مقال رأي
فرضت لحظة 25 جويلية حالة بطالة سياسية على معظم النخبة الحزبية، بمعنى أنها في الجوهر عادت إلى قواعدها الضيقة غير قادرة على التعبئة الجدية مع استقرار هوة عميقة بينها وبين الشارع.
وهنا ليس الرئيس التونسي قيس سعيّد من فرض هذا النسق، حتى لو أراد ذلك، بل تراكم 10 سنوات من عجز النخبة (الإرادي وغير الإرادي) خاصة التي أمسكت بتفاصيل السلطة عبر التداول "الانتخابوي" من أن تسوّق لنفسها عبر مشاريع إصلاحية والأهم أن تقدم حلولاً جذرية للمشاكل الهيكلية التي أدت إلى الثورة، ومن ثمة ضرب الثقة في الصميم بينها وبين ناخبيها.
عجزت النخبة خاصة التي أمسكت بتفاصيل السلطة من أن تسوّق لنفسها عبر مشاريع إصلاحية والأهم أن تقدم حلولاً جذرية للمشاكل الهيكلية التي أدت إلى الثورة
كل الأسباب الأخرى ثانوية أمام هذا العامل الرئيسي. في سياق العطالة، في السياسة الفعالة يوجد جيب صغير انفتح داخل الطيف الديمقراطي الاجتماعي من أجل مناقشة إمكانية بناء حزب جامع لهذا الطيف. وفي الواقع أرى أنه لا يمكن إعادة التأسيس الديمقراطي بعد إفساد التجربة الديمقراطية (ومن ثمة الوصول إلى 25 جويلية) بدون حزب ديمقراطي اجتماعي كبير وقوي، بل أرى أن أحد أهم أسباب مأزق التجربة الديمقراطية التونسية غياب هذا الحزب وعدم قيادته للتأسيس الديمقراطي.
من قاد التأسيس الديمقراطي الفاشل والذي تم إفساده في نهاية الأمر ووفر الظروف الخصبة المناسبة لانقلاب 25 جويلية؟ قادته القوى التي لا تؤمن بالمضمون الاجتماعي الجذري للثورة. وهنا أقصد بمن قادته ليس كل من مر بالسلطة (وهذا لا يخلي هؤلاء من المسؤولية بمن فيهم الطرف الذي كنت ضمن قيادته خلال الترويكا والذي تغلب فيه في نهاية الأمر خط التموقع في الدولة وموالاة الحزب الأغلبي على حساب الصراع من أجل الإصلاح) بل من كان في مفاصلها ولديه في أقل الحالات القدرة على الفيتو.
وهنا نحن بصدد طرفين رئيسيين: حركة النهضة ونداء تونس (بمعنى حزب الإدارة ونخبة ما قبل 2011)، الذين تداولا على المقعد الأول لكنهما كانا في قلب معادلة السلطة وترتيباتها الجوهرية في كل المراحل. لم تكن الخطيئة فقط في احتقار الأصل الاجتماعي للثورة بل في جعل الموضوع الديمقراطي "موضوعاً تقنيًا" لخبراء أشرفوا في الجوهر على النسق "الليبرالي المشوه" الذي أدى إلى الثورة، وهو ما جعل "الاقتصاد" مجرد موضوع سياسي، مجرد نقطة للمساومة وأيضًا لإظهار الطاعة للأطراف المانحة بدون أي مقاربة محلية، أو كما قال لي في إحدى المرات رئيس حزب أغلبي عندما ناقشنا موضوع الاتفاق مع صندوق النقد (بعد عناء وضغط) "سنمضي فيه ما دام الأمر مطلوباً من واشنطن".
لم تكن الخطيئة فقط في احتقار الأصل الاجتماعي للثورة بل في جعل الموضوع الديمقراطي "موضوعاً تقنيًا" لخبراء أشرفوا في الجوهر على النسق "الليبرالي المشوه" الذي أدى إلى الثورة
بل كانت الخطيئة أيضًا التي سمحت بالديمقراطية بل في توظيف هؤلاء قواعد اللعبة في اتجاه الانحراف بالتأسيس الديمقراطي إلى مجرد لعبة انتخابوية بمشهدية ديمقراطية ترسخ حماية النخبة الاقتصادية الريعية غير الإنتاجية، التي ترسخت منذ دولة الاستقلال وكانت متماهية مع الاستبداد. بل نظرت بعض رموز هذه الحقبة خاصة رئيس حركة النهضة إلى أن مرحلة التأسيس "توافقية"، مدققًا قصده من ذلك أنه "تنتفي فيها السلطة والمعارضة"، بما سمح بقتل السياسة وجدواها، وجعلها مجرد لعبة للتموقع في السلطة.
لو تمعنا في تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة سواء الأوروبية أو الأمريكية-اللاتينية، لوجدنا أن التأسيس الديمقراطي كان مستديمًا بالأساس بسبب الدور الطليعي للأطراف الديمقراطية الاجتماعية، أي التي ضخت مضمونًا إصلاحيًا اجتماعيًا عميقًا في هيكل التأسيس الديمقراطي. سواء في موجة القرن التاسع عشر ثم بداية القرن العشرين في فرنسا وبريطانيا ثم منذ أواخر القرن التاسع عشر وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، أو في موجة السبعينيات في إسبانيا والبرتغال. وأيضًا تجارب التأسيس في أمريكا اللاتينية من الأرجنتين إلى تشيلي إلى البرازيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثم في موجتي الثمانينيات ثم الألفينات.
لو تمعنا في تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة سواء الأوروبية أو الأمريكية-اللاتينية، لوجدنا أن التأسيس الديمقراطي كان مستديمًا بالأساس بسبب الدور الطليعي للأطراف الديمقراطية الاجتماعية
وكان صمام أمان استمرار التجربة الديمقراطية هو الإسهام الإصلاحي الاجتماعي الذي فرضته حركات ديمقراطية اجتماعية جماهيرية مهيكلة بمرونة متحالفة مع المنظمات النقابية. لولا ذلك لسقطت التجارب إما لمصلحة دكتاتوريات يمينية رجعية أو لمصلحة بدائل راديكالية شيوعية شمولية.
التجربة التاريخية العربية وضعت فرصة التأسيس الديمقراطي متماهية مع لحظة استمرار زخم إسلام سياسي متسلح بعاطفة دينية جياشة لكن في الأساس معني بالتموقع في الدولة والاستعداد لخدمة النخبة الاجتماعية السائدة وتحصيل المقبولية من الأطراف الدولية مهما كان الثمن أو استمرار بديلها "الوطني" الذي فشل في بناء دولة وطنية ناجعة لكن بقي مؤثرًا بقوة في أجهزة الدولة يستمد "مشروعية" مهترئة ويتسلح بجبهة مصالح تعطل التنمية وتعيد خلق الأزمة.
لحظة 25 جويلية هي فعلاً أزمة للديمقراطية بل للسياسة أيضًا، وهي في الجوهر أزمة منطق السياسة من أجل السياسة أو من أجل التموقع في الدولة. لكنها أيضًا فرصة جدية لبناء بديل سياسي ديمقراطي اجتماعي قوي لطالما بقي مشروطًا بوجود منظمة نقابية كانت عمومًا قوية لكن لا تستطيع بالذات لهويتها النقابية قيادة الإصلاح. المعني بالإصلاح دائمًا هو الطرف السياسي وهو المعني بقيادة الدولة وليس المطلبية من الدولة.
لحظة 25 جويلية هي فعلاً أزمة للديمقراطية بل للسياسة أيضًا، لكنها أيضًا فرصة جدية لبناء بديل سياسي ديمقراطي اجتماعي قوي
من جهة أخرى، أي خطة سياسية للطيف الديمقراطي الاجتماعي تجعله مرتهنًا براهنية اللحظة السياسية ومن ثمة مجرد ملحق لأجندة سياسة الخطاب الإنشائي الحقوقي المجرد وعدم أولوية بناء بديل جماهيري يعمل بصبر وثبات ولا يرتهن بآجال الأجندة الزمنية لقيس سعيّد، هو إضاعة لفرصة أخرى.
حزب بهوية فكرية متأصلة وسردية تاريخية تضرب جذورها في عمق الدولة الاجتماعية وإنجازاتها الماثلة إلى الآن في القطاعات الهيكلية من صحة وتعليم وطبقة وسطى، لكن يقبل أيضًا "تعايش الخطوط" مثل تجارب ديمقراطية اجتماعية دولية، ويسبق مبدأ وجود الحزب الكبير على حساب "الحوانيت" العديدة بلا قيمة.
وأيضاً حزب بخطة سياسية تضع نصب أعينها بناء علاقة ثقة مع الحركات الاجتماعية المتهيئة والتي تنتظر ما سيفعله قيس سعيّد لكن سرعان ما سترى أن الرئيس لم يفعل إلا أن أعاد ما قامت به نخبة ما قبل 25 جويلية، أي شراء دستور ومشروع سياسي مجرد بأي ثمن، حتى بثمن اتفاق مع صندوق النقد بدون أي رؤية إصلاحية عميقة محلية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"