بين الجبال والمنحدرات الصخرية وعلى امتداد الوديان المنحدرة من مرتفعات شنني وقرماسة والدويرات والتي تجتمع في "وادي تلالت"، تتربع قرية "الفرش" سهلاً وواحة وأحراشًا غابيّة تحيط بها الهضاب وتقع بين مدينتي غمراسن وتطاوين الشمالية.
قرية الفرش وتعني تسميتها الأرض المنبسطة المسطحة وهي كذلك، مساحتها محدودة، لكنها تتميز بنوعية تربة ذات خاصية فريدة وهو ما جعل منتجاتها الفلاحية على قلتها تتمتع بمذاق خاص فهي غالبًا خالية من كل الأسمدة والمواد الكيميائية.
20 امراة ريفية كونن مشروعًا لصناعة منتجات غذائية من أرض جهتهن على الطريقة التقليدية مع تعليبها على طريقة الأجداد، وهي خالية من أي مواد حافظة كيميائية
في هذه الأرض، التي تبعد أكثر من 500 كم عن العاصمة تونس، متوارية عن الأنظار، هناك 20 امراة ريفية كونن مشروعًا لصناعة منتجات غذائية من أرض جهتهن على الطريقة التقليدية مع تعليبها على طريقة الأجداد، خالية من أي مواد حافظة كيميائية.
إنها منتوجات "عولة الفرش"، مشروع تديره سميرة الخرشاني ومولته الجمعية الإيطالية ARCS ودعمته منظمة الإغاثة الإسلامية، تحت راية المجمع الفلاحي النسائي بالفرش غمراسن تطاوين.
اقرأ/ي أيضًا: الإرث الأمازيغي في نابل.. عن الفخار وسرّ قوة "النابلية"
"البداية لم تكن سهلة فقد علمت مديرة المشروع من الإدارة الجهوية للفلاحة بأن صندوقًا إيطاليًا مستعد لتمويل مشاريع في الجهة"، تقول سميرة الخرشاني لـ"الترا تونس". وتضيف مديرة المشروع "فكرنا طويلًا وبحثنا عن مشروع يجمع عددًا من النساء وقادر على توفير مورد رزق لهن ويتماشى مع خصوصية الجهة وفي النهاية نجحنا في إقناع الممولين بمشروعنا وهو تصنيع وتعليب مواد غذائية تتكون من منتجات الفرش وأطعمة غذائية تراثية مميزة لجهتنا ونجحنا في تعليبها والمحافظة عليها بطرق توارثناها عن الأجداد".
"لم تكن البعثة الإيطالية متساهلة ونجحنا في إقناعهم بالعمل الجاد وأثبتنا لهم منذ اللحظات الأولى مثابرتنا فقد انطلقنا في العمل من بيوتنا ثم اكترينا محلاً إلى أن نجحنا في الحصول على تمويل من منظمة الإغاثة الإسلامية لبناء وحدة تحويل صغيرة"، توضح الخرشاني.
في تلك القرية، تفوح رائحة "المخضور" وهو الشعير الأخضر الذي يتم حصده وإعداده على نار الحطب في أواني نحاسية تقليدية وكذلك تعد حبوب كسكسي القمح والملثوث والبسيسة وتجمع مكونات الطبيخة.
على الحطب وفوق "غناي" وهو إناء من الفخار وسط الطبيعة، يتم تصنيع الحريقة واللوسة ويتم أيضًا تحضير مربى الجزر وهو منتج خاص بهذا المجمع من ابتكارهن وقد تميزن به في تونس وحتى خارجها. والطريف، بحسب ما تؤكده رئيسة الجمعية سميرة الخرشاني لـ"الترا تونس" أن "منطقة الفرش تتميز بإنتاج الجزر بثلاثة ألوان البرتقالي والأصفر والبنفسجي".
على الحطب وفوق "غناي" وهو إناء من الفخار وسط الطبيعة، يتم تصنيع الحريقة واللوسة ويتم أيضًا تحضير مربى الجزر وهو منتج خاص
اقرأ/ي أيضًا: قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني يفتح ملف واحات جمنة من جديد
وفي هذا السياق، تؤكد الخرشاني أن "كل منتجاتهم مراقبة من طرف وزارة الصحة ووزارة التجارة وأن صناديق التمويل الأجنبية صارمة جدًا في هذا الخصوص". وتلاقي منتجات "عولة الفرش" الإقبال الكبير من طرف الحرفاء المحليين وكذلك التونسيين بالخارج وهم يمثلون نسبة كبيرة من أبناء في الجهة.
على هذه الأرض تشم وتتذوق أنواع صلصة تعود إلى مئات السنين أعدها سكان هذه الأرض من البربر، ويحدث أن تتذوق التاريخ وتتلذذ بالهوية في أطباق تتجاوز أن تكون مجرد أكلات بل إنها موروث يعد ويحفظ كما الأسلاف.
هناك وأنت تعبر الوديان والمنحدرات الشائكة، ترى نساء ريفيات اجتمعن في هذا المشروع على اختلاف أعمارهن ومستوياتهن التعليمية وقررن تقديم موروثهن الغذائي والتسويق له خارج البلاد.
وقد قمن بعرض منتجهن في قلب المدينة الإيطالية ميلانو وانبهر الإيطاليون بالمذاق اللذيذ والأهم بمواد بيولوجية طبيعية خالية من أي مواد كيميائية، وفق تأكيدات محدثة "الترا تونس" سميرة الخرشاني.
"يُدار المشروع عبر جمعية تكبر يوماً بعد آخر وتحرص النساء المنضويات فيها على الحفاظ على المداخيل لأجل توسيع المشروع والاكتفاء بالحصول على أجرة كل عملية تصنيع وتعليب"، وفق ذات المتحدثة، التي تضيف "إننا نسعى للحفاظ على رأس المال مخافة أن ينقطع التمويل الأجنبي فلا نريد لمشروعنا أن يتوقف بل نريده أن يتطور ونبحث دائمًا عن صندوق يمولنا من أجل أن نتخصص في منتجات أخرى فنحن نأمل أن ننجح في تصنيع معجون الطماطم المركزة دون أي مواد حافظة وبطريقة صحية تقليدية. وطموحنا أيضًا أن نبيع القديد (وهو اللحم المجفف)".
يُدار المشروع عبر جمعية تكبر يوماً بعد آخر وتحرص النساء المنضويات فيها على الحفاظ على المداخيل لأجل توسيع المشروع والاكتفاء بالحصول على أجرة كل عملية تصنيع وتعليب
وتؤكد مديرة المشروع أن قديد "الفرش" مختلف المذاق لأن "لحم الخرفان في الجهة مميز فهو يتغذى من نباتات صحراوية وكذلك طريقة تخزينه مختلفة"، وفق تأكيدها.
هذا المشروع لنساء ريفيات في الجنوب الشرقي على قطعة أرض محدودة وفي منطقة وعرة وهن يطمحن أن تتحول إلى تعاونية في إطار ما يُعرف بـ"الاقتصاد التضامني الاجتماعي" وحتى تتوفر لهن أجور محترمة ويستقطب عددًا كبيرًا من نسوة الجهة.
وفي ختام حديثها مع "الترا تونس"، دعت الخرشاني كل النساء الريفيات وخاصة اللاتي يقطن في الشمال والوسط أن يسعين للعمل "فتربتهم ذهب وبإمكانهن زراعة وإنتاج أجود أنواع الغلال والخضر وعليهن التوجه إلى الإدارات الجهوية للفلاحة والحصول على الدعم"، مبينة أن السلط المحلية في تطاوين تقوم بتوجيههن وهي التي تعلمهن بفرص التمويل والدعم.
اقرأ/ي أيضًا:
التقويم الفلاحي.. ذاكرة الفلاحين في استقراء المناخ
الزريبة العليا: القرية التي لا تُمحى من ذاكرة المجال والتّاريخ