21-يناير-2022

صارت رحلة البحث عن المواد الغذائية الأساسية روتينًا يوميًا لمعظم العائلات التونسية ضعيفة ومتوسطة الدخل (Getty)

 

تشير الساعة إلى السادسة والنصف صباحًا، تنطلق رحلة الخالة عاطفة، القاطنة بأحد أحياء العاصمة تونس، في البحث عن المواد الغذائية الأساسية لتأمين قوت عائلتها المتكونة من أربعة أفراد.

تشكو عاطفة وهي ربّة منزل، عدم توفر كلّ من الزيت والبيض ومشتقات الحبوب والأرز وحتى قوارير الغاز من دكاكين بيع المواد الغذائية. وتزيد في حديثها لـ"الترا تونس" "لسنا قادرين على تأمين قوت أطفالنا.. هل من المعقول أن أتوجّه لأحد الأحياء المجاورة بحثًا عن المواد الغذائية.. حتى باعة "الملاوي والطابونة" (أنواع من الخبز التونسي) أتعبهم النقص في توفر مادتي السميد والزيت في السوق".

تشهد السوق التونسيّة منذ مدة نقصاً واضحاً في توفر بعض المواد الأساسية، مثل السميد والفرينة والبيض والزيت وحتى قوارير الغاز

وتضيف "عائلاتنا في الأرياف تعتمد في تأمين طعامها اليومي على 50 كغ من السميد شهريًّا، هل من المعقول أن يتنقل رب عائلة ريفية للبلدة ليشتري بعض الخبز الذي كلفته أقل من كلفة وسيلة النقل التي ستؤمّن ذهابه وإيابه..".

ومعاناة الخالة عاطفة ليست حالة فريدة أو معزولة، إذ صارت رحلة البحث عن المواد الغذائية الأساسية روتينًا يوميًا لمعظم العائلات التونسية ضعيفة ومتوسطة الدخل.

اقرأ/ي أيضًا: من بينها الحليب والزيت والحبوب: أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس

  • نقص لافت في توفر عدد من المواد الغذائية الأساسية

تشهد السوق التونسيّة منذ مدة نقصاً واضحاً في توفر بعض المواد الأساسية، مثل السميد والفرينة والبيض والزيت (المدعم وغير المدعم) وحتى قوارير الغاز التي يستعملها التونسيون للطبخ والتدفئة.

ويرجع مختصون اقتصاديون هذا النقص في جزء منه إلى العجز في الموازنة/الميزانية وعدم توفّر العملة الصعبة.

وتتوقع الحكومة التونسية أن يبلغ عجز الموازنة لسنة 2022، 9,3 مليار دينار (3,2 مليار دولار) أي 6,7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما بلغ عجز الميزانية لسنة 2021  10.4 مليار دينار (3.72 مليارات دولار).

وكانت تقارير صحفية وتصريحات لنشطاء ومختصين قد أكدت رسوّ بعض البواخر المحملة بالحبوب ومواد أخرى في غمار البحر لمدة فاقت الشهر في انتظار تفريغ شحناتها، مؤكدين أن هذا التأخير يعود لفقدان الحكومة للسيولة اللازمة من العملة الصعبة لتفريغ الشحنات وتزويد السوق بما يلزم من حاجيات التونسيين.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب عدم القدرة على الدفع: بقاء 4 بواخر حبوب مستوردة في عرض البحر بميناء صفاقس

  • عوامل داخلية وأخرى خارجية خلف الأزمة

حول أزمة نقص عدد من المواد الأساسية من الأسواق التونسية، يقول المختص الاقتصادي رضا الشكندالي في حديثه لـ"الترا تونس" إن للأمر صلة بعوامل داخلية وخارجية.

يتحدث الشكندالي عن توقّع المضاربين والمحتكرين رفع الحكومة الدعم عن بعض المواد مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها، فيلجؤون بالتالي إلى تخزين المواد كحركة استباقية بغرض تحقيق ربح أكبر وهو من بين أهم العوامل الداخلية للأزمة، حسب محدثنا.

الشكندالي لـ"الترا تونس": توقّع المضاربين والمحتكرين رفع الحكومة الدعم عن بعض المواد مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها، جعلهم يلجؤون إلى تخزين المواد كحركة استباقية بغرض تحقيق ربح أكبر

وفي رده على سؤال "الترا تونس" عن ما إذا كان لاقتراب موعد شهر رمضان تأثير على الأزمة، يقول المختص الاقتصادي إن "السوق التونسية تشهد عادة نقصاً في بعض المواد في إطار التحضير لشهر رمضان لكن الأمر لم يصل مسبقًا إلى ما شهدته تونس في هذه المدة".

وكشف الشكندالي أن سياسة الصرف التي اعتمدتها تونس أدت إلى تراجع كبير على مستوى قيمة الدينار، ما أدى بدوره إلى ارتفاع تكلفة بعض المواد الأساسية، كالارتفاع في علف الدجاج، على سبيل المثال.

اقرأ/ي أيضًا: غرفة مصنّعي العلف المركّب تكشف أسباب ارتفاع أسعار الأعلاف

وبخصوص العامل الخارجي، يقول الشكندالي إنه ينقسم إلى 3 عوامل، يتمثل الأول في تخزين البلدان المنتجة لاحتياطات غذائية خوفاً من موجات وبائية محتملة. والعامل الثاني، حسب الشكندالي، له علاقة بتغيّر المناخ، حيث تشهد بعض البلدان المنتجة كالأرجنتين والبرازيل وروسيا وأوكرانيا وأمريكا طقسًا جافًا يؤثر على تقديرات العرض وبالتالي ارتفاع الأسعار.

الشكندالي: من أسباب نقص عدة مواد في السوق التونسية تخزين البلدان المنتجة لاحتياطات غذائية خوفاً من موجات وبائية محتملة وبسبب ما تشهده من تغييرات مناخية

أما العامل الثالث، فقدّره الشكندالي بتخزين مختلف دول العالم للمواد الغذائية في ذات الوقت وبالتالي كلها عوامل أثرت على ارتفاع الطلب ونقص العرض وارتفاع الأسعار العالمية للمواد الأساسية والأولية، وفق قراءته. 

  • أزمة سيولة أيضًا..

وحول أزمة رسو بعض البواخر المحملة بالحبوب أو غيرها من المواد لفترة طويلة دون التمكن من دفع مستحقاتها بالعملة الصعبة في الإبان، يقول الشكندالي "تراجعنا في الترقيم السيادي أثر بدوره على تعامل المزودين معنا، حيث صاروا يطالبون بخلاص مستحقاتهم قبل تنزيل الشحنات، في وقت تعاني فيه تونس من نقص السيولة اللازمة".

ويشدد الشكندالي "إذا ما أرادت الدولة التخفيض في الأسعار عليها تأمين أسعار منخفضة للمنتجين لا اتباع سياسات صرف تؤدي إلى تراجع في قيمة الدينار التونسي والترفيع في الأداءات والفوائد وتكلفة الإنتاج، فالأسعار عرض وطلب وقدرة على صمود الاقتصاد أمام التقلبات المناخية والدولية، لا بدّ للدولة من التحوط عند وضع قانون المالية لمجابهة الأزمات المحتملة داخليًا وخارجيًا".

الشكندالي: تراجعنا في الترقيم السيادي أثر بدوره على تعامل المزودين معنا، حيث صاروا يطالبون بخلاص مستحقاتهم قبل تنزيل الشحنات، في وقت تعاني فيه تونس من نقص السيولة

  • وزيرة التجارة: تلافي النقص انطلاقًا من هذا الأسبوع 

تواصل فقدان مواد أساسية جديدة من السوق يومًا بعد يوم، خلّف مخاوف وحيرة وأسئلة كثيرة لدى التونسيين طرحتها "الترا تونس" على وزيرة التجارة والصادرات فضيلة الرابحي، التي وضحت أن التذبذب الذي شهده السوق في التزود ببعض المواد الأساسية في الفترة الأخيرة، "مردّه ارتفاع الطلب عليها قبل رأس السنة"، وفقها.

وأضافت الرابحي "عاد توفر بعض المواد تدريجيًا بعد رأس السنة، كما أن تونس تحتوي على مخزون من الحبوب يغطي حاجياتنا حتى موفّى شهر ماي/آيار القادم".

وبيّنت وزيرة التجارة والصادرات في حديثها لـ"الترا تونس"، أن حاجيات التونسيين من الزيت النباتي المدعم تبلغ 14500 طن شهريًا، قامت الوزارة بتوريد 9000 طن منها وشرعت في تزويد السوق بها.

وزيرة التجارة لـ"الترا تونس": "عاد توفر بعض المواد تدريجيًا بعد رأس السنة، كما أن تونس تحتوي على مخزون من الحبوب يغطي حاجياتنا حتى موفّى شهر ماي القادم"

وأكدت كذلك أن "شحنة جديدة من الزيت دخلت تونس بتاريخ 17 جانفي/يناير القادم، وسيتم ضخها في السوق الداخلية لتغطية حاجيات هذا الشهر، ومن المنتظر أن تصل شحنة جديدة لتونس تقدر بـ15 ألف طن مطلع شهر فيفري/شباط القادم ستقسم على مرتين".

وفسرت وزيرة التجارة النقص الحاصل في مادة البيض، بارتفاع الطلب عليه قبل رأس السنة، كما أن للاحتكار والمضاربة دورًا، وفقها، وكذلك لمطالبة المهنيين بمراجعة السعر بعد ارتفاع أسعار العلف المورد. وأكدت الرابحي انطلاق الوزارة تدريجيًا في ضخ كميات هامة من هذه المادة (البيض) في السوق، وسيتم تفادي النقص الحاصل فيها انطلاقًا من هذا الأسبوع، وفقها.

وتحدثت الرابحي عن خطة الوزارة التي وضعتها رفقة كل الأجهزة الرقابية، لمجابهة الاحتكار والمضاربة، مؤكدة تسجيل حالات تهريب للمواد الأساسية المدعمة، ومشددة أنه "لا مجال للتلاعب بقوت التونسيين وأن الدعم سيصل لمستحقيه".

ولفتت إلى أن أسعار المواد الأساسية المدعمة لم تشهد ارتفاعاً في تونس منذ سنة 2008، في حين أن أسعار تكلفتها ارتفعت، موضحة أن الصندوق الوطني للتعويض هو من تحمل تكلفة الارتفاع.

وزيرة التجارة لـ"الترا تونس": ارتفاع الأسعار العالمية وتراجع سعر صرف الدينار التونسي وتضاعف كلفة الشحن 5 مرات، كلها عوامل ساهمت في التأثير على أسعار بعض المواد كالزيوت غير المدعمة مثلًا

وقالت الرابحي، في حديثها لـ"الترا تونس" إن الأسواق العالمية شهدت ارتفاعًا في أسعار بعض المواد على غرار الزيت مثلاً، حيث كانت تكلفة الطن الواحد من الزيت النباتي المدعم تبلغ 800 دولار وصارت تقدر بـ 1450 دولارًا للطن، في حين وصل سعر الطن من زيت الذرة لـ1800 دولار بعد أن كان يبلغ حوالي 700/800 دولار في نفس الفترة من السنة الفارطة.

وأضافت الرابحي أن ارتفاع الأسعار العالمية وتراجع سعر صرف الدينار التونسي وتضاعف كلفة الشحن 5 مرات، كلها عوامل ساهمت في التأثير على أسعار بعض المواد كالزيوت غير المدعمة مثلًا، ممّا أنتج أزمة حادة جدًا في قطاع الزيت في السوق التونسية. 

وتابعت وزيرة التجارة، "اقتصادنا اقتصاد سوق، المبدأ فيه حرية تكوّن الأسعار حسب قاعدة العرض والطلب. وللضغط على الأسعار قالت الرابحي، من الممكن أن تتدخل وزارة التجارة بصفة ظرفية ولمدة لا تتجاوز ستة أشهر لتعديل السوق والضغط على الأسعار وضبطها".

وبخصوص التأخر في تفريغ شحنات بعض السفن وبقائها لفترات طويلة في عرض البحر منتظرة خلاص مستحقاتها، نفت الرابحي ما راج عن عدم توفر السيولة لخلاص المزودين وفتح الاعتمادات المستندية، وقالت إن "موانئ تونس تعاني من الضغط على مستوى الشحن والتفريغ، على رأسها ميناء رادس"، معتبرة أن هذا ينسحب على كافة المواد الموردة ولا يقتصر على الحبوب فقط.

نفت وزيرة التجارة ما راج عن عدم توفر السيولة لخلاص المزودين مؤكدة أن من المشاكل أن موانئ تونس تعاني من الضغط على مستوى الشحن والتفريغ

وختمت الرابحي حديثها لـ"الترا تونس"، عن دخول برنامج تطوير الصادرات الممول من البنك الدولي لمرحلته الثالثة، ما سينتج عنه ترفيعًا في طاقة استيعاب الموانئ واختصار آجال تفريغ وشحن البواخر، وفقها، مؤكدة أن هذا أيضاً من صميم برنامج عمل الحكومة للتأهيل والارتقاء بمستوى موانئنا نحو مستوى عالمي.

  • ضرورة إعادة التفكير في دور الدولة

تمثل مساعي وزارة التجارة لسدّ النقص المسجل في السوق التونسية حلاًّ ظرفياً ووقتيًا لن يعالج، حسب عديد المختصين، أزمة تتسارع وتيرتها وتشتد حدتها، فالأمر يقتضي حسب المختص الاقتصادي آرام بالحاج "إعادة تفكير شاملة في دور الدولة في جميع ما يخص عمليات الإنتاج والمراقبة والدعم"، مبينًا أن انفتاح بعض الأنشطة الإنتاجية على القطاع الخاص وانتهاج سياسة "حقيقة الأسعار" يقلص من الاضطرابات في عملية الإنتاج. 

وأكد بالحاج، في حديثه لـ"الترا تونس" أن تدعيم المراقبة الاقتصادية والسيطرة على مسالك التوزيع (عبر الرقمنة وإعادة النظر في استراتيجية التخزين...) يُمكّن من ضرب عمليات الاحتكار والمضاربة. كما اعتبر أن إصلاح منظومة الدعم في العديد من المواد يُعتبر أساسيًا في معالجة الاضطرابات الكبيرة في عرض هاته المواد.

  • بلحاج: لا يمكن الاستغناء عن التفاوض مع صندوق النقد الدولي 

نوّه المختص في الاقتصاد آرام بلحاج أيضاً إلى أن التصنيف الأخير لتونس كبلد عالي المخاطر، في تقرير دافوس، سيجعل من عملية تعبئة الموارد صعبة للغاية.

آرام بلحاج لـ"الترا تونس": القدرة على تعبئة الموارد، خاصة الخارجية، ستكون مرتبطة أساسًا بمدى جدية برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي سيُقدم لصندوق النقد الدولي

ليتابع حديثه لـ"الترا تونس" قائلاً "القدرة على تعبئة الموارد، خاصة الخارجية، ستكون مرتبطة أساسًا بمدى جدية برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي سيُقدم لصندوق النقد الدولي، الواضح أن النجاح في إعداد برنامج إصلاح متكامل لن يمر إلا عبر اعتماد مقاربة تشاركية تُمكن من التوافق حول الخيارات الكبرى، وهذا من شأنه أن يعزز موقع تونس في عملية التفاوض مع صندوق النقد الدولي والحصول على الموارد المالية اللازمة".

بين تطمينات وزيرة التجارة وتفسيرات المختصين الاقتصاديين، تتضح عدة معطيات حول ملف فقدان السوق التونسية لمواد أساسية في الفترة الأخيرة، بينما تواصل الخالة عاطفة وآخرين رحلة بحثهم اليومية عنها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"المالية": مديونية المنشآت العمومية فاقت ملياريْ دينار وهي خطر على الميزانية

قانون مالية 2022: الميزانية بعقلية "العطريّة" والمستهلك دومًا ضحية

قانون المالية التعديلي 2021.. أرقام وملاحظات