19-يناير-2022

لا يمكن تصور أي مشهد سياسي مستقر في تونس من دون الحرص على المشاركة المؤثرة للتمثيليات اليسارية(فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

"لا يمكن أن نساعد شعبًا لا يريد أن يساعد نفسه. أنا انحبست واتعذّبت وأهينت كرامتي من أجل من؟ كم من مصري يتذكّر تضحيات الاشتراكيين..."، هكذا كتب علاء الأسواني في رواية "جمهورية كأن"، على لسان عصام شعلان، أحد أبطال الرواية، مناضل اشتراكي سابق يقوم باسترجاع ذكرياته ومراجعاته الذاتية. يستحضر علاء الأسواني في رواياته شخصية اليساري الذي نفض يديه من الثورة والتغيير.

ليس هذا النوع من المراجعات، وما يعنيه من اندثار  للتمثّلات اليسارية من الساحة السياسية، حكرًا على مصر، ولا المنطقة العربية بما في ذلك تونس.

في انتخابات 2014 في تونس، ولأول مرة في تاريخ المنطقة العربية كما عنونت صحيفة الفيغارو الفرنسية آنذاك، حلّت الجبهة الشعبية، ائتلاف لمجموعة أحزاب يسارية، بالمرتبة الرابعة (بفارق مقعد واحد عن المرتبة الثالثة).

ونتيجة لصراعات مختلفة داخل ائتلاف الجبهة الشعبية في تونس، طغت عليها الزعاماتية وتضخم الذوات، اندثر هذا الائتلاف على امتداد الدورة النيابية 2014-2019 ولم يبق من المقاعد إلّا مقعد يتيم عقب الانتخابات التشريعية سنة 2019، نٌسف هو الآخر مع جملة المكونات السياسية في "واقعة 25 جويلية 2021".

اقرأ/ي أيضًا: حوار|محمد الكيلاني: لهذا فشلنا في تكوين جبهة يسارية وما تقوم به موسي خطير

  • ضياع البوصلة: يسار أو "يسارات"

بغض النظر عن "طبيعة المجتمع"، بوصلة "الحج الثوري" والموقف من القضية الفلسطينية، يعرّف الباحث في علم الاجتماع السياسي المولدي القسومي، في ورقة له بعنوان خارطة اليسار التونسي، العائلة اليسارية بمكونيها: "يسار ينحدر من الحزب الشيوعي وآخر من برسبكتيف ومشتقاتها وسيتواصل ذلك إلى أن التقيا في أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 ثم الثورة في 2011 وجبهة الإنقاذ سنة 2013 ليتفرّقا مجدّدًا".

إلى جانب التصنيف الاقتصادي، نجد تصنيفات أخرى يمكن ضمها تحت مظلة اليسار: الحركات النسوية، المجموعات البيئية والنضالات الجندرية... كذلك، تتمطّ عائلات إيديولوجية أخرى يسارًا لتتقاطع مع اليسار، سواء الماركسي/الإيديولوجي أو الثقافي، كالدستوريين التقدميين (مجموعة أحمد المستيري مثلاً) وإسلاميين يساريين (زياد كريشان، صلاح الدين الجورشي...).

تتعدّد القراءات وأسباب الضعف الذي يعاني منه اليسار التونسي لكن مهما تفرعت هذه القراءات، فلا يمكن عزل معضلة اليسار في تونس عن سياقها العالمي والتاريخي

بديهيًا، لا يمكن حصر العائلة اليسارية ضمن إطار إيديولوجي مضيق، فقط يمكن عبر التأصيل والتحقيب التاريخي، التعرّف على جذور التمظهرات اليسارية في تونس والمخاضات التي عاشتها: انقسامات داخلية وصراع مع النظام، إلّا أن ذلك قد يؤدي إلى اختزالية وتسطيح، وفي كل الحالات، لا يجيب عن سؤال: إلام تشير بوصلة اليسار التونسي تحديدًا؟

دوريًا، تقوم مكونات عديدة من اليسار التونسي بنقدها الذاتي ومراجعاتها، خاصة تلك الغاضبة من دوغمة الانتظام الحزبي، أو المطرودة أو المتمردة... لهذا تتعدّد القراءات وأسباب الضعف الذي يعاني منه اليسار التونسي لكن مهما تفرعت هذه القراءات، فلا يمكن عزل معضلة اليسار في تونس عن سياقها العالمي والتاريخي. 

الأزمة قد تكون مستوردة، أو مسقطة من "النظام العالمي الجديد"، إذ لا تزال أخبار رئيس الشيلي، الذي تم تنصيبه رسميًا منذ أسابيع كأصغر رئيس في منصبه بعد إعلان فوزه في الانتخابات الأخيرة يوم 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تهز أفئدة اليساريين، الماركسيين خصوصًا، حاملة معها آمالاً وتطلعات بأن يساعد هذا الفوز الفاعلين اليساريين للعودة إلى غمار المنافسة السياسية، بعد جولات الخسارة التي عرفها مؤخرًا في معاقله التاريخية: دي لينكا (Die linke) في ألمانيا، بوديموس (Podemos) في إسبانيا، سوريزا (Suriza) في اليونان وحزب العمال في إنجلترا.

في الملف الشهري لجريدة "لوموند ديبلوماتيك" وقد خصصته لليسار (عدد جانفي/يناير 2022)، تعرّض كل من الصحفيين بنوا برايفيي وسارج حليمي، ضمن مقال "لماذا يخسر اليسار؟"، إلى جملة من الصعوبات الهيكلية على المستوى السياسي، الأنثروبولوجي، الاقتصادي وغير ذلك.

وكتبا "من جهة، وبعيدًا عن بساطة العجز عن تطبيق برنامجهم، يذهب اليساريون عند تولي السلطة إلى تطبيق برنامج خصومهم. ومن جهة أخرى، من اليوم الأول في الحكم، ليست الانقلابات ولا جيوش أجنبية هي التي تخضعهم، لكن عملية خنق مالية".

يشير الكاتبان إلى ما حدث في ربيع أثينا، عندما خضعت حكومة اليسار الراديكالي في اليونان سنة 2015 إلى إملاءات المؤسسات المالية المانحة، على منوال ما يعرف بربيع براغ، عندما قام الحزب الاشتراكي التشيكوسلوفاكي بعملية لبرلة للاقتصاد وإطلاق عملية الخوصصة، تحت شعار "الاشتراكية بوجه إنساني"، ما يعتبره المؤرخون أولى الهزائم التي عرفتها الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي. 

تتعدد التشخيصات لحالة الموت الإكلينيكي التي يعرفها اليسار، بين من يراه تشوّهًا جينيًا نتيجة تحريف الصرامة الإيديولوجية إلى تشتت سائل، وبين من يراها نتيجة مؤامرة من الخصوم البرجوازيين، وأخيرًا من يرى أنها سيرورة تاريخية محتمة

طبعاً تتعدد التشخيصات لحالة الموت الإكلينيكي التي يعرفها اليسار، بين من يراه تشوّهًا جينيًا نتيجة تحريف الصرامة الإيديولوجية إلى تشتت سائل، وبين من يراها نتيجة مؤامرة من الخصوم البرجوازيين، وأخيرًا من يرى أنها سيرورة تاريخية محتمة. بالنهاية تفضي كل التشخيصات والقراءات إلى التساءل عن الدواء في البحث عن إجابة سؤال ما العمل؟ 

اقرأ/ي أيضًا: اليسار دال وجلبار نقاش مدلوله.. جدل الإحياء والتأسيس في المشهد السياسي التونسي

  • الحركات الاجتماعية: عنقاء اليسار قيد الانبعاث؟ 

تصاعدت خلال العقدين الأخيرين، وبعد صدمة العقد الأول من سقوط جدار برلين، تحركات احتجاجية اصطلح على تسميتها بالـ"الحركات الاجتماعية" أو "المبادرات المواطنية"، تتسم بأفقية القرار فيها وتلقائية تحركاتها، وخصوصًا عدم انتظامها وتنظمها وانعدام رهانها السياسي.

في مقال نشر بمناسبة مرور 100 عام من الشيوعية في تونس، يتناول كاتبه مجموعة تصريحات لمناضلين من اليسار التاريخي، كالهاشمي بن فرج وفتحي بالحاج يحيى، ويرى هؤلاء أن يسارًا جديدًا بصدد الانبعاث من رحم الحركات الاجتماعية، وفقهم.

وكان انعقد شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي في تونس، منتدى التجديد في السياسة بتنظيم من مؤسسة فريدريش ناومان للحرية، أين تدخّل المؤرّخ الإيراني أراش عزيزي صاحب كتاب "قائد الظل"، سيرة ذاتية لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وكانت له قراءة في الحركات الاجتماعية التي عاشتها إيران في المدة الأخيرة، وانتهى إلى ضرورة التنظم بقوله: "دون تنظم، ليس هناك تأثير. ودون تأثير، ليس هناك نتائج ". وهذا ما تثبته معادلة تنوع غزارة الحركات الاجتماعية في تونس مقابل ضعف تأثيرها في العملية السياسية في تونس. 

حسبما جاء في مداخلة أراش وملف اليسار الذي أعدته لوموند ديبلوماتيك، ربما قد يعود ضعف التأثير السياسي للحركات الاجتماعية إلى أناركيتها المفرطة، كما جاء في تقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

قد يكون من عوامل عدم الاستقرار السياسي في تونس منذ سنة 2019، غياب التمثيل اليساري في النظام الرسمي، وانحصار الصراع بين مجموعة من المحافظين اليمينيين، وتنافسهم على التصعيد اليميني الشعبوي

قبل الختام، لا بد من الإشارة إلى أنه قد يكون من عوامل عدم الاستقرار السياسي في تونس منذ سنة 2019، غياب التمثيل اليساري في النظام الرسمي، وانحصار الصراع بين مجموعة من المحافظين اليمينيين، وتنافسهم على التصعيد اليميني الشعبوي لاستمالة الأغلبية المحافظة من جهة، مراودة الأفئدة اليسارية المتشظية من جهة أخرى، والتي بدورها راحت تفتش عن ذواتها داخل الحركات الاجتماعية والنقابات العمالية وجمعيات المجتمع المدني، ما جعل ربما الشارع السياسي في حالة استنفار دائم. 

بالنهاية، لا يمكن إنكار أن لليسار جذورًا ثابتة في الحقل السياسي التونسي، اليسار الاجتماعي والثقافي على الأقل، تعود إلى أيام ما يمكن تسميتهم بالأباء المؤسسين لتونس الحديثة: محمد علي الحامي والطاهر الحداد. وبالتالي، لا يمكن تصور أي مشهد سياسي مستقر في تونس، من دون الحرص على المشاركة المؤثرة للتمثيليات اليسارية ضمن التمظهر الرسمي للسلطة السياسية في تونس.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"



اقرأ/ي أيضًا:

صورة اليسار التونسي في رواية "الطلياني".. نضالات وصراعات (2/1)

صورة اليسار التونسي في رواية "الطلياني".. نضالات وصراعات (2/2)