17-مايو-2023
الأمين ساسي

ركز الرسام التونسي الأمين ساسي في لوحاته على التفاصيل الحياتية الحالمة الباسمة الحزينة المهملة واللاّمرئية

 

يقف الرسام التونسي الأمين ساسي على ناصية حياته المتفجّرة بالآتي إلينا من الأبعاد القصية والصاخبة بالألوان والأحزان والشموس والأمطار. ينظر إلى حانة "المزار" ذات الأبواب البنية الخشبية المقوسة ومرسمه المشتهى الشهيّ المعلق فوقها كجنّة إشراقية لأحلام لا ينتهي فيضها وكأجوبة ضيقة واسعة تينع كالنبال فتحيط بأسئلة الوجود مثل الرماة من كل جانب فيسيل القمر على بياض القماش أنغامًا من كلام بلا جناس ولا بلاغة.

 يعدّل الرسام الأمين ساسي قبعته الإيطالية السوداء ويهمّ بقطع "نهج مرسيليا" نحو عمق "شارع الحبيب بورقيبة" بالعاصمة متسلحًا باللّغة وإيقاعها، علّه يلتقط للوحته المفتوحة وردة أو ابتسامة أو نظرة حب منكسرة أو رفة جناح سنونو تعبر سماء شارع الشوارع في اتجاه بيت المقدس، فيعود بها طازجة ويمنحها نبرة لونية لا يمنحها الزمان لذاته إن أراد لها التلوين ويشحنها بالطاقات الكامنة للفنان الساحر كما لو أنها تريد أن تبلغ تخوم اللانهاية، كما لو أنها تريد أن تعانق غيرها لتكتمل بغيرها، ولا تكتمل إلا بالكون كلّه. 

مضى التشكيلي الأمين ساسي على خطى أستاذه رفيق كامل إلى تلك التفاصيل الحياتية الحالمة الباسمة الحزينة المهملة واللاّمرئية ليعيد تركيبها بأسلوب منمنماتي معاصر مع سكب المزيد من الضوء على الألوان

في بدايته، عندما تخرّج الفنان الأمين ساسي سنة 1974 من المعهد التكنولوجي للفن والهندسة المعمارية والتعمير بتونس حاملًا الإجازة في الفنون التشكيلية في اختصاص الرسم الزيتي، كان متأثرًا بالمدونة التشكيلية لأستاذه الراحل الرسام الكبير رفيق الكامل الذي يعتبر أحد رواد المدرسة التجريدية بتونس.

ذهب ساسي، على خطى أستاذه الفذّ، إلى تلك التفاصيل الحياتية الحالمة الباسمة الحزينة المهملة واللاّمرئية في بعض الأحيان ليعيد تركيبها بأسلوب منمنماتي معاصر مع سكب المزيد من الضوء على الألوان.

 

صورة
لوحات الأمين ساسي تجعلنا نهيم في اللانهائي

 

تلك المناخات التشكيلية، التي أسس لها رفيق الكامل وزمرة أخرى من الرسامين كانت منجذبة إلى التجريد دون مغادرتها تمامًا أرض التشخيص على غرار الهادي التركي وعبد العزيز القرجي ونجيب بلخوجة ومحمود السهيلي، هيأت لموجة ثانية من رسامين تجريديين لكنهم يعودون أحيانًا للتشخيص أو يمزجون بين الاثنين، فلمعت فراشٍ جديدة في الساحة التشكيلية التونسية فكان "الماتر" الحبيب بوعبانة والناصر بالشيخ ولطفي الأرناؤوط وسمير التريكي. لقد وجدوا جميعهم في أرض التجريد غواية وسحرًا وغرورًا وركوبًا مع الريح إلى أقاصٍ مجهولة لم تعرفها اللوحة التونسية من قبل.

مع نهاية السبعينات أنجز الأمين ساسي معرضين خاصين به، الأول برواق التصوير سنة 1979 والثاني بكبرى القاعات وأشهرها وهي قاعة الأخبار سنة 1981، وكانا بمثابة الخطوة الأولى نحو مشروعه الشخصي وسط زحمة الكبار

مع نهاية سبعينات القرن العشرين وتحديدًا سنة 1977 وبعد حصوله على منحة الدولة التونسية لقضاء تربص طويل بحي الفنون بباريس، عاد الأمين ساسي فأنجز معرضين خاصين به، الأول برواق التصوير سنة 1979، والثاني بكبرى القاعات وأشهرها وهي قاعة الأخبار سنة 1981. وكان ذلك بمثابة الخطوة الأولى نحو مشروعه الشخصي وسط زحمة الكبار الذين كانوا يشعّون كالنجوم في سماء الفن التشكيلي التونسي. 

 

صورة
ركز الأمين ساسي في لوحاته على التفاصيل الحياتية الحالمة الباسمة الحزينة المهملة واللاّمرئية

 

تشبث الأمين ساسي بالقارب الذي صنعته موجة رفيق الكامل وعادل مقديش وآخرين، بوعي شديد الحساسية والعفوية وفتّح له نوافذ على الشعر والموسيقى والمسرح والفلسفة والكتابة السردية والسياسة والإيديولوجيا والرقص والسينما. وكان مرسمه فوق المزار فضاء ثقافيًا يحتمل النقاش والحديث والجدل في كل الشؤون. كل ذلك كان روافدًا مغذية لألوانه، لقد كان يبحث عن نبوءته الشخصية، وكان يريد للوحته أن تتذوق طعم المستقبل، فلم يستكن كغيره إلى سطوة "مدرسة تونس" تلك الشجرة التي حجبت غابة بأكملها كانت زاخرة بالأحلام والألوان.

 

 

لقد كان الأمين ساسي معارضًا شرسًا لـ"مدرسة تونس" ولمُنتجها الفني الإبداعي فانتمى جماليًا ورمزيًا إلى المجموعات التي كانت تعارض المدرسة المذكورة وكل مشاريعها الثقافية الكبرى وخصوصًا هيمنتها على القرار السياسي الثقافي إلى حدود ثمانينات القرن العشرين، فكانوا يسمّون منجزها بالدوران الأجوف حول ما عرف في ذلك الوقت بـ"الفلكلورية" كما اتهموها ضمنيًا بعرقلة كل المشاريع الفنية الجادة الفردية والجماعية التي أرادت تطوير اللوحة التونسية وحملها نحو آفاق أخرى. 

كان الأمين ساسي معارضًا شرسًا لـ"مدرسة تونس" ولمُنتجها الفني فانتمى إلى المجموعات التي كانت تعارض كل مشاريعها الثقافية الكبرى وخصوصًا هيمنتها على القرار السياسي الثقافي إلى حدود ثمانينات القرن العشرين

لوحة الأمين ساسي تجعلنا نهيم في اللانهائي حيث نعمة الانخطاف التي تقوم بها ألوان متأتية من تخوم ربيع عتيق أبدي لا تغرب عنه الشمس، فالأزهار والورود هي جزء من فلسفة هذا الفنان البديع في التلوين، بل هي التيمة الأساسية لبهجة ما أراد قوله من خلال اللوحة. هذه الورود تمنح شخصياته الأسطورية الحزينة بعض المعنى وبعض القافية في حركة جدلية لا تستطيعها إلا فرشاة الأمين ساسي. 

 

 

تحضر المرأة في تعاقب لوحات الرسام التونسي الكبير الأمين ساسي كوجود ثابت مستقل أو كطريقة تعبير حرّانية. إنها تتجلّى كماهية تفجرها الفرشاة بعناية وانتشاء وذكاء فتتحول إلى طاقة مضاءة سرعان ما تلتقطها عين الرائي، أو تتناهى إلى شفيف روحه كنداء يعلو عميقًا في السريرة.

تحضر المرأة في تعاقب لوحات الرسام التونسي الكبير الأمين ساسي كوجود ثابت مستقل أو كطريقة تعبير حرّانية وتتجلّى كماهية تفجرها الفرشاة بعناية وانتشاء وذكاء فتتحول إلى طاقة مضاءة

المرأة المتوجة بالورد والمتفوقة بجسدها الريان وامتلاكها سر تواصل وجود الإنسان في مدونة ساسي التشكيلية هي صدى للحياة وماهية للبقاء. المرأة على هذه القماشات هي حديقة مزهرة وملاذ من سعير الحياة. إنها عنوان رمزي قار مفتوح على المدى الكوني، وإعلاء للخيال المتأتي من حضورها الطاغي. 

 

صورة
المرأة في مدونة الأمين ساسي التشكيلية هي صدى للحياة وماهية للبقاء

 

أما الوجوه المهمومة والمتشضية والمرهقة والمتعبة والمكدودة والحزينة والبائدة والتائهة في الكون التي تحمل نصف ابتسامة ونظرة منكسرة والتي يرسمها الأمين ساسي بأنات ومزاجية وبإيقاعات نفسية مختلفة يستنفذ من خلالها كل طاقات اللون الكامنة تحت فرشاته، فهي تأتي بمثابة التعبير الحرّ عن القلق الوجودي الذي حدثنا عنه الشاعر الساحر أبو الطيب المتنبي في إحدى قصائده عندما قال "على قلق كأن الريح تحتي"، وهو في خلاصة اللون تعبير عن قلق الإنسان تجاه الفعل الحياتي. 

الأمين ساسي صنفه نقاد الفن التشكيلي التونسي فنانًا تجريديًا وصنفه البعض الآخر فنانًا تشخيصيًا وأحيانًا يشتد الخلاف بينهما من دون التوصل إلى تصنيف نهائي لهذا المبدع الخلاق

يرسم ساسي لوحته التشكيلية ضمن تصور وتمشٍّ سينوغرافي خاص حيث يرتب عقله الفذ كل الشخوص على القماشة في مشهد فوقي نصفي الحدود أو من زاوية مستحيلة كاستراق نظر من ثقب إبرة أو كوّة في جدار فتبدو لعين الرائي كأنها إطلالة من فوهة الحياة وما يحف بها من مسارات تثبّت الوجود وتمحوه في نفس الآن أو فرجة درامية في مسرحية ذهنية.

الوجوه المرسومة تأتي أحيانًا من قاع أسطوري لم تنتبه إليه الأشعار القديمة، بلا ملامح واضحة وميالة للقبح والإجهاد وحمالة لندوب عميقة وبشفاه شاحبة. إنها ندوب الأيام يشكلها ساسي على الوجوه فتقدمها الفرشاة بلا مساحيق ومن غير نفاق اجتماعي.

 

صورة
الوجوه المهمومة في لوحات ساسي تأتي بمثابة التعبير الحرّ عن القلق الوجودي

 

المدينة التي يقيم فيها الرسام التونسي الأمين ساسي لا نجد إلا طيفها وصدى خفيفًا لبعض الأزقة القديمة أو الشوارع الصدئة الخانقة. إنها سجن كبير تخلّص منه الرسام وحوله إلى سماء واسعة للحرية.

الأمين ساسي صنفه نقاد الفن التشكيلي التونسي فنانًا تجريديًا وصنفه البعض الآخر فنانًا تشخيصيًا وأحيانًا يشتد الخلاف بينهما من دون التوصل إلى تصنيف نهائي لهذا المبدع الخلاق، في حين أن هناك من يراه رسّامًا وكفى، أَوَليس هو القائل "الفنان يهب أسمى أحاسيسه إلى الآخر من دون حسابات"؟

الأمين ساسي يتقن باقتدار الكبار رسم الزيتي والمائي والأكريليك على قماشات من الحجم الكبير، فأحيانًا لوحة واحدة يمكن أن تغطي جدارًا بأكمله  فلكأني به يريد لنا التيه الذي ما بعده عوْد في جغرافيا اللوحة، فقد حملنا إلى ينابيع لا تغنينا أبدًا الضمأ والجوع بل تتيح لنا كما يقول الشاعر أدونيس "أن نحيا بهاء المصير على هذه الأرض".