مقال رأي
في زيارة مفاجئة أخيرة لمدينة القيروان، تفقد قيس سعيّد المنشأة المائية القديمة التي تسمى فسقية الأغالبة، حيث قام بإبداء أسفه على الحالة التي أصبحت عليها، مركزًا على الإهمال الذي تتعرض له، ومستغلًا الفرصة لتقريع المسؤولة الجهوية عن الآثار بسبب البطء في ترميمها، ليعلن لاحقًا عن تكليف الهندسة العسكرية بالأشغال اللازمة لإعادة الفسقية لسالف عهدها الزاهر.
تعوّد المواطنون الآن على زيارات الرئيس، وعلى طبيعة الإجراءات التي يعلن عنها، وعلى التقريع الذي يطال كل مرة مسؤولًا في قطاع له ارتباط بموضوع الزيارة. أصبح الأمر تكرارًا للسيناريو نفسه في كل مرة.
تعوّد المواطنون الآن على زيارات الرئيس، وعلى طبيعة الإجراءات التي يعلن عنها، وعلى التقريع الذي يطال كل مرة مسؤولًا في قطاع له ارتباط بموضوع الزيارة. أصبح الأمر تكرارًا للسيناريو نفسه في كل مرة
بالنسبة للمواطن الذي شاهد ما جرى، والذي أصبح يتوقع ما سيقوله الرئيس، منتظرًا فقط معرفة على من سيحل غضبه، فإن الموضوع يصبح في نظره موضوع توفير وحفظ المياه، حيث تزيد حدة الجفاف من سنة إلى أخرى، وحيث يقف الجميع تقريبًا عاجزين عن إيجاد حلول هذه الكارثة البيئية التي تضرب البلاد وكل قطاعاتها منذ سبع سنوات، لكن بالنسبة لمن يملكون بعض الثقافة والمعرفة بقضايا التراث والماء والقيروان والرئيس، فإن الأمر مختلف تمامًا، ولا يشبه أبدًا عملية إصلاح المسبح البلدي بحديقة البلفيدير الذي عاد للعمل واستقبال الحرفاء بعد سنوات طويلة من الإهمال، إثر قرار الرئيس بإحالة الأشغال إلى الهندسة العسكرية. في كل الحالات فإن قضية الماء حاضرة، ولو كان الأمر يتعلق بمياه للسباحة وليس للفلاحة.
يستجيب الرئيس لنوع من الاختصار اللاشعوري لدى الناس، بل يقوم بترسيخه: كل شيء فاسد ما عدا الجيش. لذلك فإذا أردت من مشروع أن يجهز، فعليك أن تكلف به الجيش. لا يهم إن كان الأمر منطلقًا من سوء فهم لماهية الهندسة العسكرية، وإن كانت تونس الدولة الوحيدة في العالم التي تضيف لمهام هذا الاختصاص العناية بإصلاح المسابح البلدية والمنشآت المائية التراثية. في كل الحالات، فقد أنجز إصلاح المسبح بواسطة شركات مدنية، وبأموال من بنوك خاصة تبرعت بها للدولة اتقاءً لأشياء لا تحمد عقباها. في مثال فسقية القيروان، فإن الأمور لن تكون مختلفة بتاتًا.
يستجيب الرئيس لنوع من الاختصار اللا شعوري لدى الناس، بل يقوم بترسيخه: كل شيء فاسد ما عدا الجيش. لذلك فإذا أردت من مشروع أن يجهز، فعليك أن تكلف به الجيش
تقع فسقية القيروان ضمن مساحة المدينة العتيقة وملحقاتها المعمارية التي تضم السور وما يقع داخله من تراث مادي، وعدد من المنشآت التاريخية خارجه، بما فيها الفسقية. وبفعل فرادتها التراثية، فإن القيروان مرسمة منذ عام 1988 في قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو، ما يعني شيئين: أنه ليس بالإمكان القيام بأي ترميم اعتباطي لا يراعي الخصوصية التراثية للموقع، وأن معظم نفقات الترميم والصيانة تتم في الغالب من خارج الميزانية التونسية وعن طريق اليونسكو، حيث لا تكاد ميزانية وزارة الثقافة تكفي لتسديد الأجور وبعض المسائل اللوجستية الضرورية.
الحقيقة أن فسقية الأغالبة لم تعد مجرد منشأة مائية تتجمع فيها مياه الأمطار من أجل توفير ضروريات المدينة. كانت الفسقية تقوم بهذا الدور في زمن الأغالبة قبل حوالي الألف وأربعمائة عام، حيث كان عدد سكان المدينة قليلًا، وحيث لم تكن الأحياء التي نشأت لاحقًا تقف حاجزًا دون وصول مياه السيلان للمنشأة، وحيث لم تكن هناك سدود كما نعرفها اليوم، وربط للبيوت بشبكة للري تجلب المياه للناس منها ومن الآبار العميقة.
القيروان مرسمة منذ عام 1988 في قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو ما يعني شيئين: أنه ليس بالإمكان القيام بأي ترميم اعتباطي لا يراعي الخصوصية التراثية للموقع، وأن معظم نفقات الترميم والصيانة تتم في الغالب من خارج الميزانية التونسية وعن طريق اليونسكو
اليوم، لا تكفي الستون ألف متر مكعب التي بوسع المنشأة تخزينها في أقصى إمكانياتها لتوفير مياه شرب لمدينة القيروان لأكثر من يومين، هذا إذا امتلأت، لكنه لم يعد بوسعها أن تمتلئ.
يجعل ذلك من المنشأة تراثية، غير تابعة لوزارة الفلاحة وإدارة الموارد المائية، وإنما لوزارة الثقافة والمعهد الوطني للتراث. والحالة تلك، فإن معاملتها كمنشأة تخزين للمياه قد تساعد على التخفيف من حدة الجفاف لا يدل سوى على خلط فادح بين الماضي والحاضر، بين زمن الأغالبة والزمن الحالي، بين حاجيات الناس آنذاك واليوم، وخاصة بين المنطق والشعبوية. هذا ما تفعله ببساطة الشعبوية: استغلال جهل الناس وترسيخه، ثم إبقاؤهم عطشى.
لا يهم في المقابل أن يقرع الزعيم مؤرخة باحثة كلفت بإدارة مشروع صيانة المنشأة حسب المنهج العلمي المتعارف عليه عالميًا في ترميم الآثار. يفرض هذا المنهج قبل أي ترميم دراسة مكونات المنشأة والمواد التي استعملت في بنائها، وإذا تعلق الأمر بمنشأة من هذا النوع، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا وتطلبًا لمهارات إضافية. أمّا إذا كان الترميم يتم عن طريق منحة دولية، فإن الآجال تتمطط، والأقساط تدفع تباعًا بعد ضمان احترام أصول الترميم التراثي، فيستغرق الأمر بذلك سنوات عوضًا عن الأسابيع التي قد يستغرقها إصلاح مسبح بلدي.
ما الذي سيفعله ضباط الهندسة العسكرية في فسقية الأغالبة بالقيروان؟ لا يتعلق الأمر بثكنة سيطلب منهم ترميمها، ولا بجسر سيبنى على عجل ولا بتحصينات على الحدود، كما لا توظف الهندسة العسكرية مختصين في التراث بالمقاييس العلمية الدولية
يبقى أحد الأسئلة هو ما الذي سيفعله ضباط الهندسة العسكرية في فسقية الأغالبة بالقيروان؟ لا يتعلق الأمر بثكنة سيطلب منهم ترميمها، ولا بجسر سيبنى على عجل لتيسير نقل القوات، ولا بتحصينات على الحدود. لا توظف الهندسة العسكرية مختصين في التراث وترميم المنشآت الأثرية بالمقاييس العلمية الدولية، ولا يمكن لوزارة الدفاع أن تتكفل بخلاص الأشغال، وأكثر من ذلك فإن الفسقية لن تمتلئ أبدًا لأن المدينة قد سدت بنموها مسالك سيلان مياه الأمطار التي يفترض أن تصل إليها.
الحقيقة أنّ مثل هذه الأسئلة تنطلق من المنطق السليم والبسيط. لكنّ هذا المنطق في الوقت نفسه سليم لدرجة أننا لا نستطيع تحميل الشعبويين أعباء فهمه. يقتضي هذا المنطق السليم أنّ أي عمليات ترميم اعتباطية ستشوه وجوبًا المعلم، وستؤثر على تصنيفه كجزء من التراث العالمي، بما يعني إخراجه من المسلك السياحي للمدينة. بذلك، فإنّ أيّ زوار سيأتون للقيروان سيشاهدون شيئًا لم يبنِه الأغالبة، وإنما الهندسة العسكرية التونسية في القرن الواحد والعشرين.
صرنا إزاء غزوة شعبوية جديدة ضد المعرفة والمنطق والمصلحة العامة يهان في خضمها المختصون ويوحى فيها بأن الزعيم في كل مكان ويهتم بكل شيء ويقوم بمفرده بكل المهام، ويستدعى الجيش في الأثناء كبديل عن جمود الإدارة المرتعبة من تهم الفساد
لكننا أصبحنا نعرف اليوم من خلال التجربة البسيطة أنّ شيئًا من ذلك لن يتم، لأن الهدف أقل بكثير من ترميم التراث أو من توفير المياه في زمن القحط. الأمر ببساطة لا يتجاوز غزوة شعبوية جديدة ضد المعرفة وضد المنطق وضد المصلحة العامة يهان في خضمها المختصون ويوحى فيها بأن الزعيم في كل مكان ويهتم بكل شيء ويقوم بمفرده بكل المهام. يستدعى الجيش في الأثناء كبديل عن جمود الإدارة المرتعبة من تهم الفساد، وترفع رمزيته مرة أخرى، في حرب جديدة أخرى. هذا كل ما في الأمر.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"