16-يوليو-2022
 الديمقراطية الاجتماعية

مقال رأي

 

نالني منذ أسابيع شرف الحضور مع بعض الرفاق حفل إصدار كُتيب "البيان الديمقراطي الاجتماعي" كأول وثيقة مرجعية حول الحركة الديمقراطية الاجتماعية في تونس والمتضمن لأهم المبادئ والأسس الخاصة بهذا النهج السياسي حيث يتطرق إلى محاور تهم الديمقراطية والحقوق والحريات وكذلك العلاقات الدولية وطبعًا الاقتصاد والمسألة الاجتماعية.

بادرة شجاعة وبيان متميز أراده شباب أكاديمية قادة المستقبل والجيل الاشتراكي الديمقراطي بتأطير من أساتذة ومختصين في العلوم السياسية، إطارًا مرجعيًا للديمقراطية الاجتماعية يجمع الأسس النظرية لهذا التيار الفكري الأصيل في الساحة السياسية التونسية.

هذا الحفل الختامي كان فرصة مهمة للقاء شباب جيل ديمقراطي متميّز من خارج الأحزاب ومن تجارب متعددة ضمن الفضاء المدني والسياسي وكان أيضًا إطارًا رحبًا لاستئناف نقاشاتنا الشيقة مع رفاق رحلة خصوصًا من خضنا معًا تجربة حزبية مهمة اشتغلنا صلبها على تأسيس أكاديمية سياسية اهتمت بإشاعة القيم الديمقراطية الاجتماعية ومحاولة توفير فهمٍ أعمق وأدق بها ودعم سياق ومفهوم هذه المرجعية صلب أحد أهم الأحزاب المنتسبة للعائلة الديمقراطية الاجتماعية، فكنا دائمًا ما نطرح أسئلة كبرى حول أفاق ومستقبل هذه العائلة المشتتة في زمن تكررت فيه المحاولات الجسيمة لسرقة الهوية والميراث.

من الجيد جدًا أن يرغب الجميع في أن يكون ديمقراطيًا اجتماعيًا، لكن الدخول حاملين لأفكار دخيلة مشوّشة أو الانتساب لغاية رفع يافطة تسويقية ولانتزاع شرعية التموّقع من قبل بعض الأفراد والأحزاب والمتسلقين جعل الأمر في مكمن الخطورة في غياب منهج عام للديمقراطية الاجتماعية في تونس.

 

 

كنت دائمًا ما أقاسم عددًا من الرفاق هواجس كثيرة وأحلامًا كبرى فأفكارنا ومعارفنا كانت في حالة سجال لا ينتهي أستفيد عند نهايته برصانة المنطق ووضوح الرؤية ومتانة التحليل فاتحًا آفاقًا جديدة انطلاقًا من بعض الأسئلة الجوهرية: هل يمكن الحديث فعلاً عن ديمقراطية اجتماعية بسياقات تونسية خصوصًا مع عدم قدرة الكيانات التقليدية المناضلة إلى حدود الساعة على إطلاق الإصلاح التنظيمي السياسي والابتكار البرنامجي والاستراتيجي؟ وهل تملك هذه الديمقراطية الاجتماعية التونسية الإجابات الصحيحة على الأسئلة الراهنة؟ وهل فعلاً هناك حاجة اليوم إلى الديمقراطية الاجتماعية؟

هل يمكن الحديث فعلاً عن ديمقراطية اجتماعية بسياقات تونسية خصوصًا مع عدم قدرة الكيانات التقليدية المناضلة إلى حدود الساعة على إطلاق الإصلاح التنظيمي السياسي والابتكار البرنامجي والاستراتيجي؟

كنت أحاول مع كل نقاش معهم ومع الكثير من الرفاق والأحبة في المنتدى الاجتماعي الديمقراطي أو قيادات الأحزاب جمع أفكاري وترتيبها والتفكير خارج الصندوق لعل وعسى تبلغ أفكاري وسرديتي ذروتها ضمن نقاش أكبر  لإحياء التفكير السياسي وتعبئة اللغة الأخلاقية للدفاع على الديمقراطية الاجتماعية، فضمنتها في هذا النص المتواضع الذي أدعو جميع الرفاق إلى الاختلاف معه وحوله والمناقشة والتفكير أكثر وأكثر، لأننا كمنتسبين لجموع الديمقراطيين الاجتماعيين يجب أن نكون شجعانًا -شجعانًا حقًا -لمواجهة الكسل وتعطل آلة التفكير في أحسن الأحوال أو الانقراض في أسوئها.

سينطلق هذا المقال من منهج واضح أن الديمقراطية الاجتماعية هي مرادف للاشتراكية الديمقراطية.

  • الهوية والميراث

ليس بالإمكان التفكير في تاريخ الحركة الاشتراكية الديمقراطية المُكنات اليوم الديمقراطية الاجتماعية بدون التطرق لظهور الاشتراكية كمفهوم وفكرة سياسية في القرن التاسع عشر، في السياقات الكبرى للتصنيع الرأسمالي والاضطرابات التي أحدثها وفي ضوء الفقر الجماعي وردّة فعل جموع البروليتاريا، حين وقف العمال على المتاريس وطالبوا بالحقوق الاجتماعية والمدنية منتظمين في كيانات نقابية وحزبية قوية -صمم منظّروها - بقيادة كارل ماركس وفريدريك إنجلز وغيرهم من الروّاد أول شهادة لتحليل طبقي تاريخي وأطلقوا عنان التفكير في بديل ونظام مساواة متحرر  من الاستغلال الاقتصادي وقائم على التنشئة الاجتماعية والملكية لوسائل الإنتاج.

لكن بإعلان إدوارد برنشتاين أب الديمقراطية الاجتماعية فلسفته التحريفية/ الإصلاحية: "بأن الرأسمالية قابلة للتكيّف، وانهيارها ليس حتميًا ومن الأفضل الاندماج في النظام وإصلاح المجتمع من الداخل" انطلق أعنف نقاش داخلي حول الأسس النظرية والمسار السياسي للاشتراكية الديمقراطية مع كارل كاوتسكي وروزا لوكسمبورغ وآخرين.

لتحل عشرينيات القرن الماضي على انفصال تيارين - الاشتراكية والشيوعية - حين رٌسمت خطوط التقسيم، إما الثورة أو الإصلاح وكانت الاختلافات الرئيسة الاعتقاد في تفوق الإصلاح السياسي لإنشاء دولة ديمقراطية والتغلب على النظام القمعي في حين أراد الجانب الثوري قلب علاقات الملكية عبر الثورة العنيفة وتكوين أسس دولة جديدة من أجل تحقيق مجتمع جديد.

أصبحت المجتمعات الغربية أكثر مساواة بسبب جهود الاشتراكيين والحركة العمالية وغيرهم ممن روعتهم وحشية الرأسمالية غير المقيدة

لقد بحث الإصلاحيون تطوير المجتمع وتأسيسه عن طريق الدفاع عن الإصلاحات السياسية الديمقراطية والدفاع عن الحق النقابي والطبقة العاملة لتحقيق مجتمع أفضل، جادلوا بأنه من الممكن والمرغوب فيه على حد سواء الاستفادة من بعض مكاسب الرأسمالية أثناء معالجة سلبياتها وآثارها العنيفة لإنتاج توليفة بديلة مقارنة بها.

أصبحت المجتمعات الغربية أكثر مساواة بسبب جهود الاشتراكيين والحركة العمالية وغيرهم ممن روعتهم وحشية الرأسمالية غير المقيدة وكان الإنجاز الأكبر لهذه الجهود أن أصبح "الحزب الطبقي" "حزبًا شعبيًا"  يجذب أولئك الذين يريدون الإجابة على أسئلة الراهنة على أساس القيم الديمقراطية الاجتماعية الأساسية للحرية والعدالة والتضامن فأنشئت أنظمة ديمقراطية اجتماعية بعد الحرب العالمية في جميع أنحاء أوروبا الغربية وترعرع جيل جديد في الحضن الدافئ لدولة الرفاهية.

وكانت النتيجة أنجح حركة سياسية في القرن العشرين، حركة شكلت الإطار السياسي الاقتصادي الأساسي الذي ما زلنا نعيش في ظله.

 

 

  • هل تعيش الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية أزمة؟

لا يمكن أن نخفي أن الديمقراطية الاجتماعية تعيش منذ سنوات أزمة مشابهة في كل بلد تقريبًا رغم  جميع المحاولات للإنقاذ من التدهور  حتى وإن عاد الأمل بالصحوة الانتخابية الأخيرة في أجزاء من أوروبا وأستراليا وأمريكا اللاتينية، لكن عمومًا ما زالت تبحث عن الخلاص لكتابة مستقبل أفضل بعد الانتكاسة لسنوات.

لا يمكن أن نخفي أن الديمقراطية الاجتماعية تعيش منذ سنوات أزمة مشابهة في كل بلد تقريبًا رغم  جميع المحاولات للإنقاذ من التدهور 

قد يكون الأمر مختلف تاريخيًا في بلد مثل تونس حيث عاشت أحزابه الديمقراطية الاجتماعية طيلة عقود في ظل نظام استبدادي استطاعت أن تتصدر معارضته للدفاع على المطلب الديمقراطي والحقوقي وكانت قيادات هذه العائلة في طليعة المدافعين على حياة سياسية تعددية، وهي التي نهلت من نفس المراجع والتجارب هناك حيث الشمال وتأثرت بنجاحتهم ونكساتهم ومساراتهم.

اليوم وبعد تجربة تقدر  بعشرية من سنوات الانتقال الديمقراطي بٌعيد ثورة 2011 وفي تقييم سريع لأدوارهم في السلطة أو المعارضة بإيجابياتها وسلبياتها نستطيع القول إنها ظلت وفية للوعد الديمقراطي متخذة موقفاً معارضاً للدكتاتوريّة والاستبداد بالإضافة إلى الالتزام بمبادئ البرغماتية والواقعية واضعة نصب العين تحقيق مجتمع ديمقراطي إلا أن ما يُعاب حقيقة اتسام حصيلتهم بضمور السردية الاقتصادية والاجتماعية وغموض رؤى الحكم والإصلاح لديهم.

بل نكاد نجزم أن أحزاب العائلة تعاني من تدهور  فريد من أجل البقاء، مُوجب لإعادة استكشاف أنفسهم حيث يبدو أن بعض نخب هذه الأحزاب ما زالت تبحث عن الخلاص في وصفات قديمة.

بعض نخب الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية ما زالت تبحث عن الخلاص في وصفات قديمة

بالطبع هناك اختلافات كبيرة في الثقافات السياسية والسياقات الوطنية المعنية لكن هناك شيء واحد واضح: الديمقراطيون الاجتماعيون يكافحون مع مشاكل ضخمة في كل مكان، وغالبًا ما يشبهون بعضهم البعض ويمكن تلخيص السرد المشترك لانحدار هذه الأحزاب على نحو ما تشهده من تضاؤل هائل للناخبين لأن الطبقة الوسطى والقوى العاملة، التي كانت ذات يوم الداعم الرئيس، ابتعدت عنها ووجدت موطنًا جديدًا في أقصى اليمين وعنند الشعبويين.

بل هناك أطروحة مفادها أن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية واليسارية عمومًا لم تعد تهتم بمسائل عدم المساواة الاجتماعية، بل ركزت بدلاً من ذلك على مسائل الثقافة التقدمية والمساواة العرقية والجنسية والحريات الفردية والهجرة..

ليس كل شيء خاطئ في هذه الأطروحة لكن سيكون من الخطير  أن يتم تركيز  الجهود على المسألة الثقافية دون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بل يجب جمع كلا العنصرين الأساسيين - التقدمية والعدالة الاجتماعية ،خصوصًا ونحن نعيش في عالم من الانغماس المادي مع مستوى من عدم المساواة الاقتصادية فالفقراء يزدادون فقرًا، والأغنياء يزدادون ثراء، لكن اللامساواة الاجتماعية اليوم بالكاد تلعب دورًا في النقاش السياسي على الرغم من أن الأحزاب اليسارية على وجه الخصوص ملتزمة بشكل موثوق بالعدالة الاجتماعية، إلا أن النقاش لا يكاد يتجاوز الكلمات الفضفاضة التي تبين عمق الجهل بالقضايا الاقتصادية، فهي ترغب في تحقيق العدالة الاجتماعية ، لكنها عجزت منذ فترة طويلة على بلورة  السياسات الاقتصادية التي يجب استخدامها لتنفيذ ذلك ...

الطبقة الوسطى والقوى العاملة، التي كانت ذات يوم الداعم الرئيس للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، ابتعدت عنها ووجدت موطنًا جديدًا في أقصى اليمين وعند الشعبويين

لذا يبدو جليا عندما يفقد الناس الأمل ويواجهون آثار كارثية وغير متكافئة، وتسقط ثقتهم بالدولة وبقدرتها على تحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية المنصفة في ضوء السياسات "النيوليبرالية"، فإن الغضب يصل مداه ويشعرون بعدم الأمان وتكون مواقفهم أكثر  راديكالية ويكونون عرضة للديماغوجيين والشعبويين الذين يعدون كذبا بالاستقرار ،  هكذا انتهى بنا المطاف في أحضان شعبوية قيس سعيد ونحن قاب قوسيين من بدايات نظام فاشي تونسي صميم.

 

 

  • القصة لم تنته بعد

لقد وضعت الأزمة الصحية المالية والاقتصادية مرة أخرى مخاطر الرأسمالية في مقدمة وعينا الجماعي وكان لابد من الاتعاظ من الماضي حين تم بيع الأكاذيب من قبل الاقتصاديين النيوليبراليين، الذين أساؤوا قراءة التاريخ ونجحوا في تسويق النهج الرأسمالي الجديد وفي ضرب المشروع الديمقراطي الاجتماعي عبر أطروحات فريدريش هايك وميلتون فريدمان وسياسات مارغريت تاتشر ورونالد ريغان وغيرهم.

لذلك لم يكن التحول النيوليبرالي للديمقراطية الاجتماعية مجرد خطأ سياسي من قبل توني بلير وجيرهارد شرودر ، خطأ يمكن تصحيحه بسهولة بل كان نتيجة لإدراك صانعي القرار أن المواقف الديمقراطية الاجتماعية التقليدية لم يعد من الممكن الدفاع عنها في ظل الراهن الاقتصادي والسياسي وهو ما انعكس في سياسات أغلب الأحزاب في العالم وفي برامجهم وتحالفاتهم فالقصة كانت مألوفة: مزيج سام من الثقة المفرطة في الأسواق، والتركيز المفرط على الفردانية والكثير من الشك في الدولة وأدوارها.

كان على اليسار الديمقراطي ألا يستسلم للمعتقدات النيوليبرالية ويكون مجددًا في أطروحاته دون إنكار للقيم الأصلية أو نسيان النضالات التأسيسية وأن يكون أكثر تحفظًا في الدفاع على قيم ديمقراطية الرفاه الاجتماعية وأن يتذكر أن اللامساواة داخل الديمقراطيات هي أسباب الكثير من الاضطرابات الاجتماعية.

إن الرهان اليوم استرداد الوعد المركزي للديمقراطية الاجتماعية" "أي ترويض الرأسمالية" وخلق اقتصادات سوق اجتماعية موجهة نحو التضامن

إن الرهان اليوم استرداد الوعد المركزي للديمقراطية الاجتماعية" "أي ترويض الرأسمالية" وخلق اقتصادات سوق اجتماعية موجهة نحو التضامن، فلطالما بشّر الديمقراطيون الاجتماعيون بوجوب إدارة الاقتصاد والمجتمع بطريقة ديمقراطية لتلبية الاحتياجات العامة، وليس لتحقيق أرباح عدد قليل من الشركات ورجال الأعمال، بل لتحقيق مجتمع ديمقراطي وأكثر عدلاً.

ما نحتاجه كبديل هو دولة قوية تكبح الآثار السلبية للسوق وتحمي انتفاع المواطن بالسلع الأساسية والخدمات العمومية والسكن والصحة والنقل والتعليم..، دولة يمكن أن تلعب دورًا معززًا في إدارة شؤوننا دون أن تهدد حرياتنا مع أكبر قدر من الإيمان بإمكانية استخدام هياكلها ومؤسساتها بشكل بناء للتوفيق بين مطالب النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ودوام الاستدامة البيئية.

  • ماذا نحتاج؟

لم نكن بحاجة إلى الديمقراطية الاجتماعية أكثر من الآن، في عالم يتزايد فيه الشعور بعدم الأمان خصوصًا في تونس التي تعيش أزمة سياسية اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، لكن المفارقة أنه لا يتطلب الأمر أي جهد خاص لرؤية أن جموع الديمقراطيين الاجتماعيين التونسيين، كأحزاب وأفراد، في أزمة عميقة.

لم نكن بحاجة إلى الديمقراطية الاجتماعية أكثر من الآن، في عالم يتزايد فيه الشعور بعدم الأمان خصوصًا في تونس التي تعيش أزمة سياسية اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة

لن أتوقف عن كوني ديمقراطياً اجتماعيًا لمجرد أن أحزاب العائلة المشتتة تسيئ التقدير فهي لم تفهم بعد أنها بحاجة إلى تطوير  وتجديد رؤيتها وأطروحاتها وتوحيد صفوفها لمقاومة ديكتاتورية ناشئة تحمل مشروعًا رجعيًا يمينيًا مدمّرًا. سأرفع الصوت عاليًا لإيماني أن الديمقراطية بالنسبة للمنتسبين الفعليين لهذه العائلة ليست البتة مسألة نفعية، بل مسألة أخلاقية والمستقبل لن يتحكم فيه أولئك الذين يتمسكون بالماضي.

  • نقطة البداية التي يجب الإصداح بها عاليًا على مسامع  رواد العائلة، أن يدركوا وقع خساراتهم الماضية ويتعلموا من كل الدروس، بل أصبح من الضروري الآن أن نجرؤ على القيام بتحليل نقدي وأن نناقش أخطاء السنوات الماضية بدون محرمات، فمن الملح اليوم إطلاق عملية نقد ذاتي نتحمل فيها كل الشجاعة لإزاحة الستار عن عيوب وثغرات في أدائنا وتبيان النقائص والتقصير في مشروعنا الديمقراطي الاجتماعي خصوصًا المرور على نتائج الانتخابات التشريعية/ الرئاسية وتجارب الحكم الائتلافية القصيرة وأدوارنا المعارضة وطبعًا لحظة 25 جويلية 2021 المفصلية إلى جانب الوقوف طويلاً واستيعاب حالة العطب التنظيمي الذي حال دون البناء الحقيقي المشترك.

كما يجب إدراك الانعكاسات أو المفارقات العجيبة: فالكثير من منتسبي هذه الفكر يتواجدون خارج الأطر والتنظيمات التقليدية والكثير الكثير من منخرطي بعض الكيانات الحزبية لا علاقة تجمعهم بالأسس الفكرية والسياسية وخاصة الإيمان بالمسألة الديمقراطية أولا وأبدًا ... فلا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.

يحتاج الديمقراطيون الاجتماعيون إلى إظهار أنهم مستعدون وقادرون على المضي قدمًا أمام دكتاتور نهم للسلطة قادم على مهل والجمع بين الوقوف صدًا منيعًا له وطرح بدائلهم الإصلاحية للإنقاذ

  • ثانيًا يحتاج الديمقراطيون الاجتماعيون إلى إظهار أنهم مستعدون وقادرون على المضي قدمًا، لاغتنام الفرصة وخوض معركة الديمقراطية والعدالة أمام دكتاتور نهم للسلطة قادم على مهل والجمع بين الوقوف صدًا منيعًا له وطرح بدائلهم الإصلاحية للإنقاذ المالي والانعاش الاقتصادي والإدماج الاجتماعي.

فالفكرة الأساسية إعطاء صورة موثوقة وتوجيهًا واضحًا لمستقبل مفعم بالأمل يهدف دائمًا إلى تحسين ظروف المعيشة والتغيير بطريقة اجتماعية وتقدمية، فنحن نؤمن أن أفضل الأوقات لم تأت بعد والشرط الذي لا غنى عنه هو أن اليسار الديمقراطي في تونس، سواء ضمن التشكيلات السياسية الحزبية أو في الحركات الاجتماعية والبيئية -  يفضل أن يكونا معًا - يمكن أن يتنظم  ويصبح مهيمنًا حتى لا يظل مفهوم المقاومة مرتبطًا بحراك الشعبويين  والإصلاح ملوثًا بشكل دائم بسرديات النيوليبراليين.

لذا يبدو من الجدير إعلان حالة الانطلاق لتأسيس جديد يوحّد أبناء هذه العائلة، يمر عبر إجراء نقاش واسع وشامل، فالوقت مناسب تمامًا لمناقشة مستقبل الديمقراطية الاجتماعية في تونس.

  • ثالثا يبدو أن مواصلة الديمقراطيين الاجتماعيين الإسهال في إجاباتهم الفورية على الأسئلة الكبرى في بلدنا هو شيء معيبٌ ينّم على الفشل الذريع، خصوصًا ما عهدناه من إجابات سطحية مكررة سواء في وسائل الإعلام أو حين كتابة عشرات الصفحات التي تطغى عليها المواعظ الفضفاضة والرومانسيات والأماني المضخمة، دون "جدول زمني"  أو "أرقام" أو"متطلبات" تقدم قٌبيل الانتخابات أو تٌطلب على عجل أثناء المفاوضات الائتلافية.

فإذا أراد الديمقراطيون الاجتماعيون استعادة مكانتهم، فيفترض منهم الكثير من التواضع ويجب أن يكونوا قادرين على تسمية المشكلة وتحليلها بعيدًا عن "صياغة العبارات الفارغة" إن كانوا راغبين فعلا ًفي حلها.

إذا أراد الديمقراطيون الاجتماعيون استعادة مكانتهم، فيفترض منهم الكثير من التواضع ويجب أن يكونوا قادرين على تسمية المشكلة وتحليلها بعيدًا عن "العبارات الفارغة"

  • رابعًا المعطى الحاسم للتغيير كان ولا يزال مسألة القيادة السياسية والكفاءة الاقتصادية فالقوة الاقتصادية تعني بالضرورة القوة السياسية وطالما أن قرارات الشركات الكبرى واتحاد الأعراف و اديكاليي السوق تستند حصرًا إلى الربح المنشود بدلاً من المصلحة العامة، أمكن ابتزاز السياسة وتقويض الديمقراطية لتصبح مجرد صراع بين جماعات المصالح وهو واقع الحال في تونس.

لن أخفي سرًا أن أحزابنا غير مهتمة بقضايا السياسة الاقتصادية وتقوم فقط بتقييم العمليات الاقتصادية من وجهة نظر أخلاقية، لذلك فإن الغالبية العظمى من أعضاء وقيادات هذه الأحزاب لا يحمل هوية اقتصادية وهذا النقص في الاهتمام بالمسائل الاقتصادية المعقدة هو أصعب عقبة أمام تجديد سياسات الديمقراطيين الاجتماعيين.

فهناك الكثير لفعله انطلاقًا من مرجعيتنا الاقتصادية التي تنحاز أكثر نحو فكرة الرأسمالية المنضبطة من خلال اقتصاد سوق موجه بكل وعي، وعلى وجه الخصوص موجه تضامنيًا عبر قرارات سياسية اقتصادية واجتماعية يتم اتخاذها تشاركيًا مع جميع الأطراف المتداخلة وتقاس فعاليتها ليس فقط عن طريق جداول البيانات ولكن من خلال النتائج الاجتماعية.

فالدولة، ورغم ما طال أدوارها من تغيرات جراء أحكـام العولمة وزحف قوانين “الاقتصاد الحر”، فإنها لازالت في نظرنا هي المفتاح والعمود الفقري في السياسة التنموية وفي موازنة وتصحيح اللاعقلانية والعواقب المدمرة لاقتصادات السوق الحرة، كما أننا بكامل الاعتقاد أن الاقتصاد سيراوح مكانه بدون شجاعة ومثابرة أصحاب الأعمال والحرفيين وباعثي الشركات الصغرى والمتوسطة وصغار الفلاحين والعاملات والعاملين لحسابهم الخاص لذلك لابد من دعم المبادرة والاستثمار  عبر إنصافهم ومساعدتهم قولا وفعلا من أجل التحرر من النظام الرأسمالي الاحتكاري ومن إملاءات البنوك.

المعطى الحاسم للتغيير كان ولا يزال مسألة القيادة السياسية والكفاءة الاقتصادية فالقوة الاقتصادية تعني بالضرورة القوة السياسية

ومن هذا المنطلق يجب أن يكون العاجل ضمن أجندا المخبر الاقتصادي للديمقراطيين الاجتماعيين التفكير في السياسة الاقتصادية كورشة إصلاح حقيقية مفتوحة تهدف إلى بلورة خطة متكاملة لمتطلبات ودعائم إرساء اقتصاد وطني منتج ذو قيمة مضافة عالية مشروط بالمسؤولية الاجتماعية.

يفتح مجال الاستثمار والنمو الاقتصادي والانتعاش ويهدف إلى تحقيق السيادة (الغذائية، الطاقية، التكنولوجية ..) انطلاقًا من إسهامات القطاع العام والخاص وتشجيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والتعاوني في أفق خلق رفاه مشترك ودامج ومستدام ومنصف لجميع جهاته ويضمن تكافؤ الفرص وينهض بتنمية الفرد ويعزز قدراته في ظل مجتمع متضامن.

 

 

  • خامسًا لا يمكن تصور العدالة الاجتماعية إلا إذا تم التفكير في الاقتصاد والبيئة معًا، بل يجب على علينا تعريف المفاهيم الأساسية مثل العدالة الاجتماعية والعمل والازدهار والتنمية والنمو من منظور بيئي.

فلن تنجح الديمقراطية الاجتماعية التونسية في تجديد نفسها إلا إذا أخذت في الاعتبار بشكل حقيقي الحاجة إلى تدبر انعكاسات التغيير المناخي والبيئي والتلوث البحري والعجز أمام مأزق النفايات، بل بات من الضروري أن تضع المسألة البيئية في صميم اهتماماتها وزيادة وعي الجميع بهذه القضايا، فما يجب استهدافه هو تجديد السياسات ودفع التقدم العلمي والتكنولوجي من أجل اقتصاد أخضر  وترك عالم أفضل للأجيال القادمة.

جعل إصلاح التعليم العمومي جوهر الإصلاحات الديمقراطية الاجتماعية ضمانًا لتحقيق جودة التعلّم بما ينعكس ذلك بالتبعية إيجابًا في كل مناحي التقدم والتطور

  • سادسًا جعل إصلاح التعليم العمومي جوهر الإصلاحات الديمقراطية الاجتماعية ضمانًا لتحقيق جودة التعلّم بما ينعكس ذلك بالتبعية إيجابًا في كل مناحي التقدم والتطور ولنلمسها واضحة جلية في الازدهار الاقتصادي والعلمي والسياسي والثقافي ، وأن يكون انطلاقة نحو مجتمع متحرر من الحواجز  والتمييز  ومحاربة البطالة والهشاشة والفقر والتهميش والإقصاء.
  • سابعًا نريد لسيادة العدل ودولة الرفاه أن تشكل فلسفة دولتنا بل يجب أن نسعى جاهدين من أجل توزيع جديد وعادل للثروة وأن يكون لكل مواطن قدرة التأثير في عمليات صنع القرار الديمقراطي تحقيقًا لهذه الغاية.
  • ثامنًا أود أن أقتبس من الخطاب الأخير للعظيم ويلي براندت أمام كونغرس الاشتراكية الدولية في سنة 1992 : "لا شيء يأتي من تلقاء نفسه، فكروا دائمًا أن تراهنوا على قوتكم واستيعاب حقيقة أن لكل زمن إجاباته الخاصة إذا أردتم تحقيق النتائج الجيدة"، بهذا وصل ويلي براندت إلى ديناميكية الديمقراطية الاجتماعية عبر تاريخها: تقييم التحديات والأزمات ثم استخلاص النتائج منها بما يجعل المستقبل أفضل ولنا عبرة في ما قوله وتجربته.

أخيرًا وليس آخرًا، أنا شديد الإيمان بالقوة الإبداعية للشباب الديمقراطي الاجتماعي، رموز العائلة وكفاءاتها على الابتكار وتشكيل مستقبل أفضل خصوصًا بقوة قناعاتنا الديمقراطية الاجتماعية التي لن تكون بأي حال من الأحوال زائدة عن الحاجة بل قوة مدافعة من أجل نموذج ديمقراطي تحرري وعادل اجتماعيًا، ومتضامن ضد مقاومة عصابات النيوليبرالية صلب المجتمع والاقتصاد.

وسأبقى لأكرر  على مسامع رفاقي دائمًا: إذا أردنا استبدال الخوف بالثقة، فنحن بحاجة وإلى قصة مختلفة نرويها، عن الدولة والمجتمع على حد سواء، نحن بحاجة لإحياء التفكير السياسي وتعبئة السرد المتكامل للدفاع عن الديمقراطية الاجتماعية من أجل خلق احترام جديد للصالح العام وإعادة السياسة إلى كرامتها الأخلاقية وإنقاذ الديمقراطية المعطوبة قبل أن تلفظ أنفاسها أمام دكتاتور  الشعبوية. هذا ليس كافيًا، لكن سيكون من الحماقة عدم تفكيرنا في ذلك.
 
 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

  • المراجع

-        The Primacy of Politics: Social Democracy and the Making of Europe's Twentieth Century  شيري بيرمان أستاذة مشاركة في العلوم السياسية في كلية بارنارد بجامعة كولومبيا.مطبعة جامعة كامبريدج ، 2006
-       https://socialeurope.eu/social-democracy    
-       https://www.bpb.de/themen/parteien/parteien-in-deutschland/spd/42082/etappen-der-parteigeschichte-der-spd/#page-Martin%20Mertens:%20Die%20Geschichte%20der%20SPD
-       https://www.sciencedirect.com/topics/social-sciences/social-democracy
-       https://www.nybooks.com/articles/2009/12/17/what-is-living-and-what-is-dead-in-social-democrac/
-       https://www.sasapost.com/opinion/tunisian-social-democracy-reference/
-       https://cutt.ly/RLAB38E
-       https://www.willy-brandt-biography.com/historical-sources/significant-speeches/greeting-congress-socialist-international-in-berlin-1992/