26-سبتمبر-2022
الفنون التشكيلية في تونس.. رحلة مع الرصيد الوطني

عديد الأسئلة الحارقة ظلت عالقة تهم هذه المقتنيات ذات القيمة الفنية والتراثية العالية (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

منذ افتتاح رئيسة الوزراء التونسية بفضاء "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر" بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي يوم 24 أوت/ أغسطس 2022، لمعرض "الفنون التشكيلية في تونس.. رحلة مع الرصيد الوطني 1850-2021"، في إطار البرنامج الثقافي الموازي لندوة طوكيو الدولية للتنمية في إفريقيا "تيكاد 8" التي احتضنتها تونس نهاية شهر أوت/ أغسطس 2022، ثم تواصل هذا المعرض وتقرر فتحه للعموم لمدة ستة أشهر بداية من يوم 10 سبتمبر/ أيلول 2022، لم يهدأ النقاش بعد، بل احتدّ في بعض الأحيان في الأوساط الثقافية التونسية بخصوص مسألتين عدّتا في غاية الأهمية.

معرض "الفنون التشكيلية في تونس.. رحلة مع الرصيد الوطني 1850-2021" ضم 400 عملًا فنيًا من رسومات وفوتوغرافيات ومنحوتات وخزفيات ومنسوجات ومحفورات وتنصيبات

كان هذا المعرض قادحًا لهاتين المسألتين، الأولى هي التساؤل عن الموعد الرسمي لافتتاح "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر" والذي تأخر بسبب جائحة كورونا وأشغال التهيئة وذلك وفق توضيحات المديرة العامة المقالة من إدارة المتحف أواخر شهر جوان/ يونيو 2022، وهل يعتبر هذا المعرض -العرضي- افتتاحًا رسميًا، خاصة وأن وزارة الشؤون الثقافية لم توضح الأمر في البداية؟ أم أنّ هناك موعدًا آخر للافتتاح سيتم الإعلان عنه في موعد لاحق؟

 أما المسألة الثانية التي أثيرت بمناسبة المعرض فتتعلق بمدى أحقية "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر"، والذي عدّ منذ سنوات طويلة مطلبًا من مطالب النخبة المثقفة في تونس، وخصوصًا العائلة التشكيلية بمختلف أجيالها وأصواتها، وتحقق مع إنشاء مكونات مدينة الثقافة، في الاستغلال والتصرف فيما يعرف بـ"الرصيد الوطني" أو مقتنيات الدولة التونسية، والذي يمثل ثروة فنية وطنية نادرة لا نجد لها مثيلًا بالدول العربية، علمًا وأن "الرصيد الوطني" تكونت نواته الأولى من الأعمال الفنية التي صادرتها دولة الاستقلال من قصور البايات الحسينيين ومراكز إقامتهم ودواوينهم.. وأيضًا من مراكمة الاقتناءات والشراءات التي قامت بها الدولة التونسية طيلة عقود الاستقلال وإلى حدود اليوم مما جعل هذه المجموعة تناهز 13 ألف عمل فني، تختصر مراحل تطور الحركة التشكيلية في تونس وتوثق لمختلف التيارات والمدارس في البلاد.

جانب من المعرض
جانب من معرض "الفنون التشكيلية في تونس.. رحلة مع الرصيد الوطني 1850-2021" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

"معرض الفنون التشكيلية في تونس.. رحلة مع الرصيد الوطني 1850-2021" الذي كان كوميسارًا له الفنان والخزاف محمد حشيشة، المدير العام الحالي للمركز الوطني للخزف الفني، والمكلف بتسيير المتحف إلى حين تعيين مدير عام جديد، هو رحلة تاريخية وجمالية واجتماعية وسياسية عبر أكثر من قرن ونصف من الزمن عاش خلالها التونسيون أبشع الحروب وأقسى الاحتلالات وويلات الغزو وفترات المجاعة وانتشار الجوائح، وأيضًا بعض الانتصارات وحالات سلام قليلة.

المعرض/الرحلة يضم 400 عملًا فنيًا يجمع بين الرسومات والفوتوغرافيات والمنحوتات والخزفيات والمنسوجات والمحفورات والتنصيبات. ومن خلال لقاء خص به الفنان محمد حشيشة المكلف بتسيير المتحف، موقع "الترا تونس"، أوضح أن "القاعدة الأساسية التي تم من خلالها انتقاء الأعمال المعروضة، هي التحقيب الزمني انطلاقًا من فترة البايات إلى حدود التاريخ المعاصر مرورًا بالفترة الاستعمارية، وفسح المجال لمختلف التقنيات التي استعملها الفنانون التونسيون عبر التاريخ من جهة أخرى". 

وأضاف أن عملية الانتقاء شابتها بعض الصعوبات لعل أهمها "ضيق الوقت ووضعية بعض الأعمال الفنية ضمن المجموعة العامة من الرصيد الوطني والتي كان من المتوقع أن تكون موجودة في هذا المعرض، لكن سنوات الخزن أثرت على جودتها وباتت تتطلب ترميمًا وصيانة مستعجلة، فضلًا عن تشتت وجود الأعمال بين المخازن الأصلية بالقصر السعيد بباردو والمخازن الوقتية بالمكتبة الوطنية التونسية والمخازن العصرية الجديدة بالمتحف ذاته، ما جعل المهمة ليست غير يسيرة" وفقه.

جانب من المعرض
جانب من معرض "الفنون التشكيلية في تونس.. رحلة مع الرصيد الوطني 1850-2021" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

تم تقسيم "معرض الفنون التشكيلية في تونس، رحلة مع الرصيد الوطني.. 1850-2021" إلى 4 فترات تاريخية هامة: فترة البايات الحسينيين، والفترة الاستعمارية، ومرحلة الفن التجريدي، وفترة التاريخ المعاصر. 

المكلف بتسيير "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر" لـ"الترا تونس": شابت عملية انتقاء الأعمال المعروضة بعض الصعوبات منها ضيق الوقت ووضعية بعض الأعمال الفنية

وإذا ما تأملنا هذا التقسيم نجد أن كل فترة تزخر بالأسماء والتجارب والتقنيات المستعملة والتوجهات الفنية التي كانت سائدة سواء بتونس أو بالعالم. ففترة البايات يمكن اعتبارها مرحلة البدايات الحقيقية أو التوطين لفن تشكيلي تونسي المواضيع، لكن أغلبه ورد بإمضاءات أجنبية خاصة مع رواج فن البورتريه لدى العائلة المالكة والطبقة البورجوازية التونسية، والذي كان يعوض التصوير الفوتوغرافي في ذلك الوقت، فكنا نجد العديد من البورتريهات بالقصور والدور التونسية بتوقيعات أجنبية من إيطاليا ومالطا وفرنسا وألمانيا.. أو مجهولة التوقيع تمامًا مثل البورتريه الفخم لأحمد باي والذي كان فاتحة هذا المعرض.

 

لوحة للفنان علي بن سالم
لوحة للفنان علي بن سالم (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

كما كان لليهود التونسيين دور كبير في مرحلة التأسيس تلك، ولنا أن نذكر عميد الرسامين اليهود بتونس وهو "بيار بوشارل" (1884-1988) والذي كان مدرسًا بمعهد "كارنو" وتتلمذ على يديه أغلب الرسامين التونسيين على غرار جلال بن عبد الله وحاتم المكي. ونجد له في هذا المعرض التاريخي منسوجة فاخرة يمكن اعتبارها من أهم الأعمال الانطباعية التي أنجزها "بوشارل" طيلة مسيرته الفنية. ومن الأسماء اليهودية المؤسسة للفنون التشكيلية في تونس وأعمالها ضمن المعرض: "جيل للوش" و"موس ليفي" وابنه "نلّو ليفي" و"فكتور سرفاتي" و"إدغار نقاش".

 

لوحة لأمين ساسي
لوحة لأمين ساسي (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

ويمكن القول إن المعرض كرّم المستشرق الفرنسي من أصول ألمانية البارون "رودولف ديرلنجي" الذي عاش ومات بتونس أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (1872-1932) وترك إرثًا فنيًا محترمًا، فقد كان رسامًا وموسيقيًا، وحوّلت الدولة التونسية قصره بضاحية سيدي بوسعيد إلى مكتبة موسيقية ومعلم معماري ثقافي (النجمة الزهراء) يحتضن الأنشطة الفنية والمعارض واللقاءات. حيث تم عرض لوحة من الحجم الكبير لمفتي الديار التونسية الشيخ جعيّط بإمضاء البارون "ديرلنجي"، وقد جلبت من مجموعته الخاصة الموجودة بقصره بسيدي بوسعيد.

أما الفترة الاستعمارية فيمكن اعتبارها فترة ترسيخ الفنون التشكيلية في تونس، وذلك بالرجوع إلى الأبعاد الفنية والتنظيمية وحتى القانونية. ومن تجليات ذلك الترسيخ، نجد تعميم تدريس الرسم في المدارس التونسية ذات النمط الأوروبي، وأيضًا من خلال بعث الأروقة والمراسم، حيث تم افتتاح أول رواق بتونس سنة 1894 وكان قبلة الرسامين الأوربيين وكان يحتضن تظاهرة "الصالون التونسي" منذ نشأته إلى حدود 1984، بالإضافة إلى إنشاء المدارس المختصة. 

 

منسوجة لامحمد إمطيمط
منسوجة لامحمد إمطيمط (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

وتعتبر مدرسة الفنون الجميلة بباب سعدون بالعاصمة تونس (بعثت سنة 1930)، أهم مدرسة في تونس إلى اليوم، وتخرج منها أهم الرسامين التونسيين الذين طبعوا المشهد في العشريات اللاحقة وصنعوا مجد الفن التشكيلي التونسي، ونجد أعمالهم مؤثثة للرصيد الوطني، وجُلب بعضها لتضيء هذا المعرض الهام على غرار لوحة "حوادث 9 أفريل 1938" للرسام عمار فرحات، وأعمال الفنان الراحل عبد العزيز القرجي (نسيج ونحت ورسم)، وجلال بن عبد الله الذي يصور الحياة اليومية للتونسيين بداية القرن العشرين بأسلوب انطباعي جذاب، والفنان علي بلاغة، وحاتم المكي سيد رسومات الطوابع البريدية في العالم، والجيل الذي تلاهم: عادل مقديش ورفيق الكامل والأمين ساسي ومحمد علي السعدي والحبيب بوعبانة وعلي عيسى وسامي بن عامر والحبيب بيدة وعبد العزيز كريد والهاشمي مرزوق ومحمد إمطيمط وعمر كريّم.. وغيرهم.

 

لوحة حوادث 9 أفريل لعمار فرحات
لوحة حوادث 9 أفريل لعمار فرحات (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

أما مرحلة الفن التجريدي في هذا المعرض، فيمكن اعتبارها أهم مرحلة. حيث تأثرت الفرشاة التونسية بمدارس الفن التجريدي في أوروبا التي راجت بعد الحربين العالميتين وتواصلت إلى اليوم. فالتجريد المستلهم من الحياة التونسية نجده مبثوثًا على طول الخط الزمني الذي تم اختياره لهذه الرحلة الأنطولوجية منذ البداية. ومن الرسومات الهامة المعروضة، نجد أعمالًا لنجيب بلخوجة الذي حول المدينة العتيقة إلى عوالم من الهندسة التكعيبية، ورفيق الكامل الشفّاف الحالم والمنصف بن عمر ذي الشخصيات الغرائبية وعادل مقديش والرسام الحروفي نجا المهداوي الذي حرّر عوالم الحرف العربي لينفتح به على الفنون التشكيلية.

 

لوحة أمومة لفكتور سرفاتي
لوحة أمومة لـ"فكتور سرفاتي" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

المعرض أبرز أيضًا أعمال عائلة التركي الشهيرة، وهي عائلة ساهمت بشكل كبير في صناعة تاريخ الفن التشكيلي التونسي واشتغلت على مواضيع كرست من خلالها الهوية الحضارية والثقافية التونسية. فنجد أعمالًا لـ"يحيى التركي" و"الهادي التركي" و"الزبير التركي"، ولكل واحد من هؤلاء أسلوبه ومواضيعه ونهجه التشكيلي الخاص به، حيث كان يحيى التركي منشغلًا بالحياة اليومية للمدينة العتيقة وبمظاهر الاحتفال بالجنوب بالقرى التونسية البعيدة.

أما الهادي التركي فقد ذهب للبورتريه وتصوير الطبيعة التونسية لينتهي متصوفًا غارقًا في التجريد وخصوصًا "التعبيرية التجريدية" التي انغمس فيها بعد رحلة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. أما الزبير التركي وهو الذي درس بالسويد فقد كان متعدد المواهب التشكيلية، فهو نحات (هو من أنجز تمثال العلامة بن خلدون الموجود بشارع بورقيبة بالعاصمة)، ونسّاج ومشتغل بالمسرح في مستوى إعداد الديكورات والمتممات الجمالية. لكنه كان بارعًا في الرسم الخطي.

 

منسوجة للفنان بيار بوشارل
منسوجة للفنان "بيار بوشارل" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

النحت كان حاضرًا من خلال أعمال صغيرة للهادي السلمي والهاشمي مرزوق وفوزي الشتيوي وعبد العزيز القرجي وبشير الزريبي. وهي أعمال خالدة كانت مدخلًا مؤسسًا لفن النحت في تونس نهلت منه الأسماء التي تعاقبت فيما بعد.

كما ميز المعرض، الفنان التونسي الكبير الحبيب بلال الملقب بـ"فنان النار" لأنه يشتغل على الرسم على النحاس ضمن درجات حرارة عالية جدًا، وهو تقريبًا الوحيد في تونس الذي ترك بعد رحيله مدونة لا مثيل لها في مجاله.

 

منحوتة من الحجم الصغير للهادي السلمي بعنوان القائد
منحوتة من الحجم الصغير للهادي السلمي بعنوان "القائد" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

وضمن التصريح ذاته، الذي خص به كوميسار المعرض الفنان محمد حشيشة موقع "الترا تونس"، أكّد أن المعرض "كان فرصة لتقديم بدايات الرسامين التونسيين والوقوف على مدى التطور الأسلوبي والتقني والفكري طيلة سنوات انشغالهم بالفن"، مضيفًا أن ذلك "يجعلنا مباشرة على الخط التاريخي في مستوى المراكمة والبناء وأيضًا على مستوى استنطاق مواضيع الأعمال وقراءتها اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا..".

إلى جانب الأسماء والأجيال المؤسسة، قدّم المعرض العديد من الأعمال الفنية لفنانين شباب أو بالأحرى الأجيال التي تعاقبت إلى حدود سنة 2022، فشاهدنا خزفيات رائعة ورسومات بتقنية الحفر وصورًا فوتوغرافية، تؤكد أن نضجًا ما حصل في الأثناء ونحن نعبر تاريخ الفن التشكيلي التونسي.

المعرض كان ارتحالًا حقيقيًا مع الرصيد الوطني، وكان وقفة مع تاريخ اللّجان الفنية التي انتقت هذه الأعمال بمقتضى القانون من المال العام طيلة عقود من الزمن بذل فيها الشعب التونسي مئات المليارات من أجل الاقتناء ومراكمة المجموعات التشكيلية. وهنا، نشير إلى أن الدولة التونسية رصدت سنة 2021، 1.5 مليون دينار من أجل اقتناء الأعمال الفنية وتعزيز الرصيد ودعم الفنانين التشكيليين.

 

المدينة كما رسمها الراحل نجيب بلخوجة
المدينة كما رسمها الراحل نجيب بلخوجة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

الرحلة مع الرصيد الوطني شرّعت على عدة أسئلة حارقة تهم هذه المقتنيات الخاصة بالدولة التونسية وذات القيمة الفنية والتراثية العالية وذلك على مستوى التصرف والصيانة والترميم وأحقية الجهات المعنية بالاستغلال والجانب التشريعي الذي يحمي هذا الموروث ويجعله في حل من كل تجاذب وكل تأويل ليس في محله.

كما أنّ أسئلة أخرى بقيت عالقة، تهم عمل "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر" ذاته، في مستوى إدارته وتسييره ولجانه العلمية والفنية وأقسامه وخططه الاتصالية، واستراتيجياته المستقبلية، خاصة وأن العمل المتحفي يختلف تمام الاختلاف على العمل الرواقي.