28-مارس-2024
فتحية خيري

"فتحية خيري فن وشجن" كتاب يخلّد مسيرة فنانة تونسية تأبى النسيان

 

التوثيق حول الأغنية التونسية يبقى همًّا مشتركًا بين المؤسسات البحثية المختصة كالجامعات ومراكز ومخابر البحث، ومؤسسات وزارة الثقافة التونسية على غرار مركز الموسيقى العربية والمتوسطية (النجمة الزهراء) ووسائل الإعلام الوطنية والكتاب والباحثين المهتمّين، وذلك حتى نبلغ المنشود في تحصيل وتجميع الذاكرة الثقافية فيما يتعلق بالغناء والموسيقى.

لكنّ السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: هل نحن في الطريق الواثقة نحو حفظ ذاكرة الأغنية التونسية؟ يبدو أنّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة للعيان وهي أن أمر ذاكرة الأغنية التونسية يبدو مشتتًا بين الجميع ولا يخضع لاستراتيجيا واضحة تضمن الحد الأدنى من ذلك. 

ضمن سياق تخليد الذاكرة الثقافية التونسية صدر كتاب بعنوان "فتحية خيري.. فنّ وشجن" للباحث التونسي فاخر الرويسي يتضمن شهادات ووثائق وصورًا نادرة من أرشيف المطربة فتحية خيري تخلّد مسيرتها 

وضمن هذا السياق العام المعتني بالتاريخ والذاكرة الثقافية التونسية، صدر هذه الأيام كتاب هام بعنوان "فتحية خيري.. فنّ وشجن" للباحث والكاتب التونسي فاخر الرويسي. 

الكتاب ورد في 240 صفحة واحتوى على ثمانية فصول وعدد من الشهادات ومجموعة من الوثائق والصور النادرة التي أخذت من أرشيف المطربة فتحية خيري وتنشر لأول مرة.

 

صورة
غلاف كتاب "فتحية خيري.. فنّ وشجن" للباحث والكاتب التونسي فاخر الرويسي

 

الفصل الأول من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "موهبة غنائية مبكرة" يتحدث عن مولد الفنانة بمدينة الدهماني من ولاية الكاف سنة 1916، ويشير إلى أنّ اسمها الحقيقي هو "خيرة". 

كما يذكر الكاتب في هذا الفصل الفاتحة ظروف تنقلها إلى العاصمة مع جدتها بعد فقدانها والديها وتيتمها وهي بعد في سن الثانية، وتنقلها للاستقرار بحي الحلفاوين حيث الحياة لها أبعاد وإيقاعات كثيرة ومتعددة خاصة وأن هذا الحي كان مكان سكنى سياسيين من رموز الحركة الوطنية وفنانين وصحفيين منهم من كان ينتمي إلى جماعة تحت السور، وحيث ضجيج الكافيشانطات (الحفلات الغنائية الراقصة)  يتناهى إلى مسامع سكان الحي وهم في بيوتهم. 

الفصل الأول من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "موهبة غنائية مبكرة" يتحدث عن مولد الفنانة بمدينة الدهماني من ولاية الكاف سنة 1916 و تنقلها إلى العاصمة مع جدتها بعد فقدانها والديها وتيتمها وهي بعد في سن الثانية

ويبدو أن هذا المناخ الاجتماعي والثقافي استهوى فتحية خيري وجذبها إلى عوالمه إلى الأبد، خاصة مع تنقلها يوميًا إلى المدرسة، فكانت تستمع إلى أصوات مطربين تصدح من المقاهي والدكاكين، على غرار صالح عبد الحي، محمد عبد الوهاب، سلامة حجازي، منيرة المهدية، أم كلثوم،  فتقلّدهم عند عودتها. 

وصادف أن استمع إليها زوج خالتها "سلومة بن عبد الرزاق" الذي كان ينتمي إلى فرقة التمثيل بمسرح علي بن كاملة والمنشط بقاعة السينما المتفرعة عنه فشجعها على التردد على المسارح وخاصة المسرح البلدي، وحثها على تعلم العزف على العود وكان لها ذلك مع دروس "موني الجبالي". 

كما انكب محمد الشيشتي (من عائلة فنية وصاحب فرقة موسيقية) على تعليمها أصول الموسيقى وتلقينها الأدوار والموشحات الشرقية والقصائد كما حضرت دروس الفنان الشيخ السوري الحلبي علي درويش بالعطارين والذي استقدمه البارون ديرلنجي إلى تونس أواسط الثلاثينات. 

تعلمت فتحية خيري أصول الموسيقى على يد العازف محمد الشيشتي التي لقنها الأدوار والموشحات الشرقية والقصائد وعندما تأكد من براعتها ضمها لفرقته الموسيقية سنة 1932 ومن هنا كانت انطلاقتها تحت سماء الفن والطرب

وعندما تأكد الشيشتي من براعتها ضمها لفرقته سنة 1932 ومن هنا كانت انطلاقتها تحت سماء الفن والطرب. ويذكر هذا الفصل أن فتحية خيري هي أول من غنّى المالوف قبل بعث الفرقة الرشيدية وذلك ضمن حفل التكريم الذي أعد للوفد التونسي الذي شارك وساهم في مؤتمر الموسيقى العربية الأول بالقاهرة سنة 1932 واحتضنه كازينو البلفدير.

 

صورة
كانت انطلاقة فتحية خيري تحت سماء الفن والطرب بانضمامها إلى الفرقة الموسيقية لمحمد الشيشتي سنة 1932

 

الفصل الثاني والمعنون "في المسرح صولات وجولات"، يتحدث الكاتب عن المسيرة المسرحية لهذه الفنانة وذلك منذ انضمامها إلى جمعية المستقبل التمثيلي التي أسسها حمدة بن التيجاني والبشير المتهني سنة 1927 وقد لقنها الأدوار ممرن الجمعية الكاتب الصحفي الهادي العبيدي، واعتلت الركح لأول مرة سنة 1930 وعمرها لم يتجاوز بعد الرابعة عشرة. 

يتحدث الفصل الثاني من الكتاب عن التجربة الطويلة لفتحية خيري في المجال المسرحي ومساهمتها في بعث المسرح التونسي، وذلك بانتمائها لعدة فرق مسرحية أبرزها فرقة بلدية تونس في السنوات الأولى لتأسيسها 

ويذكر هذا الفصل التجربة الطويلة لفتحية خيري في المجال المسرحي ومساهمتها في بعث المسرح التونسي، وذلك بانتمائها لعدة فرق ومجموعات مسرحية وخاصة التحاقها بفرقة بلدية تونس في السنوات الأولى لتأسيسها (1953). ومن المسرحيات التي شاركت فيها يذكر الكتاب مسرحية "مجنون ليلى"  و"صقر قريش".

الفصل الثالث من كتاب "فتحية خيري فن وشجن" جاء تحت عنوان "التحاقها بالرشيدية" وضمنه يذكر الكاتب ظروف تأسيس المعهد الرشيدي في ثلاثينات القرن الماضي ورموزه من الموسيقيين والمطربين. 

ويشير إلى أنه مع انتخاب "مصطفى الكعاك" رئيسًا للمعهد خلفًا لمصطفى صفر، وخروج شافية رشدي لتأسيس فرقتها الخاصة، انضمت فتحية خيري لهذه المؤسسة وهي في أوج شهرتها كمغنية وممثلة مسرحية وقد سجلت في تلك الفترة أغانيًا لاقت استحسانًا كبيرًا لدى عامة الناس مثل أغنية "زعمة يصافي الدهر". 

فترة الرشيدية كانت فترة هامة من حياة فتحية خيري فقد احتضنها كبار الأدباء والشعراء والملحنين وأحاطوا بها مثل خميس الترنان ومحمد التريكي ومحمد العربي الكبادي الذي كان يدير النادي الأدبي للمعهد الرشيدي

ويشير الكاتب إلى أنّ فترة الرشيدية كانت فترة هامة من حياتها فقد احتضنها كبار الأدباء والشعراء والملحنين وأحاطوا بها مثل خميس الترنان ومحمد التريكي ومحمد العربي الكبادي الذي كان يدير النادي الأدبي للمعهد الرشيدي الذي كان يضم كبار الشعراء والكتاب مثل جلال الدين النقاش ومصطفى آغا وسعيد الخلصي ومصطفى خريف وأحمد خير الدين وعبد الرزاق كرباكة. 

وهكذا أصبحت فتحية خيري طيلة فترة الأربعينات والخمسينات المطربة الأولى للرشيدية ونجمة الحفلات العامة. ومن أغانيها الشهيرة: "يا زهرة" التي كتب كلماتها سعيد الخلصي ولحنها خميس الترنان وغنتها صليحة أيضًا. و من الأغاني التي تفخر بها "محلاها كلمة في فمي" لأنها تتغنى بالأم وقد كتب كلماتها الهادي العبيدي ولحنها خميس الترنان، وأغنية "أين أيامي الوديعة بين أحضان الطبيعة" التي نظمها محمود بورقيبة ولحنها الشاب صالح المهدي. 

طيلة فترة الأربعينات والخمسينات كانت فتحية خيري المطربة الأولى للرشيدية ونجمة الحفلات العامة، ومن أغانيها الشهيرة "يا زهرة" التي كتب كلماتها سعيد الخلصي ولحنها خميس الترنان، و من الأغاني التي تفخر بها "محلاها كلمة في فمي" لأنها تتغنى بالأم

ويوضح هذا الفصل أن فتحية خيري كانت صديقة حميمة لصليحة وتتبادلان الأغاني وتوجد تسجيلات بصوتيهما لنفس الأغنية. كما ساعدت العديد من الشباب على الالتحاق بالساحة الفنية مثل حسيبة رشدي التي تعرفت عليها في حفل خيري بمدينة صفاقس والهادي القلال الذي دعته إلى ترديد أغاني فريد الأطرش عندما أسست فرقتها الخاصة.

 

صورة
كانت فتحية خيري تتردد على بلاط أحمد باي الثاني بطلب منه وهو الذي كان مولعًا بالطرب والغناء

 

الفصل الرابع من الكتاب جاء تحت عنوان "في البلاط الملكي"، وهنا يشير الكاتب إلى تردد فتحية خيري على بلاط أحمد باي الثاني بطلب منه وهو الذي كان مولعًا بالطرب والغناء ويقيم حفلات بقصره بالمرسى. ومن الأسماء التي كانت تتردد على ما عرف بسهرات الثلاثاء بالقصر الملكي فنانات يهوديات مثل فريتنة درمون وفليفلة، وفنانات أخريات مثل فضيلة ختمي ودليلة الطليانية ورتيبة الشامية.

وتواصل اتّصال فتحية خيري بالقصر بعد رحيل أحمد باي وحلول خلفه محمد المنصف باي الذي كان لا يميل إلى المجون والسهرات لكنه كان يحضر الحفلات الرسمية ويساعد أهل الفن والإبداع. وتذكر فتحية خيري أنه ساعدها على الطلاق من زوجها الفلاح الثري أصيل زغوان. 

فتحية خيري كانت صديقة حميمة لصليحة وتتبادلان الأغاني وتوجد تسجيلات بصوتيهما لنفس الأغنية. كما ساعدت العديد من الشباب على الالتحاق بالساحة الفنية مثل حسيبة رشدي والهادي القلال

الفصل الخامس جاء تحت عنوان "إشعاع خارج حدود الوطن" وضمنه يتحدث الأستاذ الباحث فاخر الرويسي عن الرحلات الفنية لفتحية خيري وخاصة رحلاتها زمن الاستعمار في اتجاه الجزائر رفقة فرقتها التي كان يقودها الفنان قدور الصرارفي ورحلاتها إلى مصر وفرنسا.

أما الفصل السادس المعنون "التضحية بسعادتها العائلية من أجل الفن" يتحدث خلاله الكاتب عن قصة الحب التي جمعت فتحية خيري بالمناضل السياسي المحامي فتحي زهير من خلال تردده على المجلس الفني الذي أطلقته فتحية خيري وسمته "مجلس ولادة" وكان يحضره أحيانًا زعماء الحركة الوطنية مثل بورقيبة وصالح بن يوسف. 

الفصل السادس من الكتاب يتحدث عن قصة الحب التي جمعت فتحية خيري بالمناضل السياسي المحامي فتحي زهير من خلال تردده على المجلس الفني الذي أطلقته وسمته "مجلس ولادة" وكان يحضره أحيانًا زعماء الحركة الوطنية مثل بورقيبة وصالح بن يوسف

وتوجت هذه القصة بالزواج رغم رفض والد زهير القاضي الشاذلي زهير، لكنّ هذا الزواج لم يدم سوى بضع سنوات، فرغم إنجابها ابنين إلا أنهما افترقا وعادت فتحية خيري لعالم الغناء من جديد وخيرت فنّها على الاستقرار العائلي. 

الفصل السابع وعنوانه "انخراطها في الحركة الوطنية"، ضمنه يشير الكاتب إلى ارتباطها بقضية تونس وانتصارها لفكرة الاستقلال. فقد كانت تشارك في النقاشات التي تندلع في مجلسها الفني ويحضره رموز الحركة الوطنية التونسية. وقد أقامت عدة حفلات لصالح الحزب الدستوري وغنت أغنيات وطنية خالدة. 

الفصل الثامن والأخير جاء تحت عنوان "فتحية خيري الرسامة التشكيلية" ومن خلاله بيّن الكاتب الوجه الآخر لهذه الفنانة وهو غير معروف، فإلى جانب احترافها للمسرح والغناء كانت شغوفة بالرسم الخطي وبالألوان المائية بأسلوب عفوي فهي لها رصيد كبير من الأعمال التي خلدت من خلالها بورتريهات لفنانين وموسيقيين كما رسمت مشاهد من الطبيعة. 

الفصل السابع من الكتاب وعنوانه "انخراطها في الحركة الوطنية" تحدث الكاتب عن ارتباط فتحية خيري بقضية تونس وانتصارها لفكرة الاستقلال فقد كانت تشارك في النقاشات التي تندلع في مجلسها الفني ويحضره رموز الحركة الوطنية

وكانت فتحية خيري على اتصال ببعض فناني "مدرسة تونس" على غرار بيار بوشارل ويحيى التركي وعبد العزيز القرجي. ويضم الكتاب عددًا من رسومات فتحية خيري وهي أعمال تنم عن موهبة فذة في الرسم وذوق في تركيب الألوان. 

 

صورة
إلى جانب احترافها للمسرح والغناء كانت فتحية خيري شغوفة بالرسم الخطي وبالألوان المائية 

 

صورة
من لوحات الفنانة فتحية خيري

 

إنّ كتاب "فتحية خيري.. فن وشجن"، إلى جانب البحث الأرشيفي الدقيق، فقد احتوى على مادة وثائقية هامة من صور ومراسلات ووثائق هامة نشر أغلبها لأول مرة وقد جاءت لتدعم المعلومات التاريخية التي ذكرها الكاتب الباحث فاخر الرويسي. كما نجد في خاتمة الكتاب جملة من الشهادات اللافتة  حول شخصية فتحية خيري وأغلبها لأشخاص كانوا قريبين منها أو جايلوها وهي بمثابة المراجع ونذكر بعض هذه الأسماء مثل: علي العبيدي وعبد العزيز قاسم وعبد الستار عمامو ورشيد الذوادي وعز الدين إدير ومنى نور الدين ودلندة عبدو ونعمة ومحسن الرايس وتوفيق الناصر.

هذا الكتاب هو جهد بحثي هام في اتجاه تثمين ذاكرة الأغنية التونسية والثقافة بشكل عام وقدم من خلاله صاحبه فاخر الرويسي شخصية تونسية كان لها تأثيرها الاستثنائي في المجتمع في النصف الأول من القرن العشرين، وطبعت الساحة الغنائية بصوت بارع وبشخصية إبداعية مرهفة ومتعددة المهارات هو صوت المطربة التونسية فتحية خيري.