25-مارس-2024
معرض ذاكرة أجيال 1894-2004 بالمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر

معرض "ذاكرة أجيال 1894-2004" شبه دائم، يتواصل طيلة سنة 2024 (موقع المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر)

 

منذ انبعاثه سنة 2018 و"المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر" كمؤسسة ثقافية تونسية عمومية كائنة بمدينة الثقافة بالعاصمة وتشرف عليها وزارة الشؤون الثقافية، ما انفك يثير حوله النقاشات والمعارك الصغيرة المذيّتة، الميّالة إلى الابتذال الثقافي والتطاحن البيروقراطي المسيئة للمتحف ورمزيته كسقف مضيء للفن التشكيلي في تونس والبعيدة كل البعد عن "فكرة الفن" كما تصفها الفلسفة، وذلك تقريبًا مع كل الأنشطة التي أقدم عليها المتحف طيلة هذه السنوات.

معرض "ذاكرة أجيال" (1894-2004) الذي انطلق بداية شهر مارس 2024، اعتبر افتتاحًا رسميًا غير معلن للمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر

وهذه الأنشطة تدور حول تهيئة الفضاء مجملًا والمخازن التي استقبلت جزءًا من الرصيد الوطني إلى المعارض الخمسة التي أنجزت والتي خضع أغلبها إلى إملاءات إدارية سياسية وشخصية في بعض الأحيان، مع غياب الحنكة في إدارة هذا النوع الجديد من المؤسسات الثقافية فيأتي النشاط "غير متحفي" بالمعنى العلمي للكلمة وبعيدًا كل البعد عن الثقافي والجمالي هذا طبعًا إذا استثنينا لحظة التأسيس مع الأستاذ والفنان سامي بن عامر والتي قصفت بفعل سياسي، زد على الغياب الكلي للخطط الاتصالية. 

 

معرض ذاكرة أجيال
جاوز عدد الأعمال المقتناة من قبل "لجنة الشراءات" إلى حد اللحظة قرابة 13 ألف عمل من مختلف الأجناس التشكيلية (موقع المتحف)

 

ويمكن رد ذلك إلى مسألة أساسية وجوهرية لا يمكن بحال من الأحوال الزيح عنها أو تأجيل الانتباه إليها في وقت لاحق وتهم "المفهوم" وبمعنى تساؤلي حارق: ما هو المتحف؟ وما هو دوره في المشهد الثقافي؟ لأننا إذا ما خضنا حرب المفهوم وما تلاها من تحديدات أخرى تتعلق بالمكانة والدور، فإننا سنترك كل زيف وسنذهب إلى الفعل المتحفي الحقيقي المساهم مع باقي الفنون والآداب في انعكاس الفعل الثقافي على المجتمع والذي من أجله نبذل المال العام.

 

 

كان لا بدّ من هذه الأسطر ونحن نتطرق إلى معرض "ذاكرة أجيال" (1894-2004) الذي انطلق بداية شهر مارس/آذار 2024، واعتبر افتتاحًا رسميًا غير معلن للمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر الذي تديره حاليًا الأستاذة الجامعية والفنانة التشكيلية أحلام بوصندل على اعتبار خضوع المعرض إلى جملة من المسارات الموضوعية ذات نواح تقنية وثقافية وفكرية.. دامت عدة أشهر تقاطعت أحيانًا وتفرّدت أحيانًا أخرى لتكون تمرينًا ناجحًا للعمل المتحفي المستجدّ في تونس.

معرض "ذاكرة أجيال" اشتغل على ما نسميه في تونس "الرصيد الوطني" وهو ما توفر للدولة من أعمال ولوحات فنية صودرت من القصور والدور والمؤسسات القائمة قبل إعلان الجمهورية، إضافة إلى جملة اقتناءات الدولة من المعروض التصويري الفني من خلال المعارض المقامة فرديًا وجماعيًا منذ الاستقلال إلى اليوم ضمن خيار سياسي استراتيجي توخته دولة الاستقلال وتواصل الى اليوم لانعكاسه التاريخي والثقافي الهام، وقد جاوز عدد الأعمال المقتناة من قبل "لجنة الشراءات" إلى حد اللحظة قرابة 13 ألف عمل من مختلف الأجناس التشكيلية.. وقد خُزّنت لسنوات طويلة بالقصر السعيد بباردو ونقلت الآن ضمن خطة "إنقاذ الرصيد الوطني" إلى مخازن المكتبة الوطنية وإلى المخازن العصرية والمتطورة بالمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر.

معرض "ذاكرة أجيال" اشتغل على يُعرف بـ"الرصيد الوطني" وهو ما توفر للدولة من أعمال ولوحات فنية صودرت من القصور والدور والمؤسسات القائمة قبل إعلان الجمهورية، إضافة إلى جملة اقتناءات الدولة

معرض "ذاكرة أجيال" وقبل أن ينبلج كنور جمالي أمام المتلقين، وجد نفسه إزاء أسئلة حارقة من قبيل "التمشي التاريخي" و"التمشي الأسلوبي" و "الهدف الأسمى من المعرض".. وأيضًا هناك أسئلة فرعية فرضت نفسها. أما فرق العمل التي اشتغلت على المعرض من قبيل: هل لجان الشراءات المتعاقبة كانت موضوعية في عملها وأمام فعلها التاريخي أم كانت لها انزياحات أضعفت الرصيد من عدة نواح؟ وهل سنوات التخزين الطويلة أضرت ببعض الأعمال التي لا يجود الزمان بمثلها لفرادتها ولعمق تجربة صاحبها؟

ورغم الحيرة المشوبة بالدهشة والانبهار والحمل على الحلم، ذهبت لجنة الانتقاء التي شاهدت آلاف الأعمال تم الاتفاق بعد جلسات مداولات على ما هو بين أيدي المشاهدين في قاعات المتحف ضمن تمشٍ بصري وجمالي سهرت عليه لجنة مختصة رفقة فنيي المتحف الذين انبروا للترميم وصيانة الأعمال وتجهيزها.

 

معرض ذاكرة أجيال
الباب الأول حملنا إلى ما تم التوافق عليه بـ"ميلاد رؤية فنية" وهو قسم يقدّم تلك الإرهاصات الأولى والتجارب المتفردة والمتفرقة (موقع المتحف)

 

المعرض الذي يتواصل طيلة سنة 2024 (شبه دائم) هو فعلًا "ذاكرة أجيال" من الفنانين التشكيليين والمصورين من مختلف الحقب والفترات التي جاوزت أكثر من قرن من الزمن والمدارس التشكيلية الذين عاشوا في تونس أو نشأوا بها وكان مرورهم الفني والإبداعي والجمالي مبهرًا ولافتًا ومؤثرًا وقائمًا على التفكير والحث عليه بوعي.

المعرض يضعنا أمام رحلة لها أبواب ثلاثة تفتح على جملة من الرؤى التي شكلت ذاكرة وتاريخ الفنون التشكيلية في تونس. فالباب الأول حملنا إلى ما تم التوافق عليه بـ"ميلاد رؤية فنية" والتي توزعت بين ما سمي بـ"الرواد" وهو قسم يقدّم تلك الإرهاصات الأولى والتجارب المتفردة والمتفرقة وربما ما يمكن تسميته بانبلاجات اللوحة المسندية التونسية، فنجد أعمالًا لتونسيين مسلمين ويهود وفرنسيين وإيطاليين وألمانيين ومالطيين وروس.. حملتهم الرياح إلى تونس لأسباب مختلفة ومتشعبة التفسيرات فتركوا إرثًا فنيًا مليئًا بالصور والرموز وتجليات تونسية وطنتها أحاسيسهم وألوانهم على المحامل.

 

 

نذكر من بين هؤلاء: ماريتا كالو وموريس بيسموت وجول للوش وعبد العزيز بالرايس والهادي الخياشي والكسندر روبوتزوف وموزيس ليفي وآدمونت كوس وهنري دبادي ومارسيل ديكلواتر وجينين فارزم ورونيه بينو وبيار بوشارل والكسندر فيشي وروبير هو ونتاشا ماركوف وأنطونيو كوربورا وغاستون لويس لومونيي وروني غايوت وعمارة دبش وأندري دي لا كروا وماكس مورو وهنري سعادة وعبد الحميد بوزيان.. وآخرون. وهي أعمال متباعدة في الزمن ومختلفة التقنيات والمواضيع، لكن خيطها الناظم هو الضوء التونسي وتلك الزوايا المستحيلة التي نظر من خلالها الرسامون إلى الطبيعة التونسية أو نسق الحياة اليومية بالمجتمع التونسي.

أما القسم الثاني ضمن "ميلاد رؤية فنية" فذهب إلى المنطقة الذهبية في تاريخ الفن التشكيلي التونسي والتي تعد الأكثر إثارة وإسالة للحبر وهي ما جاء تحت عنوان "مدرسة تونس ومعاصروها"، وقد تخيّر منظمو المعرض هذا العنوان بذكاء علمي وضمن تخطيط سينوغرافي للمعرض تمت فيه مراعاة الخط الكرونولوجي وسطوة الفراشي المبهرة، لأن مدرسة تونس التي تأسست سنة 1949 ذات جلسة ثقافية بمقهى باريس وترأسها في البداية "بيار بوشارل" والتي عادة ما تذكرة منفردة كطغمة لا يقتحم دائرتها أي كان، أحيطت هذه المرة بما تفرع عنها والتأثيرات التي تركتها لدى بعض التجارب التونسية. ويمكن اعتبار هذا القسم الأشد إضاءة ووضوحًا من جهة المواضيع المطروقة والسرد القصصي القصير لحياة التونسيين والتقنيات المستعملة والشجاعة الفنية لدى البعض والتأني مع التاريخ. 

 

معرض ذاكرة أجيال
القسم الثاني ضمن "ميلاد رؤية فنية" ذهب إلى المنطقة الذهبية في تاريخ الفن التشكيلي التونسي وهي ما جاء تحت عنوان "مدرسة تونس ومعاصروها" (موقع المتحف)

 

كما نلمح أيضًا الخيط الرفيع الذي يجمع مدرسة تونس وما جاورها وتأثر بها وهو "المواضيع الشعبية" التي كانت تسمى بـ"الفلكلور" وذلك ضمن خيارات مقصودة كان يسميها أبناء المدرسة والمنتصرين لها بتعميق البحث عن "الهوية التونسية" أو "البحث عن الذات" حتى تكون اللوحة تونسية بالمفهوم الحضاري. ويقدم هذا القسم من المعرض أعمالًا لرموز مدرسة تونس الموجودة في الرصيد الوطني ومنها نذكر: يحيى التركي وإدغار نقاش وبيار بورجول وزبير التركي وعمار فرحات وجلال بن عبد الله وعلي بلاغة وعبد العزيز القرجي وحسن السوفي وابراهيم الضحاك والهادي التركي.. ومن المعاصرين نذكر الهادي السلمي وفابيو روكيجياني ونجا المهداوي وحاتم المكي وعلي بن سالم ونجيب لخوجة..

المعرض هو فعلًا "ذاكرة أجيال" من الفنانين التشكيليين والمصورين من مختلف الحقب والفترات التي جاوزت أكثر من قرن من الزمن والمدارس التشكيلية الذين عاشوا في تونس أو نشأوا بها

أما الباب الثاني ضمن هذا الارتحال داخل المعرض، فجاء تحت عنوان "رؤى الحداثة" وهي تتحدث عن فترة ستينات وسبعينات القرن العشرين وخصوصًا مختلف التجارب التي تلت "مرحلة مدرسة تونس" والتي حاول أصحابها الحفر في ما بعد "الفلكلورية" وقضايا الهوية. فاجتمع أغلبهم في رواق "ارتسام" الشهير وقدموا لوحة تونسة مغايرة أكثر نضجًا وأكثر ثورية في اتجاه ما يحدث في العالم وفي ارتباط بحركة الفكر الكوني وتأثر الفنون التشكيلية بها، لقد كان جيلًا مغايرًا يبحث عن التجديد.

 

 

ومن أسماء هذا الجيل الموجودة داخل المعرض نذكر: المسطاري شقرون والحبيب شبيل وعامر مقني والمنوبي بوصندل ومحمود السهيلي والصادق قمش وإمحمذ مطيمط وجلال الكسراوي ومحمود التونسي والحبيب السعيدي والهادي اللبان وعبد المجيد بودن ومجمد بن مفتاح وخليفة شلتوت وعبد الحميد الحجام والهاشمي مرزوق ومحمد اليانقي ورضا بالطيب وعلي عيسى وعادل مقديش وخليل علولو وابراهيم العزابي والناصر بالشيخ ورضا بن عرب.. وغيرهم.

الباب الثالث ضمن معرض "ذاكرة أجيال" جاء تحت عنوان "رؤى شمولية" وتفرعت إلى "تشخيصية جديدة" و"تصورات لمادية جديدة" وهي منطقة التحرر من الأب وسلطة القدامى: المسحة الاستعمارية وسطوة تصور مدرسة تونس وما جاورها.

 

معرض ذاكرة أجيال
معرض "ذاكرة أجيال" يضعنا أمام رحلة لها أبواب ثلاثة تفتح على جملة من الرؤى التي شكلت ذاكرة وتاريخ الفنون التشكيلية في تونس (موقع المتحف)

 

ضمن هذه الرؤى الشمولية تسكن حرية الفنان والرسام التونسي. نجده "يسير مع الجماعة، لكن خطوته وحده" فراكمت التجارب ونضجت اللوحة التونسية وأصبحت تقول الواقع على نحو مختلف، وتحمل المتلقي على الحلم والتحليق في اتجاه المعنى كما حاولت الفلسفة تفسيره. ومن هذه التجارب قدّم المعرض ضمن "التشخيصية الجديدة" أعمال كل من: رفيق الكامل ورؤوف قارة وحاتم الغربي وعبد الحميد عمار والحبيب بوعبانة وحمدة دنيدن والصحبي الشتيوي وعائشة الفيلالي وعبد الرزاق الساحلي وعلي الزنايدي والهاشمي الجمل ومحمد نجاح وعبد القادر التريكي وعلي الفندري والحبيب بيدة وفوزي الشتيوي وسامي بن عامر ورشيد الفخفاخ وفاطمة الصامت وأحمد الحجري وفتحي بن زكور ومنجي معتوق والبشير الزريبي والأمين ساسي وحياة المؤدب القاسمي وكوثر الجلازي بن عياد..

 

 

أما التجارب التي خاضت معارك مع المواد المختلفة بما في ذلك الفوتوغرافيا من أجل حملها على الجمالي والإبداع المحمل بالرسائل، فنجد أعمال كل من: بوجمعة بالعيفة وعلي ناصف الطرابلسي ورضا الزيلي ومحمد العايب ومحسن الجليطي ونادية الجلاصي ووديع المهيري وفوزية الهيشري وصديقة كسكاس وبسمة هلال وخليل قويعة ووسام غرس الله ومحرز اللوز..

 

معرض ذاكرة أجيال
"معرض ذاكرة أجيال 1894-2004"، هو رحلة ضرورية يتجلى فيها خيال الفنان وأوجه من حياة التونسيين خلال قرن ونيف (موقع المتحف)

 

"معرض ذاكرة أجيال 1894-2004" المستمر بقاعات المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، هو رحلة ضرورية يتجلى فيها خيال الفنان وأوجه من حياة التونسيين خلال قرن ونيف.

المعرض هو شروع دائم في اتجاه التمحيص والتفكير علّنا نفهم أكثر فأكثر المسارات الشاقة التي قطعتها اللوحة التونسية لتكون كما هي عليه الآن.

المعرض هو قولة أولى من مقولات الرصيد الوطني المليء بالأسرار والحقائق الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية. قد تحملنا إلى مقولات أخرى أكثر صفاء وضياء.

"ذاكرة أجيال" خلق جدلًا هامًا وسط العائلة التشكيلية التونسية والأوساط الأكاديمية المختصة والثقافية عمومًا وهو -لعمري- جزء من مهمته، وذلك في سبيل ترسيخ عادة النقاش حول الفنون البصرية.