25-أبريل-2021

الزلفاني الرسّام التونسي الألمعي والمتحرر والمتعدد (كريم كمون)

 

تصدير: "لست مغامرًا باختياري بل هو قدري.."

                                        (فينسينت فان غوخ)

 

تمامًا كنخلة نحيفة سامقة صمدت لوحدها في العراء أمام الرّيح لتحرس الشاطئ الفسيح، يشقّ الفنّان التشكيلي "أحمد الزلفاني" سماء الثقافة التونسية، يكتب بهواجس المفكّر، قلمه قلبه، ودواته روحه، يخبُز الفوتوغرافيا بكفيّ فيلسوف يفقه قلق الأبيض والأسود لحظة التحميض في الغرفة السوداء، عوّاد وفيّ للمعين الأبديّ الذي انبلجت منه كل الفنون وهو المسرح. يحفر في دواميسه القديمة بحثًا عن تيمات ومعانٍ جديدة لشعريّة الأشياء.. لكن "الزلفاني" سرعان ما يعود إلى الفرشاة وهي بيته الفسيح الذي لا يشعر بالراحة إلّا في شرفاته الخرافيّة حيث المدى تساؤلٌ ووجهاتُ نظر، وتأمّلٌ صوفيّ في العدم والحريّة، وحيث المعمار الذي تبصره عينه معنى من معاني التجلّي..

"أحمد الزلفاني" يراكم تجربة أكثر من ثلاثة عقود من الفعل الثقافي كان خلالها يراوح بين الفنون

"أحمد الزلفاني" يحمل فُرشاته لواءً ويتّجه نحو مرسمه الخرافيّ ليبدأ في محاورة قماشاته ومراودة ألوانه، فيندهش كطفل أمام بياضها الرّهيب ليبدأ حفرًا من نوع آخر، قد يبدو ليّنًا وسهلًا، لكنّه في الحقيقة حفر في الصخر بفرشاة ناعمة، همّها إعادة تشكيل الذوق والخروج به من المعتاد والنمطيّ والمكرّر إلى مدارات جديدة آسرة تمنح العقل دهشته الأولى وتحفّزنا على استدلالات جماليّة غير معهودة، نظرت إليها العين وحوّلتها إلى صبيب القلب.

معرض "نحن الآخرون" لأحمد الزلفاني

"أحمد الزلفاني" يراكم تجربة أكثر من ثلاثة عقود من الفعل الثقافي لكنّه كان خلالها يراوح بين الفنون وينزّلها المنزلة التي تستحقّ، فكان "دراماتورج" بارعًا مفكّكًا ومروّضًا للنص المسرحي، وسابرًا لأغواره، وعارفًا لما تطلبه عين المتلقي من الخشبة وما فوقها من مشاهد مسرحية.. كما درّس الصورة الفوتوغرافية لسنوات عديدة بمعهد الفيلم المغاربي في تسعينات القرن الماضي وبكليّة الفنون والصورة (الإيداك)، وأقام معارض فنية عديدة بتونس وتحديدًا بالأروقة الخاصّة، وبلدان أجنبيّة كفرنسا والبندقية بإيطاليا والنمسا ونيويورك.. وكان أينما حلّ، تثير أعماله الفضول الجماليّ المتبوع بالأسئلة والنقاشات الفكرية العميقة.. 

اقرأ/ي أيضًا: جداريات الرسام حاتم المكي... كنز تشكيلي لفّه النسيان والإهمال

"أحمد الزلفاني" الفوتوغرافيّ و"أحمد الزلفاني" الرسّام لم يفترقا يومًا، هما يعيشان جنبًا إلى جنب داخل كينونة الفنّان، فتأتي الأعمال امتزاجًا غريبًا لعالميْن مختلفين تجمعهما لعبة الظلال التي كان الزلفاني يتقن خيوطها، أو لعلّها تأتي متسلّلة من عالم الخشبة حيث عجائب الظلال اللّامتناهية وحيث "الظلّية" مدعاة للخيال... 

"الزلفاني" له قدرة عجيبة على المزج الجماليّ، فوجوه شخصياته ينتقيها من الفوتوغرافيا وهي في قراءة سيميائية تمثل "الحقيقة"، ثمّ تتلقّفها الفرشاة لتبدأ مرحلة التشكيل وإعادة الصياغة والتحوير والبناء. وبالمنطق السيميائيّ نفسه، فإنّ ذلك يمثّل "الخيال"... إنّها عمليّة خلق جديدة تُقدم عليها الفرشاة بأناة وجهد، لتقدّم لونًا مقاومًا للفناء والعدم، وباعثًا على حياة جديدة للوجه الفوتوغرافيّ، حياة مغايرة لما كانت تحياه.

"زالف" كما يحلو للمقرّبين مناداته هو سيّد من سادة إحاطة الظلال بدقة عجيبة، وتقريبًا هو المتفرّد بذلك على مرّ رحلة الفنون التشكيليّة في تونس، فهو يحملها على بعضها البعض بأسلوب جماليّ آسر، وهي الألعاب نفسها التي يمارسها في المسرح، نجده يلعبها على القماش، إنّ "الضوء والعتمة هما قاعدته المثلى..." في كامل مدوّنته التشكيلية.

تتعدّد المعارض وتتعدّد الرؤى والتجارب، لكنّ شخصيّات "الزلفاني" تتشابه سلوكاتها وأشكالها على قماش اللوحات: فهي مجهولة وانطوائية، وبوجوه طوليّة صغيرة وعيون منطفئة وأطراف مرتعدة ورؤوس كبيرة... لكنّها طافحة بالحبّ، وتحاول أن تخفي سعادتها وحميميّتها التي تفيض أحيانًا من جنبات اللوحات.

الرسّام محمود شلبي بخصوص صديقه الرسّام أحمد الزلفاني: أعمال الزلفاني مأخوذة بضياءات الظلّ.. 

شخصيات أعمال "أحمد الزلفاني" ومن فرط خفّتها وملائكيتها ووقوفها على قماش اللوحات كغابة من الصفصاف المتعب المجهد، تحثّك على التقرّب منها ومصادقتها وملاطفتها والسكون إليها، وربما تمنحك فرصة مقاسمها أحزانها وبهجتها وتيهها.. قد نكون نحن من رسمنا "الزلفاني" بعد أن التقطتنا عينه من أتون الحياة الصعبة. 

 في معرضه الشخصيّ "نحن الآخرون" والذي احتضنه فضاء "كونسبت ستور" التابع لرواق دار الفنون بمدينة الثقافة بتونس العاصمة بين شهري مارس/آذار وأفريل/نيسان 2021، يركب الرسّام الفنّان أحمد الزلفاني مركبًا آخر "مأخوذًا بضياءات الظلّ" كما يصف ذلك صديقه الرسّام المرموق "محمود شلبي"، فتأتي الأعمال وفيّة لأنساقه المازجة للفوتوغرافيا بالأكريليك أو الألوان الزيتية، وشخصياته المجهولة المندهشة والمأخوذة لتوّها بتيه الحياة... لكنّه يتحوّل إلى سارد بالصورة، حيث يروي قصصًا قصيرة عبر وحدة تابلوهات تحمل تقاطعات تأمّلية ولونية.. فتتحوّل الفرشاة إلى كاميرا راصدة لحزمة مشاعر تتراءى من الوجوه أو تبادل الأدوار أو اختلاف نظرات الشخوص الأساسية للوحات.. عبر هذه الرؤية الجمالية المبتدعة التي تقوم على التسريد، يتخلّى "أحمد الزلفاني" عن الأعمال ذات الحجم الطويل ويعود إلى الأحجام الصغيرة والمتوسطة..

معرض "نحن الآخرون" لأحمد الزلفاني

الزلفاني الرسّام التونسيّ الألمعيّ، المتحررّ، المتعدّد... صاحب الفرشاة الجذّابة يحملنا عبر معرضه الشخصيّ الجديد "نحن الآخرون" نحو أبديّة النّور والهدوء والذوق الرفيع... 

إنّ رحلة الرسّام "أحمد الزلفاني" تأتي تتويجًا لمشي الفنان على جمر التجريب والبحث والتمحيص الفنيّ في أرض الألوان والتشكيل، هاجسه في ذلك تحسّسه الشعريّ للأشياء والكون.. هو فنّان ينحت بفرشاته في آفاق مجهولة تشبه أجنحة الأقحوان وفتنة شقائق النعمان على ضفاف المدى... هو يخرج من هذه الأرض فيلتقينا للضرورة، فيمسح على رؤوسنا بإسفنجة المعنى ويدعونا إلى معارضه ومشاهدة لوحاته ثم سرعان ما يعود إلى نقاء أرضه...

"الزلفاني" وعند مغادرته تلك الأكوان مسرعًا في اتجاهنا لم يكن لوحده، بل يخرج محفوفًا بشخصياته وكائناته التي أنبتها على بياض اللوحات.. يخرج من لوحاته ليقيم بيننا ردهًا ثم سرعان ما يعود إلى أرض الألوان حيث يمكث طوال حياته. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرّسامة نجاة الذهبي.. فرشاة تحرّر الجسد بالألوان وتمنحه كينونة أخرى

الفنان التشكيلي صفوان ميلاد.. عن توحد الحرف والذات وتحرّرهما من الأغلال