09-أبريل-2019

كيف ستواجه الصحافة التونسية السياسيين الشعبويين؟ (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تواتر الحديث طيلة الأسابيع الماضية عن بعض المترشحين إلى الانتخابات وبالخصوص الانتخابات الرئاسية، لكن استأثرت شخصيتان مثيرتان بالنقاش في الميديا وفي الفيسبوك خاصة بعد أن ظهرا في استطلاعات الرأي وهما عبير موسي من جهة أولى وقيس سعيّد من جهة ثانية إضافة إلى بعض الشخصيات الأخرى. ولصعود هذين المرشحين علاقة بمسألتين مترابطتين حسب اعتقادنا وهي ما يسمى "أزمة الانتقال الديمقراطي" وليس فحسب أزمة منظومة الحكم.

اقرأ/ي أيضًا: في أزمة الصحافة التونسية أو احتضارها..

الشعبوية السياسية.. من أعراض أزمة الديمقراطية التونسية

إن الفكرة التي يجب أن نستند إليها في تحليل صعود مثل هذه الشخصيات ما يمكن أن نسميه "المفارقة التونسية". فالديمقراطية التونسية استثنائية في سياقها العربي وهي لا تزال ناشئة، كما لا تزال بعض مؤسساتها جينية أو لم تستقر بعد ولكنها في الوقت ذاته ديمقراطية عليلة أصابتها كل الأمراض تقريبًا التي أصابت الديمقراطية التاريخية أي الامتناع عن التصويت (Abstentionnisme)، والعزوف عن الشأن السياسي (Désenchantement politique) إضافة لتراجع المشاركة السياسية والثقة في السياسيين. بل تبدو الديمقراطية التونسية وكأنها تعاني من "الركود الديمقراطي"(Democracy Recession) الذي يتحدث عنه الباحث لاري دياموند (Larry Diamond) ويتمثل خاصة في تراجع الإيمان بالديمقراطية.

لا شيء يمنع إذًا في سياق طلاق التونسيين مع السياسة وخيبة أملهم المتعاظمة في النظام السياسي الجديد (نظرة التونسيين إلى البرلمان) وأزمة شرعية النخب التي أدارت السلطة منذ 2011 وفشلها في إدارة الشأن العام الاقتصادي والاجتماعي أن نرى ظهور تعبيرات سياسية "شعبوية" كما شهدتها الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية.

لا شيء يمنع في سياق طلاق التونسيين مع السياسة وخيبة أملهم في النظام السياسي الجديد أن نرى ظهور تعبيرات سياسية "شعبوية" كما شهدتها الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية

تتعاطى الصحافة التونسية مع "الشعبوية" على أنها صفة يمكن أن تطلق على الخطاب الذي يبتغي رضاء الشعب وقبوله ويخدم مصالحه. وبمعنى أخر، فإن الخطاب الشعبوي هو خطاب عاطفي سفسطائي وغير واقعي، إن شئنا، يلجأ إليه كل السياسيين إذا ابتغوا الحصول على رضاء الشعب.

كما يتهم السياسيون بعضهم البعض أحيانا بالشعبوية أي بالحديث بما يعجب الشعب أي ما يستجيب لمشاعره وعواطفه أو حتى غرائزه. وبمعنى أخر، يخلط الخطاب السائد بين الديماغوجيا (Démagogie) والشعبوية بما أنها، في الخطاب السائد، أسلوب سياسي (أو حيلة اتصالية) يقوم على المقولات البسيطة أو التبسيطية  التي لا تخاطب العقل بل الغريزة والعاطفة ويقع الخلط في أحيان كثيرة بين الشعبوية وبين القرارات "الإنتخابوية" (Electoraliste) التي  تريد الحصول على رضاء الناخبين.

والحقيقة أن هذا الاستخدام لا يتناقض فقط في نواح عديدة مع المضمون السياسي والتاريخي لمصطلح الشعبوية بل هو لا يسمح بإدراك دلالات صعود بعض الشخصيات والأحزاب السياسية غير النمطية التي تقدم نفسها بشكل صريح أو ضمني باعتبارها بديلًا عن النخب السياسية الحاكمة. هكذا وفّرت أزمة الديمقراطية التونسية اليوم الشروط الموضوعية لظهور الخطاب السياسي الشعبوي أو على الأقل بوادره.

ما الشعبوية؟

يمثل صعود الشعبوية في الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية أهم تحوّل سياسي في السنوات الأخيرة كما تجسّد في صعود اليمين المتطرف في فرنسا وفوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 وفوز اليمين المتطرف في كل من إيطاليا والبرازيل والمكسيك وفي تنامي المعارضة اليمينية المتطرفة في ألمانيا والنمسا. ولكن الشعبوية ليست يمينية فقط بل يمكن أيضًا أن تكون يسارية،  لكن ما هي مقومّات الخطاب الشعبوي السياسي؟    

ثمة عناصر مشتركة وقارة في الخطاب الشعبوي ومنها على وجه الخصوص الحقد على النخب السياسية التي تتهم أنها خانت الشعب لأنها خدمت مصالحها أو مصالح قوى اقتصادية على حساب مصالح الشعب، وإدعاء تمثيل الشعب الحقيقي والحديث باسمه بل الإدعاء أصلًا باختزاله. فيقدم السياسي الشعبوي نفسه على أنه رمز الشعب أو خادم  له، إذ يقول ترامب مثلًا "لقد أحلنا السلطة من واشنطن إلى الشعب" (We are transferring power from DC back to people).

ثمة عناصر مشتركة وقارة في الخطاب الشعبوي ومنها على وجه الخصوص الحقد على النخب السياسية التي تتهم أنها خانت الشعب لأنها خدمت مصالحها أو مصالح قوى اقتصادية على حساب الشعب

بل يتصرف السياسيون الشعبويون وكأنهم ضمير الشعب، وهكذا يطمحون إلى أن يكونوا "صوت الشعب" أو الناطق باسمه ويدافعون نيابة عنه ضد الأعداء الذين يترصدون به (المهاجرون في أوروبا مثلًا) وبمصالحه وبهويته . والشعبوية من هذا المنظور تدعي أنها تمثل الناس العاديين والبسطاء أي الشعب بالمعنى المتداول للكلمة في مقابل النخب والفئات الاجتماعية التي تستفيد من العولمة أو من الطبقات الاجتماعية الميسورة (أو الرأسمال في الخطاب الشعبوي اليساري).

كما يقوم الخطاب الشعبوي على استحضار المؤامرة الأجنبية وأن هناك قوى أجنبية تتآمر على الشعب ومصيره (قوى خليجية مختلفة تتآمر على الثورة وتريد الغدر بها أو على العكس من ذلك تتآمر على استقلال تونس ومناعتها باسم الربيع العربي). وتناهض الشعبوية السياسية الشكل التمثيلي للديمقراطية وتطالب بالديمقراطية المباشرة التي تسمح بأن يمارس الشعب مباشرة دون وساطة.

اقرأ/ي أيضًا: "كيف سننتخب؟": في نزاهة المسار الانتخابي (4/1)

وفي كل الأحوال، تتكيّف الشعبوية مع السياقات التي تتشكل فيها وهي ليست بالضرورة أيديولوجيا منتظمة في نسق فكري ويمكن أن تكون مجرد أسلوب في ممارسة السياسية أو خطاب لتغليف خطاب قومي عنصري أو مناهض للديمقراطية يقوم على حنين مقنع للنظام السياسي السلطوي.

وإذا اعتمدنا هذا التوصيف، يمكن القول إن ثمة خطابات أو حركات سياسية في تونس تنتهج أو تستبطن الأسلوب السياسي الشعبوي رغم اختلافاتها الإيديولوجية العميقة. ويقوم هذا الأسلوب من الناحية الخطابية على:
- الحديث باسم الشعب أو إدعاء تمثيله أو التحالف معه. ومثلًا، تقول عبير موسي إنها ستتحالف مع الشعب التونسي.
- نقد النخب الحاكمة المتحالفة منذ 2011 واتهامها بالفشل والفساد والغدر (بالثورة أو بالبلاد) وتقديم النفس كبديل لها.
- التركيز على فكرة العدو الداخلي: قوى النظام القديم التي تترصد بالثورة وبإنجازاتها وتسعى إلى غدرها أو قوى الإرهاب والإسلاميين اللذين يتآمرون على أمن البلاد وهويتها.  
- القول بالعدو الخارجي (خليجي، فرنكوفوني، تركي) الذي يتجسد في قوى أجنبية تتآمر على البلاد أو بالثورة بالتحالف مع قوى داخلية (العدو الداخلي).
- حكم الشعب لنفسه بواسطة تعزيز الديمقراطية المحلية وهذا العنصر ليس دائما جليًا في مثل هذه الخطابات. يطالب مثلًا قيس سعيد بأن يكون الحكم المحلي والجهوي أساس الديمقراطية إضافة إلى إمكانية سحب الثقة من المنتخبين تأكيدًا لإرادة الشعب الكاملة.

 إن العديد من المترشحين الذي نصفهم هنا بالشعوبيين يدعون أنهم يمثلون الشعب التونسي الحقيقي. ومن هذا المنظور، يعكس النقاش إذًا حول صعود هذه الشخصيات صراعًا خفيًا حول "ما الشعب؟". فهل الشعب التونسي تقدمي وحداثي ومناصر للقضايا الاجتماعية فيصبح التصويت لمن لا يمثل هذه المبادئ والمثل أمرًا غير سوي وغير طبيعي؟ أم أن الشعب متمسك بقيمه الثقافية وهويته الدينية ومناصر للثورة وعندما لا يصوت التونسيون لمن لا يعبر عن هذه القيم والمبادئ فالأمر لا يستقيم لأن ذلك يتناقض مع طبيعة الشعب الأصيلة؟

 تتكيّف الشعبوية مع السياقات التي تتشكل فيها وهي ليست بالضرورة أيديولوجيا منتظمة في نسق فكري ويمكن أن تكون مجرد أسلوب في ممارسة السياسة أو خطاب لتغليف خطاب قومي عنصري

في كلتا الحالتين، هناك اعتقاد بأن الشعب التونسي كتلة واحدة متناغمة ذات جوهر أصيل وأبدي وليس جماعة سياسية متنوعة تعبر عن نفسها (على الأقل في الديمقراطية التمثيلية) عبر اختيار ممثلين لها متنوعين يعبرون عن التنوع السياسي.

ويعكس كذلك النقاش حول الشخصيات الجديدة وغير النمطية وجدارتها بأن تحكم البلاد ومدى توفر صفات الحكم لديها بعض التمثلات الكامنة لدى السياسيين ولدى الناس أيضًا، وكأن ثمة شروط ما يجب أن تتوفر في ممارسة السياسية قد تجعل منها مجالًا مخصصًا لـ"أرستقراطية" ما أو نخبة. ويذكرنا هذا النقاش باستهزاء النخب السياسية وقطاعات من الأمريكيين بترامب باعتباره شخصية لا تليق بالديمقراطية الأمريكية العريقة.

الصحافة في مواجهة السياسيين الشعبويين

تشير بعض المقاربات إلى أن الشعبوية تقوم أيضًا على مهاجمة الصحافة والميديا ونزع الشرعية عنهما والإدعاء أن الصحفيين متحالفين مع النخب السياسية. والشعبوية من هذا المنظور مرتبطة كما يقول ياشا مونك (Yascha Mounk)، صاحب كتاب "الشعب ضد الديمقراطية"  ومن أهم الباحثين في أزمة الديمقراطية، بأدوار الميديا الاجتماعية التي ساهمت في الترويج لأفكار وشخصيات هامشية وبتراجع أدوار الميديا التقليدية التي كانت تحدّ من نفاذ هذه الشخصيات والأفكار إلى المجال العمومي.

واجهت بذلك النخب الأمريكية السياسية والفكرية والصحفية ترشح ترامب للانتخابات الرئاسية الأمريكية بكثير من التهكم معتبرة إياه "مهرجًا" (Showman) لا غير لا يمكن أن يعبر عن الشعب الأمريكي. وكان انتصار ترامب بمثابة الكارثة الرمزية بالنسبة إلى هذه النخب حتى أن جيم روتنبارج (Jim Rutenberg) وهو وسيط جريدة نيويورك تايمز (المكلف بالتواصل مع الجمهور) ومن أهمّ الصحفيين الأمريكيين، كتب رسالة للقراء يعتذر فيها عن التغطية التي قامت بها الصحيفة للانتخابات الرئاسية وأعترف بأن الصحفيين لم يدركوا بشكل جيد غضب الأمريكيين.

تشير بعض المقاربات إلى أن الشعبوية تقوم أيضًا على مهاجمة الصحافة والميديا ونزع الشرعية عنهما والإدعاء أن الصحفيين متحالفين مع النخب السياسية

يقول جيم روتنبارج في رسالته "لا يتعلق الأمر بفشل استطلاعات الرأي فقط إن الأمر أوسع من ذلك لأننا فشلنا (أي الصحفيين الأمريكيين) في الإصغاء إلى غضب قطاعات واسعة من الأمريكيين التي تخلت عنها أقلية والتي تعتبر أنها خانتها بسبب القبول بإتفاقات تجارية يعتبرها الأمريكيون تهديدًا لهم وهو تهديد لم تقدره واشنطن (أي الرئاسة) ووال ستريت (البورصة) والميديا". ولم يتوقف جيم روتتبارج عند نقد استطلاعات الرأي التي أفسدت قدرة الصحفيين على معرفة أراء الأمريكيين ومشاعرهم بل وعد القراء أيضًا بأن تعود الصحيفة إلى مهمتها الرئيسية وهي إخبارهم بالوقائع وبما يحصل في المجتمع الأمريكي دون خوف أو مراعاة لهذا الطرف أو ذاك.

وفي مقال آخر، يقول الصحفي الأمريكي مجددًا إن الميديا لم تتجرأ على التشكيك في معطيات استطلاعات الرأي التي كانت تؤكد اعتقادهم أن ترامب لن ينتصر أبدًا. ويرى أن "الصحفيين رسموا صورة مغلوطة عن مناصري ترمب المؤمنين بانتصاره وذلك حين تم اعتبارهم منقطعون الواقع، وفي النهاية فإن العكس هو الذي تحقق".

اقرأ/ي أيضًا: "كيف سننتخب؟": استطلاعات الرأي.. مرآة "الرأي العام" أو آلية لصناعته؟ (4/2)

ومن المراجعات الهامة التي قام به الصحفيون، نجد أيضًا مقال نيكلاس كريستوف، الكاتب الصحفي في جريدة نيويورك تايمز، الذي قال إن "نصيبي من العار كيف ساعدت الميديا الأمريكية ترامب على الفوز" وذلك عبر استغلال الصحفيين لخطاباته وتهريجاته اعتقادًا بأنهم يتلاعبون به لأنهم بحاجة إليه لجلب المشاهدين لبرامجهم وذلك على حساب التحقيق في برامجه ووعوده. 

وفي فرنسا، مثّل صعود حركة "السترات الصفراء"، التي ينظر إليها على أنها  تعبير عن شعوبية يمينية، تحديًا كبيرًا بالنسبة لمهنة الصحافة ليس فقط بسبب الاعتداءات التي تعرض إليها الصحفيون لكن أيضًا بسبب عدم قدرتها على تمثيل عوالم الفرنسيين البسطاء أو انقطاع الصحفيين عن حياة الفرنسيين خارج المدن الكبرى أي من حيث انطلقت هذه الحركة الاحتجاجية. وهو ما أكده تقرير صادر عن  المجلس الأعلى للاتصال (الهيئة التنظيمية للميديا السمعية البصرية الفرنسية) الذي كشف أن 88 في المائة من الفرنسيين الذين يظهرون في نشرات الأخبار ينتمون إلى الفئات الاجتماعية الميسورة" وهي مفارقة غريبة بالنسبة للصحافة الفرنسية. لذلك مثل ارتداء المحتجين لـ "السترات الصفراء" علامة لإرادتهم في أن يراهم الآخرون والخروج من حالة العتمة التي كان يعيشون فيها.

في كلتا الحالتين (صعود ترامب والسترات الصفراء)، يرتبط رفض النخب السياسية أيضًا برفض النخب الصحفية وبالميديا السائدة بشكل عام باعتبارهما يمثلان مكونين مترابطين لما يسمّى المؤسسة الحاكمة "Establishment" مما قد يفسر إنشاء حركة "السترات الصفراء" وأحيانًا لميديا خاصة بهم والاعتداءات على الصحفيين الفرنسيين الذين يرى فيهم المحتجون جزءًا من منظومة الحكم.

ماذا يمكن أن ننتظر من الصحافة؟

تتعامل الصحافة التونسية إلى حد الآن مع السياسيين المرشحين "الشعبويين" وغير النمطيين، بعد صعود بعضهم في استطلاعات الرأي وتنامي ظهورهم في الميديا الاجتماعية، بحذر أو استغراب وأحيانًا باستهجان. في حين أخرج البعض نظرية المؤامرة والتلاعب باعتبار أن هناك أحزاب سياسية تناور بورقة هؤلاء إلى حين. وفي كل الأحوال، لا نرى إلى الآن باستثناء التعليقات في البرامج الحوارية التقليدية اهتمامًا صحفًيا ما أو ميدانيا بالسياقات الاجتماعية التي يتحرك فيها هؤلاء المرشحين الصاعدين.

لم نشاهد إلى حد الآن مثلًا تغطيات صحفية في شكل تحقيقات للاجتماعات التي تنظمها عبير موسي أو تحقيقات ميدانية لدى الأوساط التي ترى في قيس سعيد رئيسًا لكل التونسيين. وقد يكون ذلك لأسباب عديدة مرتبط بعضها بالتقاليد الصحفية السائدة في تغطية الانتخابات عبر الاكتفاء بنقل أخبار الحملة والحوارات في البرامج التلفزيونية والإذاعية، ولكن وقد يكون هذا القصور خوفًا من مساهمة هذه التغطيات بشكل أو بأخر في الترويج لهؤلاء المرشحين. ولذلك تكتفي الصحافة والبرامج الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون بتعليقات ما يسمّي "الكرونيكور"  وتأويلاتهم وتفسيراتهم لصعود هذه الشخصيات الجديدة.

تتعامل الصحافة التونسية إلى حد الآن مع السياسيين المرشحين "الشعبويين" وغير النمطيين بحذر أو استغراب وأحيانًا باستهجان

هكذا تجد الصحافة والميديا في تونس نفسها أمام التحدي ذاته التي واجهته الصحافة الأمريكية والأوروبية أمام الشخصيات السياسية الشعبوية أو غير النمطية.

لكن توجد ثلاث مقاربات ممكنة:

- أولًا: المقاربة الانتهازية عبر تحويل هذه الشخصيات غير النمطية إلى زبون جيد للصحافة وللبرامج الإخبارية لأنها تشد الانتباه وتجلب المشاهدين وتخلق الجدل بما أنها تثير الاستقطاب حولها في الميديا الاجتماعية، وتتيح للصحفي المحاور بأن يتحول أحيانًا إلى مصارع حين يحول برنامجه إلى حلبة. ثم بعد ذلك يتم استغلال البرنامج وتحويله إلى مقاطع قصيرة يتم الترويج إليها في الفيسبوك وفي اليوتيوب مما يساهم في الزيادة من حجم التفاعلات في الصفحة (وخاصة التعليقات بما في ذلك الشتائم للمرشح ولمريديه ولخصومه).

وتساهم هذه الطريقة في حذف سياق الحوار وتشجيع الناس على التفاعل بطريقة عاطفية مع ما يرونه وما يستمعون إليه. ورغم عنها، ستقوم الميديا التي تتعامل بهذه الطريقة الانتهازية مع هؤلاء المرشحين إلى خدمة إستراتيجية المرشح في الظهور والاستفادة من الضجيج الذي يثيره حضوره في البرنامج.

 -  ثانيًا: الاستهزاء بالشخصيات السياسية الشعبوية والتعامل معها على أنها "مسخرة" أو مزحة (تمامًا كما تصرفت الصحافة الأمريكية مع ترامب) والتنكيل بها رمزيًا والعمل على إظهارها في ثوب سلبي (كخطر على الديمقراطية) خاصة في البرامج الحوارية. وقد ينظر بعض التونسيين إلى عملية التنكيل الرمزي بمرشحهم باعتبارها حجة على صدقه بما أنه بديل عن النخب العاجزة، بل قد ينظر إليه البعض على أنه ضحية "تحالف النخب السياسية والصحفية" ذات المصالح المشتركة. ولعلّ المنصف المرزوقي قد استفاد جزئيًا من هذا الاعتبار.  

- ثالثًا: الخروج من الأستوديو وعدم الاكتفاء باستطلاعات الرأي كمادة لتفسير صعود هذه الشخصيات وعلى تحليلات المعلقين والمحللين في البرامج الحوارية أو على المواجهات التلفزيونية بين المترشحين، أي بمعنى آخر تبجيل تغطية الحملة من "خارج الأستوديو". وهو يعني استكشاف السياقات الاجتماعية والسياسية التي تزدهر فيها خطابات المترشحين غير النمطيين وتجعل من بعض التونسيين يختارون رموزًا بديلة عن النخب التقليدية البرلمانية التي تشكل منظومة الحكم ومعارضته. وهي مقاربة تعني أيضًا استبدال المواجهة بالمداولة الرصينة في البرامج والتحقيق في مصداقيتها.   

وفي كل الأحوال، يمكن أن تمثل الدروس التي استخلصتها الصحافة الأمريكية من فوز دونالد ترامب واعترافها الصريح بأخطائها منطلقًا جيدًا للصحافة التونسية للبحث عن مقاربة تحريرية تسمح للتونسيين بالاقتراع بشكل عقلاني ومستنير.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

"كيف سننتخب؟": كيف يهدّد الفيسبوك مسار انتخابات 2019 في تونس؟ (4/3)

"كيف سننتخب؟": كيف يمكن أن تؤثر الصحافة والميديا في الانتخابات المقبلة؟ (4/4)