04-أغسطس-2022
 قيس سعيّد

بلغة الدستوريين، يصنّف دستور 25 جويلية دستور منحة في جوهره (صورة من مظاهرات سبقت الاستفتاء في تونس/الشاذلي بن ابراهيم/Nurphoto)

مقال رأي

 

لا غرو أن الدستور المُستفتى عليه يوم 25 جويلية هو دستور غير ديمقراطي إعدادًا، باعتبار احتكار رئيس الدولة قيس سعيّد مهمّة كتابته لوحده، مستبعدًا حتى مسوّدة اللجنة الدستورية التي عيّنها بنفسه، ومتجاوزًا حتى مخرجات الاستشارة الإلكترونية التي استفرد بتنظيمها، باعتبار أن أغلبية المشاركين فيها، وهم داعمون للرئيس باعتبار مقاطعة معارضيه، أيدوا خيار تعديل الدستور الحالي وليس وضع دستور جديد. بالتتابع لم يكن استفتاء 25 جويلية إلا عملية شكلية لإضفاء المشروعية على الدستور الخاصّ لرئيس الدولة ببساطة. وبلغة الدستوريين، يصنّف دستور 25 جويلية دستور منحة في جوهره.

لم يكن استفتاء 25 جويلية إلا عملية شكلية لإضفاء المشروعية على الدستور الخاصّ لرئيس الدولة ببساطة

يعدّ الاستفتاء في الفكر الديمقراطي الآلية المُثلى لتعبير الشعب عن إرادته بطريقة مباشرة، بيد أنه يمثّل، في المقابل، الآلية اليسيرة للأنظمة غير الديمقراطية للإيهام بمشروعية خيارات الحكام، ليتحول الاستفتاء لآلية تجميلية غير قادرة على ضمان مفهوم الإرادة الشعبية. لذلك ليس من قبيل الصدفة أن جلّ دساتير الأنظمة غير الديمقراطية تم إقرارها عبر استفتاءات وليس عبر لجان منتخبة تولت عملية الإعداد والإقرار كدستور 2014. فعدا عن ثبوت عدم ديمقراطية إعداد دستور الرئيس، فعملية الإقرار ذاتها عبر الاستفتاء يوم 25 جويلية/يوليو الماضي لم تكن نزيهة، بل والأخطر مفتقدة الشفافية فيما يتعلق بعملية الاقتراع ذاتها.

ليس من قبيل الصدفة أن جلّ دساتير الأنظمة غير الديمقراطية تم إقرارها عبر استفتاءات وليس عبر لجان منتخبة تولت عملية الإعداد والإقرار كدستور 2014

إن ما يُعاب، في البداية، على الاستفتاء هو احتكار رئيس الدولة لوحده تحديد قواعده، وذلك في سياق احتكاره لجميع السلطات واستحواذه على السلطة التشريعية وتركيعه للسلطة القضائية.

 

 

بالنهاية، كان الرئيس هو المتحكم الوحيد في الاستفتاء في غياب مختلف أشكال الرقابة عليه. بادر بالخصوص بتعديل القانون الانتخابي بمقتضى مرسوم والحال أن القوانين الانتخابية خارج مدار اختصاصات المراسيم. ولم يكتف رئيس الدولة بذلك، بل أعاد تشكيل هيئة الانتخابات بإعفاء أعضائها السابقين المنتخبين من البرلمان وتعيين هيئة جديدة، بما جعل الهيئة مفتقدة لصفتها الأساسية وهي الاستقلالية وبالتبعية الحياد.

إن الاطلاع على أداء الهيئة قبل الاستفتاء فقط يبيّن أنها كانت أداة طيّعة بيد رئيس الدولة، ومن ذلك تعديلها لرزنامة الاستفتاء بعد إصدار رئيس الدولة لنسخة ثانية من الدستور بعد الآجال القانونية. كما أصرّت الهيئة على تنظيم الاستفتاء في موعده السياسي رغم عدم القدرة اللوجيستية والفنية على الإعداد المحكم، خاصة مع دعوات الجمعيات المتخصصة في الشأن الانتخابي للتأجيل أمام ضيق الحيز الزمني، وقد ثبتت لاحقًا بالفعل أوجه القصور الفادح للهيئة في عملية تنظيم الاستفتاء.

الاطلاع على أداء الهيئة قبل الاستفتاء فقط يبيّن أنها كانت أداة طيّعة بيد رئيس الدولة، ومن ذلك تعديلها للرزنامة بعد إصدار الرئيس لنسخة ثانية من الدستور بعد الآجال القانونية

تتضمّن المواثيق الدولية معايير أساسية لوصف انتخابات أو استفتاء ما بأنها عملية نزيهة من بينها الحق في الطعن أمام قضاء مستقلّ، وهو ما يُعاب على استفتاء 25 جويلية، باعتبار تنظيمه في سياق هجمة مركّزة من رئيس الدولة على القضاء وهو الذي حوّله من سلطة إلى وظيفة في دستوره، وضرب مبادئ استقلالية القضاء سواء الوظيفية منها أو الهيكلية، بذلك أصبح القضاء عمومًا، بما في ذلك القضاء الإداري المتخصص في المادة الانتخابية، تحت سلطان رئيس الدولة، بما يعزّز شبهات الموالاة والتبعية اللاحقة بالخصوص رئيس المحكمة الإدارية.

وإن المعيار الآخر الذي افتقده استفتاء 25 جويلية هو حياد أجهزة الدولة عبر توظيف عديد الولاة والمعتمدين المعيّنين من رئيس الدولة، والمنتمين واقعًا لتنسيقياته، للوسائل العمومية خلال حملة الاستفتاء، بشكل لم تشهده أي انتخابات سابقة بعد الثورة. وإن خرق مبدأ الحياد شمل أيضًا الإعلام العمومي وبالخصوص التلفزة الوطنية التي تحولت طيلة الأشهر الماضية لمنصّة للترويج لمشروع الرئيس واستضافة أنصاره في غياب لممثلي الأحزاب المعارضة. لم يكن مخالفة التلفزة الوطنية للصمت الانتخابي يوم الاستفتاء وبثّ كلمة رئيس الدولة الداعية للتصويت لفائدة مشروعه، ولاحقًا اصطفاف ضيوف برامج التلفزة مع الرئيس دون حضور المعارضين، إلا تبيانًا عن مدى الانتكاسة بالعودة لإعلام السلطة بدل إعلام العامة.

افتقد استفتاء 25 جويلية لحياد أجهزة الدولة عبر توظيف عديد الولاة والمعتمدين المعيّنين من الرئيس للوسائل العمومية خلال حملة الاستفتاء

 

 

عدا ما سبق، يعدّ السياق السياسي حجرة أساس لنزاهة أي انتخابات أو استفتاء، وقد شهدت البلاد يوم 25 جويلية استفتاء في سياق حالة استثناء دستوري، على معنى دستور 2014، بما يوجز سياق هذا الاستفتاء: برلمان منحلّ، ومجلس أعلى للقضاء منحلّ، ومحاكمات عسكرية غير مسبوقة، وانتكاسة في مؤشرات الحرية حسب التقارير الدولية وحالة عطالة للحياة الحزبية. هو مناخ غير صحّي لأي عملية ديمقراطية نزيهة، ويُضاف له حالة غير مسبوقة من العنف السياسي والترهيب والتخوين يقودها الخطاب الرسمي لرئيس الدولة الذي يتهم معارضيه بالخيانة والعمالة وسرقة قوت الشعب.

لم تشهد البلاد انتخابات بعد الثورة في خضم حالة كراهية كالتي شهدتها يوم استفتاء 25 جويلية

لم تشهد البلاد انتخابات بعد الثورة في خضم حالة كراهية كالتي شهدتها يوم استفتاء 25 جويلية. لم يكن تعرّض حزب آفاق تونس، وهو المشارك في حملة الاستفتاء بعد خيار أغلبية المعارضة المقاطعة، من هرسلة وطرد من مجموعات مناصرة للرئيس إلا النزر القليل من السياق العام غير الصحي لاستفتاء على دستور مرّ في أجواء انقسام وشرخ لم تعرفها البلاد مع دستور 1959 ولا مع دستور 2014. وقد جرت حملة الاستفتاء على الدستور في البلاد خافتة دون أي أثر في الشوارع، كانت حملة صامتة غير تنافسية في غياب مشاركة القوى السياسية والحزبية الرئيسية، بشكل لم يتفطن العديد من التونسيين بموعد الاستفتاء إلا في الأسبوع الأخير فقط.

لم يكن بذلك الاستفتاء نزيهًا، وهو لم يكن، منذ البداية، قادرًا أن يجسّد فعليًا الإرادة الشعبية باعتبار خضوع هذا التجسيد لجملة المعايير الضامنة لديمقراطية العملية، والمنصوص عليها في المواثيق الدولية، وهي المعايير التي لم يحترمها رئيس الدولة الذي لم يكن فقط "صاحب الدستور" بل أيضًا "صاحب الاستفتاء"، فاحتكاره لتعديل القانون الانتخابي وتعيينه لأعضاء هيئة الانتخابات، واستهدافه لاستقلالية السلطة القضائية وانفراده لوحده بالفعل السياسي الرسمي وتحكّمه المطلق في مسار الاستفتاء، كلّ ذلك، يؤكد أن استفتاء 25 جويلية لم يكن إلا وسيلة تجميلية من أجل الإيهام بمشروعية الدستور الخاصّ لرئيس الدولة.

 

 

بيد أن الخروقات المتعلقة بسير عملية الاقتراع نفسها وتجميع النتائج، تبيّن أن رئيس الدولة، عبر هيئته المنصّبة للانتخابات، فشلت حتى في الصورة الإخراجية للاستفتاء.

أدت مقاطعة جلّ القوى السياسية والمدنية للاستفتاء إلى مشهد مكاتب اقتراع يغيب في جلها الملاحظون والمراقبون بشكل لم تشهده أي انتخابات بعد الثورة، وهو ما يعزّز الشكوك حول شفافية أعمال الفرز، خاصة مع فوضى انتدابات الهيئة والتكوين مع الإصرار على تنظيم استفتاء في آجال وجيزة جدًا. إذ يثير مثلّا الفارق البيّن بين نسبة الإقبال المعلنة يوم الاستفتاء وتلك المعلنة يوم النتائج، والبالغ نسبته 4% بما يقارب نحو 300 ألف صوت، الشكوك حول شفافية الفرز، وهو ما عزّزه التضارب في الأرقام بين نتائج الدوائر الفرعية ومحضر النتائج الرسمية، وهو تضارب اعتبرته الهيئة "تسرّب أخطاء"، قبل أن تقدّم الهيئة لاحقًا عبر رئيسها خطابًا تهديديًا باللجوء للقضاء ضد كل المشككين في نتائج الاستفتاء.

يثير الفارق البيّن بين نسبة الإقبال المعلنة يوم الاستفتاء وتلك المعلنة يوم النتائج، والبالغ نسبته 4% بما يقارب نحو 300 ألف صوت، الشكوك حول شفافية الفرز

وتشمل الشكوك الجدية بما يشمل شبهة التدليس مجلس الهيئة نفسه، بعد نفي عضو الهيئة سامي بن سلامة مشاركته في اجتماع تضمّن اسمه في محضر الحاضرين فيه. وقد أدت عمومًا جملة الخروقات المسجلة لمطالبة منظمات بتكوين لجنة مستقلة لإعادة فرز صناديق الاقتراع للتثبت من شفافيتها، في دعوة هي سابقة أخذًا بالماضي الديمقراطي القصير طيلة عقد من الزمن.

بالنهاية، من البيّن أن استفتاء 25 جويلية هو العملية الانتخابية الأدنى احترامًا لمقتضيات النزاهة والشفافية مقارنة بأي انتخابات بعد الثورة، وهو استفتاء عن دستور يؤسس لنظام سلطوي تم إعداده بطريقة غير ديمقراطية.

التاريخ الديمقراطي الوجيز في العالم ينبئنا أن النتائج التسعينية هي أضحوكة من الحكام للإيهام بمطابقة الإرادة الشعبية لإرادتهم الشخصية

وفي هكذا مناخ سياسي وشعبي يعلو فيه خطاب الكراهية والإقصاء وخرق القانون، لا تعدّ الموافقة على الدستور بنسبة 94 في المائة إلا تأكيدًا على عدم تمثّل الاستفتاء كآلية ديمقراطية معبّرة عن الإرادة الشعبية العامة. التاريخ الديمقراطي الوجيز في العالم ينبئنا أن النتائج التسعينية هي أضحوكة من الحكام للإيهام بمطابقة الإرادة الشعبية لإرادتهم الشخصية المحضة. ولذلك، لم يكن استفتاء 25 جويلية نزيهًا ولا شفافًا، وإن أضفنا نسبة إقبال لم تتجاوز الثلث، يتأكد أن الرئيس فرض دستورًا على التونسيين منزوع المشروعية الشعبية بنهاية المطاف.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"