إشارات حمراء اشتعلت في تونس، لم تستطع مجهودات حكومة نجلاء بودن أو خطابات الرئيس التونسي قيس سعيّد إخفاءها، إذ تصاعدت تنبيهات عدد من الشخصيات الوطنية والحزبية والمنظمات الوطنية وعديد التقارير الدولية أيضًا، من أن تدخل تونس فصلًا جديدًا.. "انهيار الدولة"، أو الخطر الداهم الفعلي الذي لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من إيقاف وصوله.
هذا الخطر تثبته التصريحات الأخيرة لخبراء الاقتصاد، وأمين عام المنظمة الشغيلة، والتي تؤكد حقيقة وصول تونس إلى منعرج غير مسبوق سياسيًا، اقتصاديًا واجتماعيًا.
صُنّفت تونس "بلدًا عالي المخاطر" من قبل كل من مجموعة الأزمات والبنك الدولي وتقرير منتدى دافوس، وأعلنوا إمكانية انهيار الدولة في تونس وتفكّكها، وانطلاق اضطرابات اجتماعية محتملة، في قادم الأيام
تزامن كل ذلك مع تصنيف تونس "بلدًا عالي المخاطر" من قبل كل من مجموعة الأزمات والبنك الدولي وتقرير منتدى دافوس أيضًا، وإعلانهم عن إمكانية انهيار الدولة في تونس وتفكّكها، وانطلاق اضطرابات اجتماعية محتملة، في قادم الأيام.
اقرأ/ي أيضًا: نجلاء بودن.. استحقاقات ضخمة وصلاحيات محدودة
- ناقوس الخطر يدقّ
تعاني تونس منذ 25 جويلية/ يوليو الماضي أزمة سياسية حادة، ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادي الذي يعاني بدوره من مخلفات جائحة كورونا، ومن ارتفاع الدين العام والخاص وعدم الاستقرار السياسي جرّاء التجاذبات السياسية وتعاقب الحكومات طيلة العشر سنوات الماضية.
أزمة بدأت ملامحها في الظهور والانعكاس على حياة المواطنين من خلال النقص الواضح في بعض المواد الأساسية كالخبز والسميد والأرز والزيت، والنقص الحاصل في بعض الأدوية وعدم توفرها في الصيدليات، وفي تراجع المقدرة الشرائية للمواطن والارتفاع المشط والمستمرّ في الأسعار، ورداءة الخدمات التي تقدمها المؤسسات العمومية. ومؤخرًا، بدأت تتجلى أيضًا في التأخر الكبير في صرف أجور الموظفين، ما يحيلنا إلى سؤال: هل ستنهار الدولة في تونس؟
في تصريح لـ"الترا تونس"، قدم الوزير السابق والمختص في الاقتصاد توفيق الراجحي مبررات انهيار الدولة، والتي تتلخص اقتصاديًا حسب الراجحي، في عجز الدولة عن تقديم الخدمات الموكولة لها كالصحة والتعليم على سبيل المثال، وانهيار المؤسسات، والعجز عن تمويل النفقات وسداد أجور الموظفين، والانهيار السياسي بغياب الديمقراطية والمؤسسات المنتخبة.
توفيق الراجحي (وزير سابق ومختص في الاقتصاد) لـ"الترا تونس": يمكن أن تتوقّف الدولة عن توفير المرافق الاجتماعية كالكهرباء والماء، تمامًا كما حصل في نقص تأمين بعض المواد الأساسية، والصعوبات التي تواجهها الحكومة في تأمين أجور الموظفين
وفسر الراجحي، أن تصنيف تونس من قبل المؤسسات الدولية، كبلد "مهدّد بالانهيار وعالي المخاطر"، جاء إجابة على الأزمة السياسية التي تشهدها تونس منذ 25 جويلية/ يوليو الماضي، بتغييب المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وتجميع كل السلط في يد رئيس الجمهورية.
وبيّن الراجحي أن الاقتصاد التونسي يعاني من عجز في تمويل نفقات الدولة ومن تراكم الدين العام، وعدم القدرة على الخروج للأسواق العالمية للاقتراض، والعجز حتى في بعض الأحيان عن إيجاد التمويل الداخلي للميزانية، وتمويل المنوال التنموي الاجتماعي، وفقه.
اقرأ/ي أيضًا: مجموعة الأزمات الدولية تدرج تونس ضمن قائمة الدول المهددة بـ"صراعات مميتة"
كما حذّر الوزير السابق في حديثه لـ"الترا تونس"، من إمكانية توقف الدولة عن توفير المرافق الاجتماعية كالكهرباء والماء، وأشار إلى بعض المؤشرات القائمة كما هو الحال بالنسبة للنقص الحاصل في تأمين بعض المواد الأساسية من مشتقات الحبوب والزيت، والصعوبات التي تواجهها الحكومة في تأمين أجور الموظفين.
وقال الراجحي إنّ استمرار هذه الوضعية لمدة تفوق الأربعة أو الستة أشهر، قد يؤدي إلى انهيار الدولة وتوقّف كل المرافق وتردي خدماتها، مستثنيًا من ذلك الجهاز الأمني والعسكري.
وأكد الراجحي، أن الحل الوحيد لتفادي انهيار الدولة يكمن في إيجاد الحلول اللازمة للمسألة السياسية بالرجوع إلى الدستور والمؤسسات المنتخبة وعودة الحياة الديمقراطية وبإجراء حوار وطني.
توفيق الراجحي (وزير سابق ومختص في الاقتصاد) لـ"الترا تونس": كان من الأولى أن توجد مؤشرات الإصلاح الذاتي في قانون المالية لسنة 2022، ولكن لا بدّ من تدارك ذلك بسن قانون مالية تكميلي يتضمن مجموعة من التدابير الاصلاحية
أما اقتصاديًا، فقد اعتبر الراجحي أن إيجاد الحلول ينطلق من القيام بالاصلاحات الكبرى المطلوبة، خاصة على مستوى المالية العمومية التي تشمل كلًا من الدعم والوظيفة العمومية ودعم المحروقات ودعم المؤسسات العمومية، لتتفرغ الدولة في ما بعد لخلق الثروة ودعم الاستثمار ودعم عجلتيْ النمو والإنتاج.
وأضاف المختص في الاقتصاد، أن الدولة استُنزفت في إيجاد الحلول للمنوال الاجتماعي، وبقيت عاجزة عن خلق الثروة والاستثمار، وقال: "للدولة التونسية منوال اجتماعي تنموي متقدّم يشبه منوال الدول الأوروبية والاسكندنافية، لكنه ذو خدمات رديئة نظرًا لعجز الدولة عن تمويله، ويحتاج هذا المنوال التنموي، لنسبة نمو لا تقل سنويًا عن 4 و5%، في حين بقي معدل النمو التونسي يترواح خلال العشر سنوات الماضية بين 1 و1.5%".
- السيناريو اللبناني قريبًا..!
تتعالى همسات الشارع التونسي حول إمكانية وقوع سيناريو مماثل للسيناريو الحاصل في لبنان الذي دخلت إثره البلاد في أزمة اقتصادية خانقة بعد انفجار مرفأ بيروت منذ سنتين، الأمر الذي نفاه الراجحي موضّحًا لـ"الترا تونس"، الاختلاف بين بنية الاقتصاد التونسي واللبناني، فالاقتصاد التونسي متنوع يستند على مجالات مختلفة كالفلاحة والفسفاط والسياحة والصناعة والخدمات، على عكس اللبناني، حسب قوله.
اقرأ/ي أيضًا: المنتدى الاقتصادي العالمي: تونس تواجه مخاطر انهيار الدولة والتداين والبطالة
ودعا الراجحي، الحكومة إلى الانطلاق في عملية إصلاح ذاتي نابع من داخلها تستمر لمدة 3 سنوات، مضيفًا أنه كان من الأولى أن توجد مؤشرات هذا الإصلاح في قانون المالية لسنة 2022، وأنّه لا بدّ من تداركه بسن قانون مالية تكميلي يتضمن مجموعة من التدابير الاصلاحية، من ثمّ التوجه لصندوق النقد الدولي، لتمويل عجز الميزانية البالغ (8.548 مليار دينار)، وليس العكس، لتبيان مصداقية الحكومة في التفاوض مع الصندوق.
- عبء دولي بعنوان تونس
وتواجه تونس اليوم، صعوبات حقيقية في الخروج للسوق الدولية، لإيجاد السيولة اللازمة لسد عجز الميزانية، ويرى محللون أنها انضمت رسميًا إلى مجموعة الدول التي أصبحت تؤرق المجتمع الدولي.
المختص في العلوم السياسية أيمن البوغانمي فسّر ذلك لـ"الترا تونس"، بقوله: "تونس تحولت إلى نوع من العبء على المجتمع الدولي، بسبب الاستعصاء الذي واجهه من قبل السلطة الحالية، وعدم سماع النداء والتفاعل الإيجابي معه، وهو ما أكدته التقارير الثلاثة (صندوق الأزمات والبنك الدولي وتقرير منتدى دافوس)".
أيمن البوغانمي (مختص في العلوم السياسية) لـ"الترا تونس": تونس تحولت إلى نوع من العبء على المجتمع الدولي، بسبب الاستعصاء الذي واجهه من قبل السلطة الحالية، وعدم سماع النداء والتفاعل الإيجابي معه
وأضاف البوغانمي، أنّ هذه التقارير تعبّر عن خيبة أمل من قبل الداعمين لتونس مردّها صعوبة التأثير في الواقع التونسي وإيجاد تفاعل إيجابي معه، وقال: "لا أعتقد أن الدولة مهدّدة بالانهيار، لكن أكاد أجزم أن الاقتصاد التونسي مهدد بالانهيار، وليس هناك أي أمل يلوح في الأفق دون الإصلاح الداخلي لاستجلاب الدعم الخارجي".
وأكد البوغانمي أنّه لا يمكن أن تمر تونس من هذه الأزمة دون انهيار الاقتصاد أو استجلاب الدعم الخارجي الذي لن يأتي دون إصلاح داخلي، على حد قوله، مضيفًا: "للإصلاح الداخلي بُعدان، بعد سياسي يتمثل في العودة للأطر الدستورية العادية على اعتبار أنه لا يمكن الاستمرار في حالة الاستثناء وتوقع أن البلدان التي دعمت الديمقراطية واستثمرت فيها من قَبْل ستأتي للنجدة في هذا الظرف الحالي".
وبخصوص البعد الاقتصادي قال البوغانمي، إن تونس لم تقم منذ 2011 بالإصلاحات اللازمة، لغياب شجاعة الحكومات المتعاقبة والاستقرار السياسي كذلك.
- "انقلاب جديد" في تونس
ونبّه البوغانمي من أنّ انقلابًا محتملًا قد يأتي بعد عجز السلطة الحالية عن تدبير الأمور، مؤكدًا وجود قوى في تونس ليس من مصلحتها أن تسوء الأمور إلى حدّ اللاعودة، ولفت إلى أنّه "بعد استيفاء ستة أشهر على الحالة الاستثنائية، لا بدّ من إيجاد صيغة للحوار ترعاها الأطراف الاجتماعية لحلحلة الأزمة السياسية والانطلاق في الإصلاحات الملحّة من أجل إقناع شركاء تونس بجديّتها هذه المرة في الإصلاح".
أيمن البوغانمي (مختص في العلوم السياسية) لـ"الترا تونس": "انقلاب" محتمل قد يأتي بعد عجز السلطة الحالية عن تدبير الأمور، إذ هناك قوى في تونس ليس من مصلحتها أن تسوء الأمور إلى حدّ اللاعودة
ودعا البوغانمي في حديثه لـ"الترا تونس"، إلى تحكيم العقل وتدبير الأمور بالحكمة وتغليب المصلحة الوطنية لأننا "بالغنا في ترديد الخطابات والشعارات دون فعل يذكر" على حد قوله.
- انهيار الدولة أمر وارد
من جهته فسّر الكاتب الصحفي صلاح الدين الجورشي في حديثه لـ"الترا تونس"، أن التصنيفات التي قامت بها المؤسسات الدولية، ارتبطت بمؤشرات ملموسة تحاكي الوضع في تونس.
لكن من السابق لأوانه وفق الجورشي، الحديث عن انهيار الدولة، ليتابع: "المؤشرات التي استند عليها المجتمع الدولي مرتبطة أساسًا بإصرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد على جمع السلطات بيده واختزال الدولة في شخصه، ما تعتبره المنظمات الدولية مؤشرًا خطيرًا لإمكانية انهيار الدولة".
المؤشر الثاني وفق الجورشي، يتمثّل في العزلة الدولية التي باتت تعيشها تونس والتي أثرت بشكل مباشر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وشدّد على أنّ الحديث عن انهيار الدولة يصبح أمرًا واردًا، عندما تتراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى مستوى يبيّن فشل الدولة في توفير الحد الأدنى لمواطنيها" وفقه.
صلاح الدين الجورشي (كاتب صحفي) لـ"الترا تونس": من السابق لأوانه الحديث عن انهيار الدولة، والمؤشرات التي استند عليها المجتمع الدولي لإمكانية انهيار الدولة، مرتبطة أساسًا بإصرار سعيّد على جمع السلطات بيده واختزال الدولة في شخصه
ونبّه الجورشي إلى أنّ عدم قدرة الدولة على توفير حاجيات مواطنيها، وتردي خدماتها كالصحة والنقل والتعليم أو غيابهم، يخلق حالة من الخوف عند المواطنين يتحول تدريجيًا إلى حالة اضطراب، تؤدي بالضرورة إلى تفكك الروابط الاجتماعية ويصبح العنف واردًا حينها.
- الحوار أو التصعيد
وأفاد الجورشي أن رئيس الجمهورية مطالب بفتح باب الحوار والجلوس مع المنظمات الكبرى كالاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف ومع الأحزاب لحل الأزمة السياسية التي أدت بدورها إلى شلل على مستوى عمل الدولة.
وبخصوص تعنت سعيّد وتمسّكه بعدم فتح باب الحوار رغم تتالي الدعوات من قبل اتحاد الشغل، أكد الجورشي أن الاتحاد قد يجد نفسه مضطراً إلى عملية تصعيد اجتماعي ستترجم في قادم الأيام بجملة من الإضرابات تمسّ قطاعات كبرى، "وهو ما سينعكس سلبًا، على علاقة الاتحاد بالسلطة، وعلى علاقة الرئيس بجمهور واسع (قواعد الاتحاد)، وبالتالي سيفقد سعيّد الكثير من شعبيته في صورة ما تعددت الإضرابات ودخلنا مرحلة الصدام المباشر بين السلطة والاتحاد" وفق الجورشي.
- الدولة تنهار عندما تخفق الجماعة الوطنية
الأكاديمي وعالم الاجتماع والوزير السابق مهدي المبروك، قال في تصريح لـ"الترا تونس"، إن انهيار الدول يستوجب 3 شروط، أولها أزمة اقتصادية حادة، تتسبب في انفجار اجتماعي، الشرط الثاني حسب المبروك، ضعف الدولة وإخفاقها في بسط نفوذها وتلبية حاجيات مواطنيها، أما الشرط الثالث، فهو تفكك العقد الأدبي للجماعة الوطنية، وفق تعريفه.
وأضاف المبروك أنّ الدولة تنهار عندما تخفق الجماعة الوطنية وتعود لانتماءاتها الأولى"العروشية والجهوية"، مؤكدًا أنّ لتونس الكثير من التراث المدني، مردفًا: "تونس دولة لها تراث دَوْلَوِي ممتد، وليست من نتاج سايكس بيكو أو تقسيمات الدول المنتصرة أو المنهزمة في الحروب العالمية، كما أنها دولة لها مركزية مفرطة ولها قبول".
مهدي المبروك (عالم اجتماع ووزير سابق) لـ"الترا تونس": انهيار الدولة في تونس يبقى إمكانية واردة، يجب النظر إليها بالكثير من النسبية والحذر، وأنبّه من إمكانية انخراط الجيش في المعركة السياسية لحلّها
وتابع المبروك: "لا تراث قبائلي يهددنا، ولا بنية ما فوق الدولة، تونس من بين الدول النادرة جدًا في العالم العربي التي تمتلك تراثًا دولويًا راسخًا في التاريخ"، وأضاف: "انهيار الدولة في تونس يبقى إمكانية واردة، يجب النظر إليها بالكثير من النسبية والحذر".
واعتبر أن تصنيف تونس كبلد مهدد بانهيار الدولة يعدّ تنبيهًا من قبل المجتمع الدولي على ما آلت أو ستؤول إليه الأوضاع ، مشيرًا إلى ضرورة أن يلتقط رئيس الجمهورية هاته الرسائل من أجل تفادي هذا السيناريو.
- الجيش على الخطّ؟!
وواصل المختص في علم الاجتماع حديثه لـ"الترا تونس": "الحلول اليوم أمامنا محدودة في صورة تواصل عناد رئيس الجمهورية ومضيّه في هذا الطريق الذي رسمه لنفسه، دون القدرة على القراءة الجيدة للأزمة السياسية"، مشددًا على أنّ كل الاحتمالات واردة، "وأرجو أن تكون الحلول سلمية مدنية" وفقه.
وحذّر المبروك من إمكانية انخراط الجيش في المعركة السياسية لحلّها، لأن هذا سيعطي، وفق المبروك، سابقة خطيرة لم تحدث في تاريخ تونس، مضيفًا: "نعوّل على وعي النخب السياسية المدنية في أن تلتقي وإلاّ فلن ندري ما السيناريوهات المطروحة لخروجنا من الأزمة".
ولئن لاحت مؤشرات انهيار الدولة في الأفق، وحتى إن كانت تنبيهًا فقط من قبل الأطراف الدولية لمنع وقوع الأسوأ، فإنّ معاناة المواطن التونسي تبقى في تأمين قوته، بعد تراجع جودة الحياة والارتفاع المشط القائم في الأسعار، والحاجة إلى حلول عاجلة لمنع وقوع المحتمل.
اقرأ/ي أيضًا: