16-مارس-2022

باحث في الجماليات: "الحروفية هشمت أدبية الحرف وجرته إلى عالم التفريع والألوان وكل الإمكانات المتاحة في التجريد التشكيلي" (خزفية للحروفي سامي الفقيه)

 

رغم تبكير تونس بتأسيس "مدرسة الفنون التشكيلية بتونس" في بدايات النصف الأول من القرن العشرين وتحديداً سنة 1930 فإنها لم تعرف "الحروفية التشكيلية" إلا في الستينيات والسبعينيات عن طريق التبادل الثقافي مع بعض بلدان الشرق العربي والإسلامي، وخاصة المعارض التي أقامها الفنانون والرسامون العراقيون والإيرانيون عن طريق مراكزهم الثقافية بتونس وبواسطة اللجان العليا المشتركة وخاصة حضور رموز جماعة "البعد الواحد"، التي تأسست سنة 1971 وهي مجموعة من الرسامين خرجت بالحرف من دائرة الكتابة والدلالة إلى دائرة "الحروفية الفنية" وقد كان لها تأثيرها الطاغي على مسارات الحروفية التشكيلية في العالم ومن أسمائها البارزة: شاكر حسن آل سعيد، الفنان المؤسس، ومحمد غني حكمت ومديحة عمر وجميل حمودي.

لم تعرف تونس "الحروفية التشكيلية" إلا في الستينيات والسبعينيات عن طريق التبادل الثقافي مع بعض بلدان الشرق العربي والإسلامي، وخاصة المعارض التي أقامها الفنانون والرسامون العراقيون والإيرانيون

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

كان ذلك بالنسبة للتشكيليين التونسيين بمثابة الاكتشاف للأرض البكر والانتباه بصريًا وجماليًا إلى الخط العربي الذي كان مقصيًا من دائرة مدارس الفنون الجميلة التي يديرها فرنسيون وكان يصنف تراثًا عربيًا إسلاميًا حرفيًّا ينجزه خطاطون يتوارثون "الصنعة" (الحرفة) بطريقة نظامية تلتزم آلياً بالقواعد الكلاسيكية لكتابة مختلف أنواع الخط العربي.

انجذب إلى هذه المناخات الفنية الجديدة أو بالأحرى المفردة التشكيلية الجديدة عدة رسامين وفنانين تشكيليين قاموا بتوظيف الخط العربي في أعمالهم مثل أعمال عبد المجيد البكري وعادل مقديش وحاتم المكي لكنها بقيت في حقل التجريب لا غير ولم تتخذ لها دربًا مكتملاً.

أما الفنان التشكيلي الوحيد الذي انجذب تمامًا وحلق عاليًا بالحروفية التونسية نحو العالمية فهو "نجا المهداوي" الذي تحوّل إلى الشجرة التي حجبت غابة الحروفية في تونس حيث لم يكن مطواعًا في تمرير "الحروفيّة التشكيلية" إلى الأجيال الأخرى واكتفى بنفسه إلى حد اليوم. وقد ساعده في ذلك التضييق الذي بقي مخيمًا على الخط العربي إلى حدود الثورة التونسية، فالنظامين السياسيين السابقين كانا لا يثقان في الخط العربي ويرتابان منه لأنه قادم من الشرق البعيد، بل ويعتبرانه موضوعاً تقليديًا تراثيًا وشكلاً من أشكال الشدّ إلى الوراء أمام تطلعهما الحثيث إلى القطع مع العروبة والإسلام والتعلق بالحداثة الغربية وما جاورها.

النظامان السياسيان السابقان للثورة في تونس كانا لا يثقان في الخط العربي ويرتابان منه لأنه قادم من الشرق البعيد، بل ويعتبرانه موضوعًا تقليديًا تراثيًا وشكلاً من أشكال الشدّ إلى الوراء أمام تطلعهما الحثيث إلى القطع مع العروبة والإسلام 

وقد مثل عدم التشجيع السياسي ذاك فرصة أخرى أمام الأصوات الفنية والتشكيلية التونسية التي تريد مواصلة نهج إقصاء الخط العربي من مدارس ومعاهد الفنون الجميلة بتونس لأنه ــ  وحسب رأيها ــ لا يرقى الى درجات الفن العليا.

ورغم كل تلك الصعوبات والعراقيل كانت ثمة بعض المحاولات من قبل فنانين تشكيليين تونسيين توجهوا إلى الحروفية وخاضوا فيها تجاربهم وأغلبهم قدموا من الحروفية الخطية ونذكر منهم عمر الجمني وياسر جرادي وطارق عبيد وسمير قويع.

اقرأ/ي أيضًا: الخط العربي في تونس.. البحث عن مجد ضائع

لكن يبدو أن الثورة أنقذت الخط العربي والحروفية معًا فتم إدراج فن الخط في مناهج مدارس ومعاهد الفنون الجميلة لأول مرة بعد عقود وفسح المجال واسعاً ودون إقصاء أمام الخطاطين والحروفيّين على حد السواء للمشاركة في المعارض والتظاهرات الفنية الرسمية وغير الرسمية، الأمر الذي حدا باتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وهو أعرق منظمة تعنى بقطاع الفنون التشكيلية في تونس وتدافع عنه منذ 1968 إلى اليوم إلى المبادرة بتأسيس "صالون تونس للحروفية" سنة 2020 بعد أن تزايد الطلب على هذا المسلك الفني التشكيلي وخاصة من الشباب.

يبدو أن الثورة أنقذت الخط العربي والحروفية معًا فتم إدراج فن الخط في مناهج مدارس ومعاهد الفنون الجميلة لأول مرة بعد عقود وفسح المجال واسعاً ودون إقصاء أمام الخطاطين والحروفيّين على حد السواء للمشاركة في المعارض والتظاهرات

وعلى هامش الصالون الثالث للحروفية المنعقد بالفضاء الثقافي البلدي "سانت كروا" بمدينة تونس العتيقة من 12 إلى 31 مارس/آذار 2022 والمندرج ضمن "الشهر الوطني للفنون التشكيلية"، الذي يضم أربع تظاهرات كبرى هي معرض الرسوم والحروفية والخزف وصالون الشباب، التقى "الترا تونس" وسام غرس الله، أمين عام اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين، الذي أكد أن الحروفية التي تعتمد أساسًا العلامة الخطية بدأت تترسخ في تونس خاصة مع تزايد الطلب عليها من قبل الشباب بعد أن أصبح الخط العربي يدرس بالجامعة التونسية وأوضح الأستاذ غرس الله أن "الاتحاد بعث هذا الصالون دعمًا منه لهذا التيار الفني المستجد وهو مفتوح لكل الأجيال ولكل التجارب التونسية"، مضيفًا أن الخط العربي بات ملهمًا حتى خارج الفضاء الثقافي العربي حيث نجد العديد من الفنانين الأوروبيين يخوضون في الحروفية باقتدار وهو ما يشي بأن الخط العربي يظل مصدرًا من مصادر الفنون في العالم.

وسام غرس الله، أمين عام اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين لـ"الترا تونس": الاتحاد بعث صالون الحروفية دعمًا منه لهذا التيار الفني المستجد وهو مفتوح لكل الأجيال ولكل التجارب التونسية

ببعث هذا الصالون للحروفية، تكون تونس قد رسخت نفسها مجددًا في فضائها الحضاري العربي الإسلامي دون الحياد عن الحداثة التي تروم وهو ما لمسناه في اللوحات الثلاثين المعروضة في الصالون الثالث فكان الاعتماد على الحركة التلقائية للحروف العربية والتي تأخذ الفنان الحروفي إلى مناطق لم يكن يعلمها من قبل فتدفع الرائي نحو التأمل والتفلسف والقراءات المختلفة.

 

جانب من صالون تونس للحروفية في دورته الثالثة

 

اقرأ/ي أيضًا: الحروفي نجا المهداوي.. حرّر عوالم الحرف العربي لينفتح به على الفنون التشكيلية

وبهذا الخصوص، يؤكد الدكتور كريم الطرابلسي، أستاذ الفلسفة والباحث في الجماليات، أن "الحروفية التي شققت الخطوط العربية وأخرجتها من نمطيتها وكلاسيكياتها تمنحنا مساحات أخرى للتأويل كما تتحرك على بياض المحامل بلين غير معهود مما يمنح العين رياضة جمالية جديدة تمارسها على المرسومات الحروفية…"، وأضاف الطرابلسي أن "الحروفية هشمت أدبية الحرف وجرته إلى عالم التفريع والألوان وكل الإمكانات المتاحة في التجريد التشكيلي". 

وبعيدًا عن التجربة المتفردة للحروفي العالمي "نجا المهداوي" فإن الحروفية في تونس آخذة في التشكل والتطور بفضل موجة من الشباب من أبناء مدارس ومعاهد الفنون الجميلة.

بعيدًا عن التجربة المتفردة للحروفي العالمي "نجا المهداوي" فإن الحروفية في تونس آخذة في التشكل والتطور بفضل موجة من الشباب من أبناء مدارس ومعاهد الفنون الجميلة

وهنا يتدخل معنا الرسام الحروفي الدكتور لمجد النوري، أستاذ الخط العربي بمدرسة الفنون الجميلة بتونس، ليوضح أن الحروفية كانت وإلى حد قريب في خانة اللامبالاة  والنسيان وقد أعيد إليها الاعتبار  في السنوات الأخيرة بفضل إرادة الفنانين الحروفيين أنفسهم وبدعم لا محدود من الاتحاد الذي ما انفك يفكر في تطوير صالون تونس للحروفية حتى يصبح موعدًا سنويًا جاذباً لكل التجارب العربية والعالمية. 

وعن مشاركات الدورة الثالثة فإن الأستاذ لمجد النوري يرى أن صالون تونس للحروفية جمع ثلاثة أجيال من الحروفيين التونسيين أغلبهم من الشباب جعلوا من الحرف بحرًا بلا ضفاف مبرزين قيمته الفنية والجمالية والدلالية بتقنيات مختلفة.

الحروفية في تونس هي ملمح من ملامح الهوية التونسية وجزء من كون الثقافة والحضارة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها الشعب التونسي وإهمالها المتعمد لعقود طويلة لأسباب سياسية وإيديولوجية أخّر تطورها وإشعاعها ثقافيًا وفنيًا في الداخل والخارج. 

 

جانب من صالون تونس للحروفية في دورته الثالثة

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)

"الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم