مقال رأي
وأنت على مشارف إحدى المدن الكبرى في تونس أو المدخلين الشمالي والجنوبي للعاصمة، تعترضك لافتات الطريق تشير إلى "مول" الجهة، ومحوّلات السيارات التي أحدثت خصيصًا لتيسّر الدخول إلى "المول". وما إن تصل أمامه حتى ترى العلم بكبر الواجهة، ودورية أمنية قارة أمامه، بعد أن قطعت ربما مئات الكيلومترات دون أن ترى ولو "رتبة" يتيمة، إلا تلك التي تبحث عن توصيلة مجانية على جانبي الطريق والمفترقات. نتذكر هنا قول أب الشيوعية كارل ماركس "الدولة رأسمال يحرسه رجال مسلّحون".
"منذ تصحيحها لمسار التاريخ"، والتعبير للرئيس التونسي قيس سعيّد عند حديثه عن تاريخ 25 جويلية، تتصدّر تونس عناوين الصحف الإقليمية والعالمية بمحورين: الدكتاتورية الناشئة، واحتمال العجز عن سداد الديون، بمعنى الإفلاس.
تتصدّر تونس عناوين الصحف الإقليمية والعالمية بمحورين: الدكتاتورية الناشئة، واحتمال العجز عن سداد الديون
"الرئيس التونسي يدفن الديمقراطية"، هكذا أدرجت الصحيفة الألمانية دار شبيغل في عددها غد يوم "البيعة/الاستفتاء"، يوم 26 جويلية/يوليو 2022، الإعلان الرسمي لوفاة الديمقراطية في تونس، بينما قالت مجلة ليمانيتي الفرنسية في افتتاحيتها ليوم 25 جويلية/يوليو 2022 "تونس تحت التهديد".
وبين هذه العناوين في الداخل والخارج، والتحذيرات المتواصلة والاستنكار من مختلف المنظمات الحقوقية والمهنية لعديد الانتهاكات، على غرار نقابة الصحفيين التونسيين، لا تزال حالة من الإنكار تسود عند أغلبية التونسيين، نافين أن ما نعيشه في تونس منذ أكثر من سنة قد يكون "ديكتاتورية". نظرًيا، قد يصح تسمية ما تعيشه تونس بديكتاتورية ممثلة في أبسط تمظهراتها وهي جمع السلطات بيد واحدة، لكن واقعيًا، لا تظهر هذه الديكتاتورية في اليومي التونسي إلا من خلال بعض الملامح التي بصدد التشكل شيئًا فشيئًا، والتي نستعرضها فيما يلي.
- تعيينات على الطريقة القروسطية: الغنيمة عنوان
من التقاليد الراسخة منذ قدم الممالك حتّى مؤسسات الدول الحديثة، أن التعيينات والمناصب السياسية تدور في فلك السلطة وحاشيتها، حسب درجة الولاء، وهو ما يعرف علميًا بالزبونية clientelism. لكن مع بروز الدولة الفيبرية، ما يعني تطوّر البيروقراطية والنظم الدراسية وتعقّد الوظائف السياسية، درج اعتماد عنصر الكفاءة، إلى جانب الولاء والقرب من السلطة، سعيًا نحو حسن سير أحوال الدولة ورعاياها، وبالتالي محاولة تأبيد السلطة لصاحبها. ثم تطوّرت ميكانيزمات التعيينات مع الموجة الأولى للديموقراطية وتهيكل الأحزاب ضمن الأفكار السياسية الكبرى وظهور مفاهيم المحاسبة، الشفافية والنزاهة، فأصبحت المعادلة هي: الولاء، الكفاءة والانتخاب. أي أن تكون المناصب السياسية، الكبرى على الأقل، من نصيب أفراد منتخبين.
في مؤلفهما "دليل المستبدين"، كتب المنظران الأميركيان "بورس بيونو دي مستيكا وألستير سميث": "تمثلت استراتيجية لويس –الرابع عشر في إحلاله ناسًا يمكن الاعتماد عليهم محل "تآلف الداعمين" الذي كان قد ورثه. وبدلًا من الحرس القديم، أتى إلى الدائرة الداخلية – الحاشية المضيقة- بأعضاء جدد، طبقة من النبلاء الشكليين، بل وأتى إلى الأجهزة الحكومية، وإلى الجيش بخاصة، ببعض من عامة الشعب". (ترجمة فاطمة نصر، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014، ص34).
لم يتأخر سعيّد منذ توليه السلطة عن اتباع دليل المستبدين، فيما يعرف بتطهير الإدارة، فقام في أول 3 أشهر بأكثر من 400 إعفاء، تعيين وترقية في المناصب العليا في الدولة
لم يتأخر قيس سعيّد منذ توليه السلطة عن اتباع دليل المستبدين، فيما يعرف بتطهير الإدارة، فقام في أول ثلاثة أشهر تلت الانقلاب، بأكثر من 400 إعفاء، تعيين وترقية في المناصب العليا في الدولة، حسب ما ورد من أوامر وقرارات صادرة بالرائد الرسمي، عن سعيّد نفسه والمكلفين بتسيير الوزارات قبل تسمية الحكومة أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2021. الملاحظ أن الكثير من هذه التسميات عرفت بانتمائها للحملة التفسيرية ومناصرتها لسعيّد في فضاءات التواصل الاجتماعي بالأخص فيسبوك.
أي أننا بالنهاية، أمام حزب غير معلن في شكل طائفة، secte، تتقاسم السلطة في شكل غنيمة مقابل الولاء لسعيّد ومشروعه المسمّى بالبناء القاعدي. وبهذا، تنتفي كل أشكال تقاسم السلطة في شكلها الحديث، ومعها المحاسبة والمشروعية، لتحل محلّها عقلية غنائمية قروسطية على شاكلة بيع الوظائف والألقاب الملكية أيام حكم آل هابسبورغ في اسبانيا وسائر الممالك الأوروبية في القرون الوسطى.
الملاحظ أن الكثير من تسميات قيس سعيّد عرفت بانتمائها للحملة التفسيرية ومناصرتها لسعيّد في فضاءات التواصل الاجتماعي بالأخص فيسبوك
- احتكار السياسة واغتيال النقاش العام
في أوّل البلاتوهات السياسية بعد أيام من رحيل بن علي، سألت الإعلامية هالة الذوادي أحد ضيوفها الصحفي توفيق بن بريك عمن يراه مؤهلاً من بين السياسيين للعب دور في المرحلة الجديدة بعد الثورة، فأجاب: "وهل هناك من كان يقوم بالسياسة قبل الثورة لأقيّم أداءه وأبني رأيًا؟ لم يكن هناك إلا لاعب سياسي واحد: زين العابدين بن علي. هو الوحيد الذي كان يمارس السياسة، أما الباقون فهم إما تنفيذيون في السلطة أو معارضون في حالة صراع وجودي معها".
منذ أكثر من سنة، انتفت تقريبًا جل البلاتوهات السياسيةوتم غلق البرلمان بالحديد الأخضر وخنق تحركات المعارضة التونسية
منذ أكثر من سنة، انتفت تقريبًا جل البلاتوهات السياسية، وحط الزمان يده على رحى الإعلام المرئي فلم يترك إلا برنامجًا على إحدى القنوات الخاصة المحسوبة على الرئيس، بعد أن تمّ تأميم الإعلام العمومي الذي كان سبّاقًا إلى القن طواعية. وبهذا وبعد غلق البرلمان بالحديد الأخضر وعملية الموت البطيء للشارع السياسي من خلال خنق تحركات المعارضة التونسية.
تمت توليفة احتكار السياسة واغتيال النقاش العام، فصارت القوانين، والاتفاقيات وكل ما يهم الشأن العام، تصدر في مراسيم بالرائد الرسمي، دون أي تشاركية أو نقاش ولو صوري.
صارت القوانين والاتفاقيات وكل ما يهم الشأن العام تصدر في مراسيم بالرائد الرسمي دون أي تشاركية أو نقاش ولو صوري
في الأساطير اليونانية القديمة، وفي العهدين القديم والجديد، يشار باللوثيان،Léviathan، إلى وحش بحري أسطوري عرف برعايته المفرطة لأبنائه حد الخنق، أما إذا غضب على أحد أبنائه، أكله. في صورة رمزية، توحي صورة اللوثيان الأسطورية بالحاكم المستبد من ناحية التسلط والجبروت، والرعاية المفرطة من ناحية المخيال الشعبي لصورة الأب-الحاكم.
في هذه الصورة، وفضلاً عن زواج المصالح بين سعيّد وحاشيته، ومعادلة الولاء مقابل المنصب، فعادة ما يتم التضحية ببعض أعضاء هذه الحاشية عند الشدائد، فيما يسمى بحركة الولاة أو التحويرات الوزارية، لامتصاص الغضب الشعبي والإيحاء بالفعل من جهة، وتشديد المنافسة وتجديد الدماء بين الأنصار والموالين من جهة أخرى، ليبقى اللوثيان ودائرته المضيقة، وفي الحالة التونسية: الدائرة الحديدية من مكونات نارية، هي المسيطر والفاعل السياسي الوحيد.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"