31-يناير-2022

قراءة في دراسة "الحريات، تحدّي العصر" عن حالة الديمقراطية في العالم وتقدم معطيات تشي بنتائج خطيرة عن حالة الديمقراطية في تونس (Getty)

 

يبين استطلاع رأي أنجز في إطار دراسة "الحريات، تحدّي العصر"  Libertés : l’épreuve du siècle عن حالة الديمقراطية في العالم التي صدرت مؤخرًا عن المنظمة الفرنسية Fondapol المتخصصة في الدراسات السياسية وفي الرأي العام، أن الديمقراطية والأنظمة السياسية الديمقراطية تعيش تحديات جديدة فريدة داخلية وخارجية، متصلة بتنامي العولمة والشعبوية وبتأثيرات الميديا الاجتماعية.

لكن استطلاع الرأي هذا يبيّن في الوقت ذاته أن المواطنين لا يشتكون من الديمقراطية كنظام سياسي ما يزال يحظى بالمشروعية، بل من أعطابها ومن الطريقة التي تشتغل وفقها.  وتتضمن الدراسة كذلك معطيات جديدة عن اتجاهات رأي التونسيين تشي بنتائج خطيرة عن حالة الديمقراطية في تونس وإيمان التونسيين بها.

أُنجز استطلاع الرأي في 55 دولة، ومنها تونس، حول الديمقراطية وأحوالها ومستقبلها في العالم. وشاركت في إنجاز الدراسة منظمات فرنسية وأمريكية وألمانية. وشملت الدراسة عينة واسعة متكونة من 47 ألف مستجوب. وأنجز استطلاع الرأي في الفترة المتراوحة بين 9 جويلية/يوليو و10 أوت/أغسطس 2021 وهو ما يطرح إشكالات لفهم النتائج الخاصة بتونس، بما أن هذه الفترة عرفت تعليق أعمال البرلمان وإعلان حالة الاستثناء.

دراسة عن حالة الديمقراطية في العالم صادرة عن المنظمة الفرنسية Fondapol
  • مخاطر جديدة تهدد الأنظمة الديمقراطية

السؤال المركزي الذي طرحته الدراسة يتعلق بمستقبل قيمة الحرية في مختلف الدول التي أُنجز فيها استطلاع الرأي. وتربط الدراسة، بطبيعة الحال، الحرية بالديمقراطية. وتجعل من السؤال عن مستقبل الحرية سؤالًا عن مستقبل الديمقراطية أيضًا، بما أنها نظام سياسي يقوم في جوهره على الحريات السياسية والفكرية والاقتصادية .

أُنجز استطلاع الرأي في 55 دولة، ومنها تونس، حول الديمقراطية وأحوالها ومستقبلها في العالم، وشاركت في إنجاز الدراسة منظمات فرنسية وأمريكية وألمانية. وشملت عينة واسعة متكونة من 47 ألف مستجوب

وتعتبر الدراسة أن الأنظمة الديمقراطية تواجه مخاطرًا عديدة، مزدوجة داخلية وخارجية، لم تواجهها الديمقراطية منذ سنة 1930.  ومن المخاطر الخارجية مواجهة الأنظمة السلطوية على غرار روسيا وخاصّة الصين التي تروّج لنموذج مختلف لـ"ديمقراطية شاملة" داخل الصين وخارجها. تمامًا كما كان الاتحاد السوفياتي يقوم بذلك عندما كان يروّج لـ"الديمقراطية الشعبية" باعتبارها النموذج الأحسن. 

اقرأ/ي أيضًا:"تصفية الأجسام الوسيطة".. عنوان المرحلة القادمة في تونس

 والأنظمة السلطوية لا ترفض العولمة بل إنها تستفيد منها، ليس فقط لتقوية نفسها ودعم اقتصادها، لكن أيضًا لزعزعة الأنظمة الديمقراطية عبر التجسّس والتدخل في الشؤون الداخلية بسبب انفتاح هذه الأنظمة الديمقراطية وشفافية الحياة السياسية فيها. وتتدخّل الدول السلطوية للتشويش على الانتخابات وللتأثير في المسارات الانتخابية ولنزع الشرعية عن الأنظمة الديمقراطية لإدارة النظام الدولي. واعتبر 88% من المستجوبين أن الدول السلطوية تسعى لإضفاء الاضطرابات على الحملات الانتخابية.

 ومن المخاطر الداخلية التي تواجهها الأنظمة الديمقراطية، في السياق الأوروبي على وجه الخصوص، تلك المتصلة بالصراع الهوياتي والشعبوية والعنصرية. فحرية الرأي مهددة في المجتمعات الغربية بسبب عدم التفاهم أو التنافر المتبادل بين مجموعات دينية وثقافية في سياق ما يسمّى التعدد الثقافي Multiculturalisme الذي يُنظر إليه باعتباره مصدرًا لممنوعات جديده متصلة بصراع الهويات. مما يمكن أن يفضي إلى الريبة والكراهية التي تدمّر الرابط الاجتماعي، بسبب تناقض المرجعيات والتمثلات لقيمة الحرية ومعاييرها ومما يؤدّي إلى الصراعات الهوياتية على غرار ما يقع في فرنسا.

عبّر 60% من المستجوبين عن تخوفاتهم من تدخل شركات الميديا الاجتماعية في الحياة السياسية. واعتبروا أن الإنترنت والميديا الاجتماعية سلبية لأنها تجعل المستخدمين يتفاعلون ويتحاورون فقط مع من يشبههم

ومن التحديات الأخرى، التي تواجهها الديمقراطية والحرية، الإرهاب الذي يفضي إلى ثقافة الريبة والخوف. أما وباء كوفيد فإنه تسبب أيضًا في فرض قوانين وإكراهات جديدة على غرار قانون الطوارئ. كما تساهم العولمة في ظهور الشعبوية ودعم الأنظمة السلطوية. وتتعرّض الدراسة كذلك إلى مسألة أساسية تتعلق بحرّية النقاش والمداولة وبظهور مجال عمومي رقمي كوني. فمنصات الميديا الرقمية تستثمر الحريات المتاحة لكنها تهددها في الوقت نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: عمليات سبر الآراء: لعبة الأرقام التي تتلاعب بالوعي السياسي العام

 وقد عبّر 60% من المستجوبين عن تخوفاتهم من أن تتدخل شركات الميديا الاجتماعية في الحياة السياسية. ويعتبر المستجوبون أن الإنترنت والميديا الاجتماعية سلبية لأنها تجعل المستخدمين يتفاعلون ويتحاورون فقط مع من يشبههم. وهي على هذا النحو تؤسّس نوعًا من العزلة الاجتماعية. كما أن الإنترنت تمثل خطرًا على الخصوصية والمعطيات الشخصية وتساهم في الترويج للمعلومات المضللة والأخبار الزائفة.

وتعرضت الدراسة إلى موضوع العلاقة بالأخر والتعايش مع الاختلاف والتنوع ومسألة الإدارة السلمية للصراعات ومسألة امتلاك السلاح. كما بينت أن الشباب مستعد ذهنيًا للعيش في عالم أكثر عنفًا.

  • هل أن النموذج الديمقراطي قابل للحياة؟

وتذكّر الدراسة في هذا الإطار بأن الديمقراطية قد استقرت منذ نهاية القرن التاسع عشر على نظام سياسي يقوم على مركزية مؤسّسة البرلمان، ثم تطوّرت نحو تعزيز الحق في التصويت وتعميمه ونحو تنويع الحريات وتعدد الانتخابات (برلمانية، محلية...). وأسست الديمقراطيات شرعيتها، كنظام سياسي (بناء على التجارب الأوروبية والأمريكية واليابانية)، على أنها نظام ضامن للتقدم الإنساني والرفاه الاجتماعي لفائدة المواطنين.

لا يرفض المواطنون الديمقراطية بل يبقون متمسكين بها وبالحريات التي توفّرها. في المقابل، يشتكون من طريقة عملها ويطالبون بتحسينها. ولهذا السبب يتشبث المستجوبون في أكثر الدول الديمقراطية بالنظام السياسي التمثيلي

 وعلى هذا النحو، فإن المواطنين لا يرفضون الديمقراطية بل يبقون متمسكين بها وبالحريات التي توفّرها. في المقابل، فإنهم يشتكون من طريقة عملها ويطالبون بتحسينها ويعبرون عن الحاجة لإصلاحها. ولهذا السبب يتشبث المستجوبون في أكثر الدول الديمقراطية بالنظام السياسي التمثيلي.

  • هل تراجع إيمان التونسيين بالديمقراطية؟

تضمنت الدراسة العديد من المعطيات عن اتجاهات الرأي العام في تونس من القضايا المطروحة في استطلاع الرأي. ولعل من أهم النتائج التي يجب أن نتوقف عندها اتجاه التونسيين إزاء نظام الحكم. وقد اقترحت الدراسة ستة أنظمة على المستجوبين: الديمقراطية التمثيلية، أي نظام ديمقراطي يقوم على برلمان يراقب الحكومة، أولًا. ونظام ديمقراطي مباشر حيث يقرر المواطنون، وليس البرلمان، ما يرونه مناسبًا لهم ثانيًا. ونظام ثالث يقوم على سلطة الخبراء، أو بتعبير آخر، نظام تكنوقراطي يتخذ القرارات فيه نخبة من الخبراء. ونظام حكم رابع يقوم على سلطة رجل قوي لا يبالي بالبرلمان أو بالانتخابات. أما النظام الخامس فيحكمه الجيش.

يحبذ 68% من التونسيين، من بين كل هذه الأنظمة، نظامًا يقوم على "رجل قوي لا يعير أي اهتمام للبرلمان وللانتخابات" في حين لم يحصل هذا الخيار سوى على 36% من القبول لدى أفراد العينة العالمية كلها التي تميل نحو نظام الحكم التمثيلي

ويفضل 81% من المستجوبين في 55 دولة التي أنجز فيها استطلاع الرأي النظام الديمقراطي التمثيلي، مقابل 70% بالنسبة للنظام الانتخابي المباشر و62% للنظام التكنوقراطي. أما النظام السادس الذي يستثني من عملية التصويت المواطنين الذين لا تتوفر لديهم المعارف الضرورية فهو مقبول لدى 43% من المستجوبين.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..

وقال 68% من التونسيين إنهم يحبذون، من بين كل هذه الأنظمة، نظامًا يقوم على "رجل قوي لا يعير أي اهتمام للبرلمان وللانتخابات" كما جاء في النص الحرفي للسؤال الذي طرح عليهم (un homme fort qui n’a pas à se préoccuper du parlement ni des élections) في حين لم يحصل هذا الخيار سوى على 36% من القبول لدى أفراد العينة العالمية كلها التي تميل كما قلنا نحو نظام الحكم التمثيلي.

كما كشفت النتائج أن 43% من التونسيين يحبذون نظامًا سياسيًا يحكمه الجيش. لكن الدراسة لا تعطي لنا نسبة التونسيين الذي يفضلون النظام التمثيلي.

تبين الدراسة أن نصف المستجوبين غير راضين عن الديمقراطية وطريقة عملها في بلدهم. وفي تونس ترتفع هذه النسبة إلى 72% من التونسيين الذين يعتبرون أن الديمقراطية تشتغل بشكل سيء جدًا

 وتبين الدراسة أن نصف المستجوبين غير راضين عن الديمقراطية وطريقة عملها في بلدهم. وفي تونس ترتفع هذه النسبة إلى 72% من التونسيين الذين يعتبرون أن الديمقراطية تشتغل بشكل سيّء وسيء جدًا. ويرى 74% من التونسيين أن الفساد هو أهم الأخطار التي تهدد الديمقراطية. ومن النتائج الخطيرة أيضًا أن 85% من التونسيين يعتبرون أن أغلب السياسيين في الحكم فاسدون.

وإجابه عن السؤال: "هل أن التصويت يمثل آلية للتغيير؟"، يعتقد 28% من التونسيين أنّ التصويت لا فائدة منه وأنه لا يمكن أن يغيّر الأشياء. مقابل 68% يرون أن التصويت وسيلة فعالة لتغيير الواقع.  كما يعتبر 55% من التونسيين أن إعطاء التصويت فقط لمن يمتلك معارف يمكن أن يكون حلًا لمعالجة أمراض الديمقراطية وتحسين الحكم.

ويوافق 28% من التونسيين على امتلاك المواطنين للسلاح للدفاع عن النفس وهي من أقل النسب في العينة مقارنة مثلًا بالأمريكيين (84%). في المقابل فإن التونسيين يخشون أساسًا فقدان القدرة الشرائية.

يرى 92% من التونسيين أن تدخل القوى الأجنبية في الحملات الانتخابية بواسطة الإنترنت والميديا الاجتماعية ونشر الأخبار الكاذبة يمثل خطرًا على الديمقراطية وهي من أعلى النسب في العالم مقابل مثلًا نسبة 89% من الأمريكيين

اقرأ/ي أيضًا: تونس: الدولة والسياسة والليبرالية المعطّلة

ويرى 92% من التونسيين أن تدخل القوى الأجنبية في الحملات الانتخابية بواسطة الإنترنت والميديا الاجتماعية ونشر الأخبار الكاذبة يمثل خطرًا على الديمقراطية وهي من أعلى النسب في العالم مقابل مثلًا نسبة 89% من الأمريكيين.

إن المتمعن في هذه النتائج يلاحظ بيسر أنها متناغمة مع نتائج كشفت عنها استطلاعات رأي سابقة أنجزتها العديد من المؤسسات الوطنية أو الدولية عن تردّي صورة النخب والمؤسسات السياسية لدى التونسيين وخاصة البرلمان والحكومة. وتؤكّد هذه النتائج ما يسمّى "أزمة التمثيل" أي القطيعة بين المواطنين من جهة أولى والنخب السياسية التي تفقد مشروعيتها التمثيلية للمواطنين. لكن النتيجة الأهمّ التي يجب أن ننتبه إليها هي على الإطلاق اتجاه التونسيين نحو تفضيل نظام حكم يقوم على امتلاك رجل قوى للسلطة على حساب نظام ديمقراطي تمثيلي يكون فيه للبرلمان أدوار أساسية ومنها على وجه الخصوص المداولة.

إن هذا الاتجاه (الاستعداد الذهني) نحو نظام "أوتوقراطي" autocratique  يعبر عن أزمة الانتقال الديمقراطي في تونس والتي تفيد مؤشرات عديدة أنها لا تفضي إلى ما يسمّى توطيد الديمقراطية la consolidation démocratique. وتتحمل النخب مسؤولية كبيرة في نزع الشرعية عن النظام الديمقراطي التمثيلي الذي يكون فيه البرلمان المؤسسة المركزية للحياة السياسية، لكننا في الوقت ذاته لا يجب أن نهمل الاستراتيجيات المتعددة الأشكال التي تُبذل دائمًا لتبخيس الديمقراطية كنظام سياسي والاستثمار المتعدد الأوجه للآليات والفاعلين (في الداخل والخارج) في خلق رأي عام تونسي نافر من الفكرة الديمقراطية.

هذا الاتجاه نحو نظام "أوتوقراطي" يعبر عن أزمة الانتقال الديمقراطي في تونس وتتحمل النخب مسؤولية كبيرة في نزع الشرعية عن النظام الديمقراطي التمثيلي الذي يكون فيه البرلمان المؤسسة المركزية للحياة السياسية

 إن استطلاعات الرأي الأخيرة التي تنجز منذ 25 جويلية/يوليو 2021 تُظهر التونسيين وكأنهم غير معنيين بالانتخابات التشريعية بسبب هذه القطيعة مع النخب السياسية.  تبدو هكذا هذه الحاجة إلى "رجل قوي" يمسك بالسلطة دائمًا كعرض من أعراض "الديمقراطية المريضة" قبل أن تكون تهديدًا لها.

ولا شك أن النخب التي تبوّأت المشهد السياسي لا تبدو أنها انخرطت حقيقية في عملية محاسبة الذات.  كما أن النقاش ما يزال منحصرًا في المسائل التي تُعتبر، من هذا المنظور، شكلية، على غرار القانون الانتخابي على أهميته، على حساب قضايا أخرى ومنها تقييم أعطاب الانتقال الديمقراطي المختلفة. ولا شك كذلك أن هذا النقاش في هذه الأعطاب سيبقى معلّقًا ما دام هاجس السلطة مستحكمًا لدى النخب السياسة ومادامت الديمقراطية لم تجد ما يكفي من المؤمنين بها حتى تصبح راسخة في الثقافة السياسية.     

 

اقرأ/ي أيضًا:

في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا

الاتصال والسياسة في تونس بعد 25 جويلية: من هم التونسيون ومن يمثّلهم؟