05-نوفمبر-2019

جلبار نقاش مناضل يساري وسجين سياسي زمن الاستبداد

 

حين يكون الموضوعُ السياسةَ وأطوارَها في تونس وتمرّ بي عبارة "يسار" لا يذهب الذهن بي إلاّ إلى شخصيّة واحدة هو المناضل جلبار نقّاش. حتّى لكأنّ اليسار دالٌّ وجلبار نقّاش مدلوله. وأقول في مبالغة ليست من فراغ:  يُعرف اليسار بجلبار ولا يُعرف جلبار باليسار.

وفي ممازحة مع أحد رموز "بريسبكتيف" وقد جمعنا سياق سياسي واحد: من مفارقات تونس الجميلة أنّه يمكن الحديث فيها عن "يسار إسلامي" و"يمين ماركسي"، كان هذا الحديث في ظروف تشكّل جبهة الإنقاذ بقيادة الباجي قايد السبسي وقد كان للمجاميع الماركسية (الجبهة الشعبية ومحيطها) دور حاسم في تشكيلها وفي شقّ الصف المنتسب إلى الثورة واستهداف مسار التأسيس ثم الانقلاب عليه في صيغة الحوار الوطني. فإذا كان لا غنى عن يسار/يمين الثنائيّة القديمة في فهم فإنّ سؤال: ما اليسار؟ يكون ضرورة.

حين يكون الموضوعُ السياسةَ وأطوارَها في تونس وتمرّ بي عبارة "يسار" لا يذهب الذهن بي إلاّ إلى شخصيّة واحدة هو المناضل جلبار نقّاش

ففي سياقنا صار "يسار الفكر" ممثلًا في الجبهة في أقصى يمين المشهد السياسي مع عبير، أولويته الوطنيّة كشف الجهاز السرّي، وعلى يمين الحركة الاجتماعيّة في ارتهان مذلّ لحثالة المافيا.

هذا لا يُعدم وجود مناضلين حقيقيين اليوم مازالوا على النهج الماركسي في معناه العام وأوفياء للحرية والمواطنة والسيادة، ولا يبخس دور التيار الماركسي مع "بريسبكتيف" (حركة آفاق) في فضله وسبقه إلى طرح مسألة التغيير الاجتماعي والعدالة الاجتماعيّة والنضال السياسي والمسألة الوطنيّة، في وقت مبكّر وسابق حتّى على ما انطرح في ضفة المتوسط الشمالية (حركة ماي 68)، وفي ظروف فكرية وسياسيّة لم يتجاوز أفقها المظلمة اليوسفيّة باعتبارها صراعًا داخل العائلة الدستورية التي تصدّرت الحركة الوطنيّة.

اقرأ/ي أيضًا: الثورة الثقافيّة مُنجَزٌ أم مشروع للإنجاز؟

حول تعريب الماركسية

يشير عبد الله العروي، في كتابه "العرب والفكر التاريخي" إلى عجز الماركسيين العرب، في تجاربهم المختلفة، عن "تعريب الماركسيّة"، وهو لا يعني نقل كتاب "رأس المال" من الألمانيّة إلى العربيّة بقدر ما يقصد إلى محاولة فهم الموجّهات النظريّة المنهجيّة من خلال السياق الوطني والثقافة الأهليّة. وعاد إلى هذه المسألة في كتابه "السنة والإصلاح" بتناول جديد. وبدا لنا الكتاب أقرب إلى المراجعة في عمر متقدّم. مراجعة لا يُنتظر فيها من مفكرّ ومؤرّخ في منزلة عبد الله العروي، وقد أخذ مسافة من السياسة وإلزاماتها، إلاّ التأمل المنتج للمعرفة. وهو في هذا مذكِّرٌ بآخر كتاب لابن خلدون، وأعني رسالته "شفاء السائل في تهذيب المسائل"، وقد كتبها متأمّلًا في عزلة بعيدًا عن الملك وسلطانه. وهي رسالة أشبه بالمراجعات في ثقافتنا الحديثة، وقد ضمّنها آراء في مسائل السياسة والكلام وما تعلّق بعلوم العربيّة لا تطابق في جانب منها ما بثّه في تصانيفه الأخرى، وأهمّها كتاب العبر ومقدّمته الشهيرة.

وتعريب الماركسيّة في تقديرنا، إذا كنّا في حاجة إلى هذا التعريب، يكون بإعادة طرح المسألة الوطنيّة، وسؤال الدولة، والثقافة الأهليّة والتنمية. ويبدو أنّ شروط هذا التعريب وهذه المراجعة لم تتوفّر رغم منسوب الحريّة الذي عرفه مجالنا مع الربيع.

تعريب الماركسيّة في تقديرنا، إذا كنّا في حاجة إلى هذا التعريب، يكون بإعادة طرح المسألة الوطنيّة، وسؤال الدولة، والثقافة الأهليّة والتنمية

ومع ذلك فإنّ هناك محاولة يتيمة في التعريب لا يُنتبه إليها كانت مع تجربة حزب البعث. ودون الدخول في سياق ظهور البعث وشخصيّة مؤسسه الذي يعتبر نفسه مسلمًا ثقافة (ذكرى الرسول العربي)، فإنّ البعث يُعتبر آثرًا للفكر الماركسي داخل العائلة القوميّة، مثلما كان "التيار الوطني الديمقراطي"، بمعنى من المعاني، أثرًا للفكر القومي داخل العائلة الماركسيّة.

ولئن نجح فكر البعث في التعريب النسبي للماركسية، من خلال فكرة "الاشتراكية العربية"، فإنّه اصطدم بفكرة "الدولة/الأمّة" الأوروبية، ولم ينجح في تعريبها. ومنها انبثق شعار البعث المعروف "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة"، حتّى علّق المؤرخ/المفكّر هشام جعيّط في نقد لاذع، والرجل لم يكن بعيدًا عن فكر البعث في مرحلة من مسيرته الثريّة "كأنّ الأمّة العربيّة خُلقت قبل التاريخ الإنساني". أمّا التيّار الناصري، فمازال لم ينتبه إلى أنّه "عروبي غير قومي"، وهو عندنا جزء من ظاهرة الإسلام السياسي، رغم إصراره على أنّه من "اليسار العربي التقليدي". 

تُعدّ صفة "العربيّة" المخصّصة لعبارة إشتراكيّة خطوة أولى في التعريب، قياسًا إلى نماذج أخرى وأوّلها النموذج السوفياتي اللينيني الذي اعتُبر "نموذجيًا أمميًا" عابرًا للقوميات. وكان من الممكن لعمليّة التعريب هذه، وهي عمليّة سياسيّة، أن يكتشف فيها تيّار البعث "عروبيّته" فيكون عروبياًّ غيرَ قوميّ: عروبي بالمعنى اللساني، وغير قومي بالمعنى السياسي، تخطّيًا لمفهوم "الدولة/الأمّة" كما انطرح في أوروبا وما رافقه من ظهور للفاشيات في منتصف القرن العشرين الأوّل. وهي في جوهرها تعبيرٌ عن مركزيّة أوروبيّة فاضت على حدودها، في الأطوار التي عرفتها أوروبا وأوهمت بأنّها تكثّف العالَمَ وتختزل الإنسانيّةَ.

يُعتبر البعث آثرًا للفكر الماركسي داخل العائلة القوميّة، مثلما كان "التيار الوطني الديمقراطي"، بمعنى من المعاني، أثرًا للفكر القومي داخل العائلة الماركسيّة

وأهمّية تجربة البعث الفكريّة والسياسيّة في أنّها كانت في محاولة التوليف بين "القومي" والطبقي"، وهو ما ساعد على النجاح النسبي في "التعريب". في حين بقيت المحاولات الماركسية الأخرى في معظمها رهينة "منهج مطبّق" ولم تُوفّر الشروط المعرفيّة لتنتبه إلى أنّ المطلوب هو "منهج للتطبيق" وما يعنيه ذلك من تبدّل الموضوع (سياق عربي إسلامي). فـ"المنهج المطبّق" يحمل معه ضرورة موضوعَه وحلوله، وفي حالة الماركسية هو "السياق الأوروبي" بتحوّلاته المعروفة. و"المنهج المطبّق" يعني أنّك تتبنّى حلولًا لمشكلات ليست مشكلاتك حلولُها لا يمكن أن تكون حلولُك.

وهذا الأمر ينطبق على المقاربة التراثيّة وهي في الغالب سلفيّة إسلاميّة في تبنّيها، من خلال انفصالها مع "الخطاب الشريعي"، لحلول كانت لمشكلات المجتمع الإسلامي قديمًا، وذلك من خلال عجزها عن الانفصال عن "الخطاب الشريعي". لذلك نعتبر أنّ التيّار الإسلامي، حتّى في صيغه "التنويرية"، لم ينجح بدوره في موضوع الترجمة والتعريب، وكان عائقه المعرفي هو عجزه عن تخطّي "الخطاب الشريعي"، ولم يربط مع أوّل محاولات "تحويل النص المؤسس" إلى مفاهيم ونعني "مدرسة المقاصد" رغم نكهتها اليونانية. فهي بدورها لم تربط مع "الإسمية العربيّة" (ابن تيميّة) التي قطعت لأول مرّة مع المتافيزيقا اليونانية. واستعادت ما يمكن تسميته بـ"الاستقلال التاريخي التام"، في بعده المعرفي، في العمل والنظر.

محاضرة "إيف لاكوست" في الذاكرة

ما تقدّم يذكّرني بحادثة عشتها في منتصف الثمانينيات، فقد زارنا في دار المعلمين العليا ونحن يومها طلبة أستاذُ الجغرافيا السياسيّة الفرنسي "إيف لاكوست" (Yves Lacoste)، وكانت له محاضرة عن ابن خلدون ونظريّة العصبيّة والدولة. وكان ابتدأ بحديث شيّق عن سيرته ومنها شبابه وتعلّقه مثل شباب جيله بالماركسيّة. وأشار، بوعي نقدي أسر، إلى أنّهم كانوا، وهم يجتهدون في تفسير بعض الظواهر السياسية والاجتماعيّة التاريخيّة، يشعرون بأنّ المنهج الماركسي في بعض الحالات لا يغطّي كلّ مساحة الظاهرة. قال: فكنّا نجتهد في تمطيط المنهج حتى يغطّي، كما نريد تحت ضغط الإيديولوجيا، كلّ الظاهرة. فالظواهر الإنسانية على غاية من التعقيد.

ثمّ واصل حديثه عن نظريّة ابن خلدون في العصبيّة والدولة، وتوقّف عند فذاذتها، ولكنهّ أكّد على أنّ هذا المنهج صالح لزمن محدّد هو القرن الثامن الهجري ومجال محدّد هو المغرب العربي. واستطرد شارحًا: لا يمكن على سبيل المثال تفسير الحرب الأهلية في لبنان (كانت يومها الحرب على أشدها) بنظرية العصبيّة والدولة.

أكّد أستاذ الجغرافيا السياسية ليف لاكوست أن نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة صالحة لزمن محدّد هو القرن الثامن الهجري ومجال محدّد هو المغرب العربي

أنهى البروفيسّور مداخلته، وأكثر ما شدّني فيها قدرته على تحويل الحميمي (السيرة الذاتيّة مثلًا) إلى جزء من البسط العلمي للفكرة وعنصر من عناصر حجاجه المتدرّج العجيب. وهذا ما نكاد نفتقده في مجالنا عند مفكرينا وكتّابتا وأساتذتنا، إذ يغدو الدرس، في الغالب، عرضًا مملاً مفصولًا عن الحياة وبعيدًا عن نبضها.

اقرأ/ي أيضًا: انتخابات 2019.. حتّى يبلغ الفرز مداه

ثمّ فُتح باب النقاش وطرْح الأسئلة، فعنّ لي سؤال كان المحاضر قد مهّد له بما عرض من علم ومعرفة. فكتبت على ورقة: إذا كانت أطروحة ابن خلدون في العصبيّة والدولة لا تتخطّى في قدرتها التفسيريّة منطقة المغرب العربي في القرن الثامن الهجري، فهل لنا أن نقول إنّ الماركسيّة، في منهجها وفلسفتها، غير قادرة بدورها على تخطّي السياق الأوروبّي في القرن التاسع عشر وأنّ قدرتها التفسيريّة  محدودة بالشروط العلميّة والمعرفيّة التي نشأت فيها، رغم دعواها العلمويّة؟

خشيتُ ألاّ أوصل الفكرة بدقّة وتهيّبتُ المجلس، فالتفتّ إلى صديق مجيد للفرنسيّة كان يجلس إلى جانبي، وطلبت منه نقله إلى الفرنسيّة، ومنحته مُكرَهاً حقّ قراءته على المحاضر. وحين طرُح السؤال. لم يُجب الأستاذ المحاضر والتفت يمنة ويسرة فعمّ المدرّج صمتٌ وانتظار مشوب بالحذر. ثمّ كانت منه إجابةٌ مفاجئةٌ بصوت جهوري قويّ "Mais c’est trés pertinent" (ولكنّه سؤال في محلّه)، فانطلقتْ موجةٌ من التصفيق في المدرّج الذي كان يغصّ بالطلبة والأساتذة. وكانت منه إجابة العالِم المتواضع: لا يمكنني إلاّ أن أعترف بمضمون السؤال. واستطرد في جمل بديعة يفسّر علاقة النماذج التفسيريّة بالظواهر وبشروطها التاريخيّة.

في تجاوز ثنائية يسار/يمين

إلى حدّ الأن لم ننفكّ عن النموذج التفسيري يسار/يمين، رغم ما نلاحظه من حالات مثيرة تبدو في وجود "يسار الفكر" على يمين الحركة الاجتماعيّة، وإمكانيّة وجود "يمين الفكر" على يسارها. فلم يتبلور نموذج تفسيري بديل، وقد يكون الربيع ومنسوب الحريّة العالي والحياة السياسيّة النشطة التي فتحها مقدّمة إلى تأسيس مأمول.

وقبل الربيع لوحظ توجّه عامّ يخصّ العائلات الفكريّة والسياسيّة الكبرى في مجالنا ويتمثّل فيما يمكن أن ننعته بتخليص الإسلام من الإسلاميين والعدل من الاشتراكيين والعروبة من القوميين والحريّة من الليبراليين. فقد جعلت هذه العائلات التقليديّة من المعنى والعدل والعروبة والحريّة أصلًا تجاريًا وعنوانًا خاصًا. وهو ما ساهم في إقامة حواجز متينة بينها تجد تفسيرها في اضطراب مواقفها من القديم عامّة، وقد نجد أثره المباشر اليوم في صعوبة تشكيل حكومة بعد تفويض شعبي حرّ يبدو ميّالًا إلى مكوّنات الجديد، وكأنّه يمنحها الفرصة الأخيرة لبناء مشترك يمثّل قاعدة سياسيّة جامعة للحكم وضرورة للشروع في استحقاقات اقتصاديّة اجتماعيّة مؤجّلة.

 جعلت العائلات السياسية التقليديّة من المعنى والعدل والعروبة والحريّة أصلًا تجاريًا وعنوانًا خاصًا وهو ما ساهم في إقامة حواجز متينة بينها

ولنا أن نسجّل، بشيء من الحذر، أنّ ثنائيّة يسار/يمين مازالت متداولة في "المجال السياسي الرسمي" بين المكوّنات الإيديولوجيّة والسياسيّة من الطبقة السياسيّة التقليديّة، في حين اتّجه "المجال السياسي الهامشي" وسننعته من هنا فصاعدًا بـ"المجال السياسي الجديد" إلى أداء مغاير لا تغطّيه ثنائيّة يسار/يمين، وقد كانت الانتخابات الرئاسيّة وتفويضها الشعبي الباذخ من بين المؤشرات المهمّة. وهو تفويض كاد يقيم تعارضًا بين بنية العمل الحزبي التقليديّة والانتماء المباشر لفكرة المشاركة والفعل السياسي دون الوسائط الحزبيّة. وكأنّ همّ هذا التفويض الأساسي تحويل الثقافة الأهليّة إلى قيم تنمويّة محليّة.

وصحبه توجّهٌ لا يجد معنى للمقابلة بين الإسلام والعدل والعروبة والحريّة، باعتبارها أبعادًا أساسيّة في الثقافة الأهليّة، عند الأحزاب وعائلاتها الفكريّة المذكورة. وهو توجّه لا يسلب الأحزاب العريقة فضلها في مناهضة الاستبداد والنضال من أجل حقوق الإنسان والحياة الديمقراطيّة، ولكنّه ينبّهها إلى ضرورة تجديد الوسائط التقليديّة بعمل مباشر يُخرجها من يسار الدولة ووسطها ويمينها، إلى ما يمكن أن نطلق عليه بـ"يسار التاريخ"، إذا كان لابدّ، تحت ضغط التقليد والسلفيّة الفكريّة المستحكمة، من ثنائيّة يمين/يسار. وهو يسار يجد جذوره في مسيرة الأنبياء، وفي النبوّة الخاتمة باعتبارها إصلاحًا سياسيًا وروحيًا لم يعره الإصلاح الفلسفي والديني في أوروبّا في القرن السابع عشر لأسباب "ثقافيّة حضاريّة"، رغم تقاطعه معه في مستويات عدّة. كما يجد أساسه في حركات الإصلاح عبر التاريخ وبحثها الأبدي عن انتظام سياسي يكون فيه الفرد حرًا وفي جماعة في آن.

لقاء جلبار نقّاش برئيس الجمهوريّة قيس سعيّد، ليس بعيدًا عن هذا، وقد يبدو لنا لقاء بين يسار قديم منتبه ويسار جديد متحفّز، وإن لم يخطر ببالهما ما ذهبنا إليه تفسيرًا وتأويلًا. فقد يكونان، من خلال يمثّلانه، من أسباب بناء الجديد. وقد يرتهنان إلى ما سكنهما من قديم فلا يُجَاوزان العناوين والشعارات. وفي كلّ الأحوال لا بديل عن "التأسيس" إلاّ "الإِحْياء" الذي تسبح فيه المكوّنات المذكورة بـ"يمينها" و"يسارها".      

 

اقرأ/ي أيضًا:

قيس سعيّد رئيسًا: "هبّة الصّندوق" وأسئلة السّلطة الثلاثة.. سؤال الدّاخل (1)

قيس سعيد رئيسًا: "هبة الصندوق" وأسئلة السلطة الثلاثة..سؤال الجوار المغاربي (2)

قيس سعيد رئيسًا: "هبة الصندوق" وأسئلة السلطة الثلاثة.. سؤال العالم والتاريخ (3)