23-يونيو-2023
لوحات نوردين الخياشي الخاصة بالمرأة التونسية بداية القرن العشرين

لوحات لنور الدين الخياشي حول النساء التونسيات في القرن العشرين (تصوير رمزي العياري/الترا تونس)

 

تصدير:

"إذا كانت المادة توجد فعلًا، فلن نستطيع معرفتها أبدًا، وإذا لم توجد فسيبقى كل شيء كما هو".

جورج باركلي ـ مقال حول مبادئ المعرفة البشرية ـ 1998


 

تذهب الفلسفة أحيانًا إلى أن هناك واقعًا آخر يوجد داخل واقعنا وهو بمعزل عنّا ولا ندركه ونتجاهله، وهو ما نسميه بالحقيقة في ذاتها أو الجوهر الذي نبحث عنه طيلة رحلة الوجود، وثمة من يذهب إلى أن هذه الدعوى تجعل من الواقع أشدّ تعقيدًا وأمرًا غير قابل للحل وربما قد ينسف ما حصّلته الإنسانية عبر رحلاتها الشاقة والدامية في دروب المعرفة الطويلة والمتشعبة واللاّمتناهية والبناءات الشاهقة التي شيدتها الفلسفة وطوعها الإنسان من أجل البقاء وحسن البقاء.

هناك جانب في قضية المرأة التونسية بقي غير مطروق بالشكل المطلوب وهو مدى حضور المرأة المثقفة والفنانة المبدعة في مجالات الشعر والرقص والرسم والكتابة والسينما والمسرح

هذا القول قد يتطابق مع فكرة تونسية أصيلة رتّبها القدر والتاريخ معًا وبدأ المجتمع في طرقها وتناولها بوعي وجدية وعفوية منذ ثلاثينات القرن العشرين، خصوصًا عندما نشر المفكر المصلح الطاهر الحداد كتابه الشهير "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" وما حفّ بذلك الحدث من نقاش جدي وجدل عميق أدى مباشرة إلى تأسيس منظومة من تشريعات جريئة وثورية صدرت في الأسابيع الأولى من إعلان الجمهورية وإنهاء الملكية في 25 جويلية/ يوليو 1957 وسميت بمجلة الأحوال الشخصية واستتبع هذا القانون بقوانين أخرى متممة وداعمة طيلة عقود الاستقلال والجمهورية وهو ما عزز من مكانة المرأة وحضورها في المجتمع وتقديم صورتها على نحو مغاير.

قضية المرأة التونسية تشققت وتفرعت إلى قضايا أخرى وتمت مقاربتها من عدة جهات وأسالت حبرًا كثيرًا بحثًا عن صورة جديدة ووجه آخر للمجتمع يقطع مع الوجه القديم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تغير فعلًا المجتمع التونسي؟ وهل تميّز عن باقي المجتمعات بفضل تلك الأسبقية التشريعية التي حققها؟

 لقد حاولت النخب التونسية كل من موقعها أن تواجه هذا الموضوع المركب وتفكيك شيفراته وإعادة تركيبه بما يتواءم مع اللحظة التاريخية وإلى اليوم هناك عود لبعض التفاصيل التي وقع الخوض فيها قديمًا ومحاولة فهمها مجددًا، ومقابل ذلك هناك حديث عن الآتي الغامض والمستقبل المجهول فيما يتعلق بمكانة المرأة ودورها في المجتمع بين ريبة وخوف من سطوة الذكورية وهيمنتها وطغيانها.

وفي الوقت نفسه، هناك جانب في قضية المرأة التونسية بقي غير مطروق بالشكل المطلوب وهو مدى حضور المرأة المثقفة والفنانة المبدعة في مجالات الشعر والرقص والرسم والكتابة والسينما والمسرح، وأيضًا هناك مسارب من بعض المسالك الفنية والإبداعية لم يتم درسها إلى اليوم فيما يتعلق بالمرأة سواء كذات مبدعة أو كموضوع للعمل الفني والإبداعي.

صورة المرأة في الرسم التونسي، هي صورة مازالت خامًا لم تُدرس بعد، وتناوُلها العلمي من قبل الجامعة التونسية ومخابر البحث المختصة وحتى تاريخ الفن يبقى قليلًا

ومن هذه التفريعات الهامة نجد صورة المرأة في الرسم التونسي، وهي صورة مازالت خامًا لم تدرس بعد، وتناولها العلمي من قبل الجامعة التونسية ومخابر البحث المختصة وحتى تاريخ الفن يبقى قليلًا، مقابل آلاف الرسومات والأعمال التشكيلية طيلة قرن من الرسم والإنتاج الفني البصري في تونس.

كان لا بدّ من الجزم منذ البداية أن ليس هناك مدرسة تونسية واضحة المعالم والتناسق الجمالي والفكري والتمشي التاريخي في مجال الرسم وإنما هناك مدارس صغيرة وأنساق خاصة وتجارب فردية ومدونات أنشأها الرسامون التونسيون على امتداد عقود من الزمن، لكن يمكن القول أيضًا إن الرسم التونسي تأثر في مجمله تأثرًا ملحوظًا بالمدرسة الاستشراقية الكبرى نهايات القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين وذلك نتيجة للرحلات التي قام بها عدد لا يستهان به من الرسامين الأوروبيين إلى الشرق أو أولئك اللذين استقروا بالمجتمعات الشرقية مع حلول الاستعمار، فكانت المرأة من المواضيع المشتهاة بالنسبة إليهم بل كانت الموضوع الأساسي إلى جانب انبهارهم بالطبيعة والتراث، لكنهم رسموها رسمًا موجهًا وغير ناقل لحقيقة المجتمع، فنجد أن أغلب اللوحات والأعمال الفنية رسمت بالأساس المرأة البدوية في مواقف مثيرة للشفة وبائسة أو يطغى عليها الطابع الإيروتيكي وهي نظرة شائعة في الغرب الاستعماري.

ليس هناك مدرسة تونسية واضحة المعالم والتناسق الجمالي والفكري والتمشي التاريخي في مجال الرسم، وإنما هناك تجارب فردية ومدونات أنشأها الرسامون التونسيون على امتداد عقود من الزمن

اللوحة التونسية تأثرت في بدايتها بفرشاة المستشرقين أيما تأثر، ومن أبرز الأسماء التي نحت ذلك المنحى نجد الرسام يحيى التركي (1903 ـ 1996) الذي كان تشخيصيًا إلى أبعد حد وقد شارك في المعرض الاستعماري للفنانين الفرنسيين خلال رحلته إلى فرنسا التي امتدت من 1927 إلى 1035 وكان يقدم صورة نمطية للمرأة التونسية ومن أشهر أعماله حول المرأة الغسالة والعرس.. وهو يعتبر وريث مدرسة الاستعمار وقد ظل يستعمل نفس المقاربات الجمالية طيلة حياته الفنية.

ومن الرسامين التونسيين الذين تناولوا الحياة اليومية لمجتمعهم واحتفوا بالتراث الشعبي بأساليب استشراقية وكانت المرأة محورًا أساسيًا لأعماله، نجد الفنان جلال بن عبد الله (1921 ـ 2017)، وما يميز إنجازات هذا الرسام تأثره بالمنمنمة الفارسية فكان ميالًا للزخرف عند نقله لتفاصيل اللباس وديكورات المنازل والمحلات والأسواق. وقد شارك جلال بن عبد الله لأول مرة في الصالون التونسي سنة 1942 بلوحة عنوانها أمومة وعاد ليشارك سنة 1945 بلوحة عنوانها "امرأة في الشرفة"، وهي لوحات تشخيصية تصويرية تقدم صورة ثابتة قد تتحول إلى وثيقة تاريخية مع مرور الزمن يمكن قراءتها إنتروبولوجيًا.

كان جلال بن عبد الله أول المنتمين لجماعة مدرسة تونس في أواخر أربعينات القرن العشرين وكان مواظبًا على المشاركة في معارضها حتى نهايتها واضمحلالها على إثر وفاة عبد العزيز القرجي آخر رؤسائها سنة 2008. وطيلة مشاركاته تلك كانت المرأة تحضر في لوحاته حضورًا فخمًا.

بدأت صورة المرأة التونسية تتغير في مستوى الطرح والتناول الجمالي في أربعينات القرن العشرين مع الرسام علي بن سالم وهو من الجيل الأول الذي تخرج من مدرسة الفنون الجميلة بتونس

لقد كانت المرأة التونسية من المواضيع الأساسية لمدونته التشكيلية، إذ نجده ينقل حياتها بدقة تسجيلية على مستوى اللباس والقيافة والتزين والعمل بالمنزل والاحتفال أو الاستغراق في العزف على الآلات الموسيقية التقليدية ضمن أطر معمارية مزخرفة. فقدم بذلك صورة مقولبة فيها إلحاح شديد على تداخل الضوء بالظل، أما ما يميز انحيازه للمرأة في أعماله الفنية هو ولعه بأنوثتها وجمالها ونقله للملامح والصفات بكل دقة، مما جعله واحدًا من أهم الرسامين التونسيين الذين نقلوا الجانب الرومانسي والروح الحالمة للمرأة التونسية على مدار سبعة عقود قضّاها في الرسم.

نور الدين الخياشي (1918 ـ 1987) من الرسامين التونسيين الذين طبعوا الثقافة التونسية طيلة القرن العشرين، والخياشي هو نجل الرسام الهادي الخياشي المعروف برسام القصر الملكي زمن حكم البايات الحسينيين لتونس، وقد تلقى تكوينًا متينًا بروما نهاية ثلاثينات القرن العشرين، ويعتبر خرّيج تلك المدرسة التي تعلي من شأن الرسم التشخيصي، وقد كانت المرأة محورًا أساسيًا لرسوماته فرسم المرأة الأرستقراطية البلدية في جميع تجلياتها وأحوالها المعيشية مثل الجلسات الخاصة وزينتها ولباسها وحمّامها. وأمعن الخياشي في رسم نساء عائلته مقدمًا صورة تشخيصية نمطية عن المرأة التونسية، ومن أشهر أعماله العازفة والحنانة والسفساري.

بدأت صورة المرأة التونسية تتغير في مستوى الطرح والتناول الجمالي في أربعينات القرن العشرين مع الرسام علي بن سالم (1910 ـ 2001) وهو من الجيل الأول الذي تخرج من مدرسة الفنون الجميلة بتونس التي دخلها سنة 1927 وواصل دراسته بفرنسا واختلط هناك بأهم الرسامين وتأثر ببعضهم مثل هنري ماتيس. وقد تحصل بن سالم سنة 1936 على الجائزة الأولى للرسم بتونس، وقضّى هذا الرسام المختلف مدة طويلة من حياته بمملكة السويد وتزوج هناك من الرسامة السويدية "نيلسون كارستن" وتشبع هناك بقيم المجتمعات الغربية وخصوصًا المساواة والعدالة فكان صوتًا مناديًا بحرية البلاد التونسية من ربقة المستعمر الفرنسي كما نادى هذا الرسام بتحرر الدول العربية من مستعمريها.

علي بن سالم اختار العيش بمدينة الحمامات منذ سنة 1970 وكانت رسوماته تتميز بالبهجة والفرح والأنس والسكينة فهي كالضمائد للمكلومين، وذلك بخلقه لمناخات لم تعهدها اللوحة التونسية من قبل فيها مزاوجات غريبة وبسيطة للألوان بنكهات متوسطية، كما خلق بن سالم عوالم تحت بحرية تعد فريدة من نوعها.

إثر الاستقلال، دخلت الفرشاة التونسية فيما عرف في تلك الحقبة التاريخية بـ"التونسة" عبر تلمّس هوية جديدة تقوم على المحلي أو الخصوصية الثقافية

وكانت المرأة مقوّمًا من مقومات مفرداته الجمالية فابتكر عالمًا خاصًا بها لم تعد فيه المرأة تلك البدوية العارية قرب نخلة أو عين جارية بل جعلها شبيهة بسيرانة البحر وفي بعض الأعمال ذهب إلى المساواة بينها وبين الرجل في الملامح فلا فرق بين وجه المرأة ووجه الرجل، ومن أشهر أعماله نذكر "حلم في الفضاء التقليدي" و"عرس في الهواء الطلق" و"فضاء الغزلان".

إثر الاستقلال، دخلت الفرشاة التونسية فيما عرف في تلك الحقبة التاريخية بـ"التونسة" وقد شملت تلك السردية القائمة على تلمس هوية جديدة تقوم على المحلي أو الخصوصية الثقافية والذاكرة الجمعية الممتدة في الزمن.

كانت صورة المرأة محورًا من محاور اللوحة التونسية وكانت مدرسة تونس للرسم قد انبرت لموضوع التونسة وكلّف رموزها بمهام ثقافية في هذا المجال فرسمت الجداريات على الواجهات وداخل مؤسسات التعليم والبنوك ومراكز البريد ووضعت النصب والمنحوتات في الساحات العامة.

صورة المرأة في الرسم التونسي هي من المجالات الخصبة للتناول النقدي والفلسفي والفكري كي نفهم المسارات الحضارية والسياسية والثقافية والإيديولوجية للفن التشكيلي التونسي

أما صورة المرأة فكانت مغايرة تمامًا مع الرسامين صفية فرحات والزبير التركي وعبد العزيز القرجي وعمر بن محمود وخليفة شلتوت.. إذ أخرجوها من ثباتها واستعمالها كديكور في بعض الأعمال الفنية وأبرزوا دورها في المجتمع كأم وعاملة في المجال الفلاحي وفي المصانع، فكانت الواقعية البسيطة صنوًا لمئات اللوحات التشكيلية التي تبدو فيها المرأة عالية الروح وناثرة لقيم جديدة ودافعة نحو بناء أجيال جديدة تقدس مكانة المرأة.

إن صورة المرأة في الرسم التونسي هي من المجالات الخصبة للتناول النقدي والفلسفي والفكري حتى نفهم المسارات الحضارية والسياسية والثقافية والإيديولوجية للفن التشكيلي التونسي، وهو فرصة استثنائية حتى نجيب عن عدة أسئلة منها كيف كانت تحضر المرأة التونسية في المجتمع طيلة قرن من الزمن؟ وكيف كان ينظر الرسام التونسي باعتباره مثقفًا للمرأة كإنسان وكموضوع جمالي؟ وإلى أي مدى استفادت الأنتروبولوجيا وعلوم التاريخ في تونس من هذا الرصيد الذي تحول جزء منه إلى وثائق هامة؟