبر/كانون الأول 2022 إلى اتفاق حول برنامج مطول بعد الانتخابات مثلما حدث في حالات سابقة عندما يسبق الاتفاق القصير اتفاق مطول.
  • ثالثًا، السيناريو الأخير أي اتفاق مطول مثلما طلبت الحكومة أي (EFF) بين تاريخ الاستفتاء وتاريخ الانتخابات، وستتحدد طبيعة هذه الآلية بمدى قدرة السلطات على ضبط الأوضاع الاجتماعية والأمنية في البلاد وتحوزها على دعم متزايد من النخبة المحلية. 

وهكذا سيكون زمن استغراق المفاوضات التي تم الإعلان عنها ليس محددًا بالمضمون التقني بقدر ما سيكون محددًا بالعوامل الجيوسياسية والسياسية وقدرة حكومة قيس سعيّد على ضبط الأوضاع وتمرير "الإصلاحات" المتماهية مع فلسفة الصندوق. يبقى أن ثمن ذلك الفعلي، خاصة إزاء الاستقرار الاجتماعي، لن يكون مضمونًا، وسنكون إزاء احتمال أزمة اجتماعية جدية إن لم يتم الاتعاظ بدروس تجارب ما بعد الثورة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"