مقال رأي
في إحدى المحطات التلفزية الفرنسية، دار جدال حاد بين المفكّر الفرنسي ميشال أونفراي والكاتب يان مواكس، إذ طالب الأخير بتعريف للشعب؟ ماهو هذا الشعب الذي طالما يستحضره ميشال أونفراي في كل أطروحاته؟ ومن هذا الشعب الذي يتحدّث الجميع باسمه؟ باختصار أجاب أونفراي أنّ الشعب هو "مجموعة الأفراد الذين تمارَس السلطة عليهم"، وأضاف مخاطبًا مواكس: "وأنت لست فردًا من هذه المجموعة لأنك تمارس سلطة المكان الذي تجلس فيه"، أي سلطة الميكروفون وما وراءها من سلطة الإعلام.
مثّلت الشمولية/التوتليارية لون القرن الماضي، أما الشعبوية فيبدو أنها ستكون علامة هذا القرن. الشعب التونسي، الشّعب، "التوانسة"... وغيرها من المفردات صارت منذ سنوات تؤثث خطابات السياسيين لتتكثف شيئًا شيئًا في الآونة الأخيرة مع بروز أصحاب الحقيقة المطلقة. نظرية الجدارة، أو استحقاق الانتخابات، تقود طوفان السياسة الشعبوية في تونس إلى وجهة غير معلومة، ربما غبار الفوضى المتصاعد هذه الأيام هو أول تجلياتها. فما السبب وراء بروز هذه الظاهرة في مناخ يفترض أن يكون ديموقراطيًا؟ ومن هو الشعبوي؟
جينيالوجيا الشعبوية
الشعبوية هي، حسب بول ريكور، خطاب الآخر. إبان الثورة الصناعية والثورات الأوروبية في القرنين 17 و18، اكتسح التيار الرومنطيقي أوروبا، كمدرسة أدبية بالأساس، وتيار محافظ ضد ما تطرحه فلسفة الأنوار من قيم تقدمية في ذلك الوقت، حيث يدعو إلى العودة إلى الأصول، الملكية والخنوع والزمن الجميل الممتد حتى الفترة الرومانية، حسب الرومنطقيين. هذه إحدى مكونات الشعبوية: إثارة مشاعر الناس إلى ماضٍ يعرفونه.
الشعب التونسي، الشعب، "التوانسة"... وغيرها من المفردات صارت منذ سنوات تؤثث خطابات السياسيين لتتكثف شيئًا شيئًا في الآونة الأخيرة مع بروز "أصحاب الحقيقة المطلقة"
تطرح ورقة للفيلسوف كريستيان غودين، أنّ أول ظهور للكلمة في الأدبيات الفلسفية والسياسية، بمعناها الذي تحمله الآن، هو في العام 1912. في البدء كان تيّارًا سياسيًّا برز في روسيا القيصريّة وكان ألكسندر هرزان أبرز قياداته، ويدعو للعدالة الاجتماعية بطعم روسي. إثر ذلك سيرتقي إلى مدرسة سياسية مع صعود التيارات القومية والاشتراكية مطلع القرن العشرين، والتي تقوم على تلوين خليط مواطنيها بلون واحد خاص بها. "لا إيديولوجيا معينة للشعبوية، فقط تسعى لرسم صورة خاصة بها لمجموعة من البشر". هكذا كتب جاك رانسيار في مقاله. وهذا وجه آخر للشعبوية: لون واحد، طعم واحد، صوت واحد.
اقرأ/ي أيضًا: في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا
في كتابه "الشعبوية: ملخص قصير"، يقدّم الهولندي "كاس مود" الشعبوية على أنها رؤية المجتمع مقسّمًا إلى قسمين: "شعب العرق النقي"، و"النخبة الفاسدة". ربّما ذلك من منطلق الحاجة إلى استنباط عدوّ وتحديد الهدف لإتمام بناء السردية الكبرى لكل إيديولوجيا سياسية. إذ فور تولّي الشعبويين السلطة، يتحوّل هذا من الخصم السياسي الداخلي إلى العدو الخارجي المتربّص بالوطن فيما يشبه نظريّة المؤامرة الكونية. وتغذّي السياسة الشعبويّة وجود هذا العدو وتكرّر بعثه في كلّ مرة تجهز عليه، إذ يشكّل سببًا وجوديًا حيويًا لها ويؤدّي انتفاؤه إلى انتفائها. "الآخر هو الجحيم"، هكذا قال سارتر. وهذا شرط آخر للشعبويّة. وهناك أيضًا عدّة أوجه ومكوّنات أخرى مرتبطة بالسياق الزماني والمكاني.
في سياق عالمي، ليست تونس استثناءً. إذ تشهد الساحة الدولية صعودًا ملفتًا للشعبويين في كل مكان. ربما يمكن أن يكون تبريرًا للبعض إذ ليس مهمًّا بأي مرحلة حضاريّة نمرّ بها. المهم هو أن نكون في نفس الصفحة الزمنيّة مع باقي دول العالم. ظاهرة دوريّة تصيب كل ديموقرطية، لكن هل أصابت الديموقراطية التونسيّة باكرًا؟
طغيان الجدارة... الميريتوقراطية:
حتى ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي، كانت بروباغندا النّظام هي السّائدة. إثر ذلك، انتشرت الشعبوية تحت مظلّات عديدة. استحقاقية النضال وغنيمة السلطة أول التجليات. ثم ارتفعت مؤشرات الشعبوية مع بروز مفهوم الاستحقاق الانتخابي، إذ ظهرت عندها عدة عناوين أخرى للشعبوية: الشعب مسلم والباقي مرتدّون متربصون، الصالحون الثائرون والموتورون تحت رداء الثورة المضادة، ثم رعاة الإرهاب ومحاربوه...
بعد انتخابات 2019، اشتدت الديماغوجيا الشعبوية لترتدي حلة "محاربة الفساد". الشعبوية معدية ومغرية وتجارة مربحة. "نحن" الصالحون ضد "هم" الفاسدين، من "نحن" ومن "هم"؟ لكلّ تعريفه الخاص.
مع تقارب النتائج في الانتخابيّة التشريعية، ساد خطاب "طغيان الجدارة"، كما وصفه المنظّر السياسي الأمريكي ميشال ساندل، إذ يقول في حواره مع مجلة الفلسفة الفرنسية في عدد أكتوبر/تشرين الأول 2020: "الميريتوقراطية (حكم الجدارة) تسمح للرابحين باعتبار موقعهم (في السلطة) استحقاقًا وفوزًا، وبالتالي ترسل للخاسرين فكرة أنهم وحدهم المسؤولون عن مصيرهم". وانطلاقًا من هذه الفكرة، يقدّم كل طرف سياسي نفسه ناطقًا باسم الشعب ووصيًّا عليه ومهمّته هي تخليص هذا الشعب من هيمنة "الآخرين". لتتحول الساحة السياسة التونسية في الآونة الأخيرة إلى ما يشبه دوّامة لا تنتهي من التخوين والتشكيك والاتهامات المتبادلة والتي تتفاوت في حدتها بمدى تفاوت دعاية أصحابها وتطلعاتهم.
بعد انتخابات 2019، اشتدت الديماغوجيا الشعبوية لترتدي حلة "محاربة الفساد". الشعبوية معدية ومغرية وتجارة مربحة. "نحن" الصالحون ضد "هم" الفاسدين، من "نحن" ومن "هم"؟
نظريًّا، يتطلّب التطور الطبيعي للأنظمة السياسية، حسب المنظّر الأميركي فرانسيس فوكوياما، المرور بمراحل معينة حتى نضوجها. تطوّر القوانين وتعصيرها، إرساء مؤسّسات قوية لفرض هذه القوانين، تمتين الدولة عبر نفخ ثقافة المحاسبة فيها... وما إلى ذلك حتى تكتمل ملامح النظام السياسي سواء ما كان ديموقراطيًّا على الطراز الغربي، أو مركزيًّا على الطراز الشرقي.
الشعبوية لا تبني دولة
من هو الشعبوي في تونس؟ أسوأ أنواع القادة من يجمعون الناس حول عدو مشترك، لا حول هدف جماعي. قد لا يخلو المشهد السياسي اليوم من علاقة عدائية تجمع طرفين أو أكثر. عبير موسي تعادي الغنوشي ومن معه. الغنوشي بدوره، رفقة سيف الدين مخلوف وزملائه، يعادون عبير وجماعتها. التيار الديموقراطي يشيطن قلب تونس وحلفاءه... والرئيس قيس سعيّد يعادي الجميع بتفاوت، إلا من دخل قصر قرطاج فهو آمن. متاهة لا تنتهي من العداوات الإيديولوجيّة. قبل الانتخابات، أبسط أبجديات العمل السياسي هو أن يتوقع أي مترشح وجود ولو بعض مكونات المشهد الحالي. ألم يفكر في كيفية العمل معها في خدمة أهداف مشتركة؟ ألم تكن أسوء السيناريوهات متوقعة؟ ربما عندما تتحول الانتخابات إلى مسابقة مرحلية يتنافس فيها المتنافسون حول الغنيمة، تصير الحصيلة سيريالية كما في المشهد التونسي هذه الأيام.
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة التونسية أمام امتحان "الشعبوية"
ينسب إلى الجاحظ قوله: "الأفكار ملقاة على قارعة الطريق فمن يلتقطها؟" ماذا تطرح النخب السياسية مجتمعة حتى تتخاصم إلى هذا الحد؟ هل الخصام حول نموذج اقتصادي بين ليبرالي أو اشتراكي؟ هل الخصام حول تموقع عالمي ضمن التحالفات والمحاور؟ هل الخصام حول نموذج سياسي بين ديموقراطي أو دكتاتوري؟ ربما، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. القرار الاقتصادي بيد المقرضين الذين سبق أن أملوا شروطهم قبل الإقراض. التموقع العالمي؟ من لا يملك اقتصاده لا يملك قراره. ماذا تبقّى؟ سعي محموم نحو الغنيمة، وخوف من رخاء المعارضة إذ قد يؤدي إلى الإقصاء الناعم من المتداول اليوم.
تغيب عن هؤلاء الشعبويين أي رؤية أو تصوّر سياسي. السردية الكبرى، الرواية الجامعة، كيف يرون تونس في الـ50 سنة القادمة؟ فقط رؤية ضيقة تختزل في صندوق الاقتراع ومراودة الناخبين، مع عرض الولاءات على المموّلين: رجال الأعمال.
مع هذا الإفلاس السياسي، لا تبقى إلا الشعبوية والخطاب الشعبوي وجمع الجمهور حول خصم وهمي. بالنظر إلى هذه المعطيات وغيرها، يختزل النزاع دائما حول وزارتيْ الداخلية والعدل، اللتيْن يفترض ألّا تكونا سوى أداتين تقنيتين للارتقاء بالقطاعات الاستراتيجيّة الأخرى كالفلاحة والصناعة والسياحة وبقية الخدمات الاجتماعية. لكن مع غياب الإرادة السياسية، تكتفي النخب الشعبوية المفلسة بسلطة الأمر الواقع ولا تسعى إلا لإدارته بدل تغييره وتطويره. لكن ما الذي يدفعها لذلك مادام جمهور الناخبين راضيًا، إلى حد ما؟
في كتاب "النظام السياسي والانحطاط السياسي"، يشابه فرانسيس فوكوياما بين ما وقع في ثورات الربيع العربي وثورات أوروبا 1848 (صفحة 549، طبعة منتدى العلاقات العربية والدولية)، حيث يؤكد أن انتخاب رئيس ونواب برلمان لا يكفي لقيام ديمقراطية بالمعني الليبرالي (ديمقراطية تمثيليّة). إذ يشترط أيضًا قيام أحزاب سياسية، نظام محاكم مستقل، إدارات ومؤسسات فعالة ووسائل إعلام حرّة ويقظة.
تغيب عن الشعبويين أي رؤية أو تصوّر سياسي. السردية الكبرى، الرواية الجامعة، كيف يرون تونس في الـ50 سنة القادمة؟ فقط رؤية ضيقة تختزل في صندوق الاقتراع ومراودة الناخبين
كما أن الفيلسوف المنظّر يشدّد على شروط ضرورية أخرى: "لا يمكن للسياسيين والناخبين تبنّي مقولة "الرابح يكسب كل شيء" تجاه معارضيهم. بل يجب احترام القواعد أكثر من الأفراد مع الاشتراك بإحساس جمعي بالهوية والوطنية".
خاطب معاوية بن أبي سفيان القوم يومًا: "مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا وَلاَ لِتَصُومُوا وَلاَ لِتَحُجُّوا وَلاَ لِتُزَكُّوا، وَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ". جملة تحمل الجوهر والمعنى لكلّ عمل سياسي بعيدًا عن كلّ المزايدات الشعبوية. السياسي هو مسرحي يسعى لفتن جمهوره قصد تحقيق منفعة شخصية له قد تتقاطع مع مصلحة الجمهور فتصير هذه المصلحة عامة: ترفيه الجمهور والعرفان (ماديًّا ومعنويًّا) للمسرحي. هذا الرفاه هو قاعدة العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، وعلى السياسي السعي لتحقيقه عبر طرح رؤى وتصوّرات تصاحبها آليات ومخططات لا عبر الابتزاز اليومي بالتشدّق بتوفير قوت المواطن، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: