01-يوليو-2022
الدستور التونسي

صلاحيات واسعة جدًا لرئيس الجمهورية مع غياب فرضيات مساءلته أو سحب الثقة منه

 

   
طالما ردد الرئيس التونسي قيس سعيّد "باستياء" أن دستور سنة 2014 قد تضمن في فصوله أقفالاً عدة، وفقه، كذلك مشروع الدستور التونسي الجديد الصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية (الجريدة الرسمية) ليل الخميس 30 جوان/يونيو 2022، فقد وٌضعت فيه أقفال مختلفة عكست صلاحيات واسعة جدًا لرئيس الجمهورية مع غياب فرضيات مساءلته أو سحب الثقة منه، ويتضح نظام الحكم فيه رئاسيًا مع ملامح من النظام القاعدي الذي يُروّج له قيس سعيّد منذ سنوات والمنتظر أن يتبلور أكثر في القانون الانتخابي الذي لم يصدر بعد.

  • بدء تكريس البناء القاعدي

قالت الرئاسة التونسية، في وقت سابق من هذا العام، إن الاستشارة الإلكترونية التي دعا لها الرئيس وحصلت على مشاركة حوالي 500 ألف شخص قد أقرت "توجه الشعب نحو خيارات بعينها هي النظام الرئاسي والاقتراع على الأفراد وسحب الوكالة من النائب..". في ذات السياق، يتضح بعد قراءة أولى لمشروع الدستور التونسي الجديد أن سعيّد قد انطلق فعلاً في إدراج ملامح "البناء القاعدي" في قوانين البلاد.

تم تضمين النظام الرئاسي والاقتراع على الأفراد وسحب الوكالة من النواب كما صمت مشروع الدستور الجديد بخصوص شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب ومجلس الجهات والأقاليم

تم تضمين كل الخيارات المذكورة سابقًا من نظام رئاسي واقتراع على الأفراد وسحب وكالة من النواب ولكن أيضًا صمت مشروع الدستور الجديد بخصوص شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب والمجلس الثاني المحدث (مجلس الجهات والأقاليم) على عكس انتخاب رئيس الجمهورية الذي نص أنه سيكون مباشرًا.

وفي هذا تهميش لافت لمجلس النواب وتوجه نحو تفعيل فلسفة البناء القاعدي التي قد تتحدد تفاصيلها لاحقًا في القانون الانتخابي وذلك على عكس كل التطمينات التي حرص على تقديمها أساتذة القانون الصادق بلعيد وأمين محفوظ وإبراهيم بودربالة والذين كانوا ضمن لجنة صياغة مشروع دستور خلال الأسابيع الماضية، تم توجيهه للرئيس ويبدو وفق تعليقات أولى لبعض المشاركين في هذه اللجنة، أنه قد تم تعديله بشكل واضح.

 

 

  • نظام رئاسي بصلاحيات واسعة جدًا..

تؤكد قراءة سريعة لمشروع الدستور الجديد أنه يرسخ لنظام سياسي رئاسي (يصفه البعض بالنظام "الرئاسوي" ويشبهونه بالنظام الذي كان معتمدًا قبل الثورة في تونس ونقاط التشابه بين مشروع الدستور الجديد ودستور سنة 1959 المعدل ليست قليلة).

يمنح مشروع الدستور  صلاحيات واسعة للرئيس ومكانة لافتة إذ يضبط السياسات العامة للدولة والحكومة مسؤولة أمامه وهو من يعينها ويقيلها وله إمكانية حل مجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم وغير ذلك

يمنح مشروع الدستور الجديد صلاحيات شبه مطلقة للرئيس ومكانة لافتة، إذ ينص على أن "رئيس الجمهورية يمارس الوظيفة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة ويعيّن رئيس الجمهورية رئيس الحكومة كما يعيّن بقية أعضائها باقتراح من رئيسها كما لرئيس الجمهورية إمكانية إنهاء مهام الحكومة أو عضو منها تلقائيًا أو باقتراح من رئيس الحكومة".

كما ينص على أن رئيس الجمهورية يضبط السياسات العامة للدولة والحكومة مسؤولة أمامه على تنفيذها، له إمكانية حل مجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم، له الحق في المبادرة التشريعية، له الحق في اتخاذ مراسيم إثر تفويض برلماني، وله حق الفيتو لرد مشاريع القوانين المصادق عليها من قبل البرلمان.

وله إمكانية إعلان حالة الاستثناء دون أي رقابة فيما يخص مدتها (الفصل 96) إذ تم التخلي عن الفقرة الأخيرة التي كانت موجودة في الفصل 80 من دستور 2014 والتي تخضع تواصل حالة الاستثناء من عدمه إلى رقابة المحكمة الدستورية.

 

 

ورئيس الجمهورية في مشروع الدستور الجديد ينتخب مباشرة من الشعب، لا يتم توضيح أي طريقة لمساءلته أو سحب الثقة منه خلال فترة ولايته، وهو يعين ويقيل الحكومة دون عودة لمجلس نواب الشعب.

رئيس الجمهورية في مشروع الدستور الجديد ينتخب مباشرة من الشعب ولا يتم توضيح أي طريقة لمساءلته أو سحب الثقة منه خلال فترة ولايته

في المقابل، نلاحظ تهميشًا واضحًا لدور مجلس نواب الشعب الذي لا ينص مشروع الدستور الجديد على أن انتخاب نوابه يتم مباشرة من الشعب، وينازعهم مجلس الجهات والأقاليم، المُحدث، في اختصاصاتهم ويمكن سحب الوكالة منهم، كما أن شروط الترشح كناخب مضمنة في القانون الانتخابي الذي لم ينشر بعد ولا يٌتوقع نشره قبل  الاستفتاء على الدستور. والاقتراع غير المباشر وعلى الأفراد لهذا المجلس سيزيد من تهميشه.

مع العلم أن مشروع الدستور الجديد في تونس يتحدث عن "وظيفة تشريعية" وليس عن "سلطة تشريعية" وهي مقسمة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم كما لا يتضمن مشروع الدستور الجديد سنًا قصوى للترشح لرئاسة الجمهورية بينما تم ترفيع السن الدنيا إلى 40 سنة (كانت 35 سنة في دستور 2014).

نلاحظ تهميشًا واضحًا لدور مجلس نواب الشعب الذي لا ينص مشروع الدستور على أن انتخاب نوابه يتم مباشرة من الشعب، وينازعهم مجلس الجهات والأقاليم في اختصاصاتهم ويمكن سحب الوكالة منهم

 

 

  • هل يمكن مساءلة حكومة الرئيس فعلاً؟

من اللافت أيضًا في مشروع الدستور الجديد هي طريقة "مساءلة" مجلس النواب للحكومة، إذ يشترط الدستور الجديد نصف أعضاء مجلسي النواب والجهات لتمرير لائحة لوم ضد الحكومة، وللمصادقة عليها ينبغي تجميع أغلبية الثلثين للمجلسين مجتمعين وهو شرط صعب. وفي صورة تقديم لائحة لوم ثانية خلال نفس الفترة النيابية، يمكن لرئيس الجمهورية حل المجلسين أو أحدهما.

يُعيّن رئيس الجمهورية الحكومة ويجعل فرضية مساءلتها صعبة جدًا وله وحده إمكانية إقالتها أو أحد أعضائها ويبدو جليًا غياب أي توازن بين السلطات

هكذا يتحكم الرئيس في السلطة التنفيذية بشكل واضح إذ له أن يُعيّن الحكومة ويجعل فرضية مساءلتها صعبة جدًا وله وحده إمكانية إقالتها أو أحد أعضائها. ويبدو جليًا غياب أي توازن بين السلطات أو "الوظائف" كما تسمى في مشروع الدستور الجديد.

يختل التوازن بين السلط في النظام السياسي الموضح في مشروع الدستور الجديد لصالح رئيس الجمهورية بشكل جلي، يحتكر السلطة التنفيذية ويهيمن على السلطة التشريعية والقضائية ولا توضح طريقة مساءلته أمام أية هيئة أخرى.

  • تهميش باقي السلط

يُطلق مشروع الدستور الجديد على كل السلط تسمية "وظائف" حتى القضائية منها في تقليص لقيمتها حتى لغة. على مستوى السلطة القضائية، يمنع مشروع الدستور الجديد القضاة من حق الإضراب وهو ما لم يكن قائمًا في دستور 2014، كما يحد من ضمانات استقلال السلطة القضائية من خلال طريقة تكوين المجلس الأعلى للقضاء.

يمنع مشروع الدستور الجديد القضاة من حق الإضراب وهو ما لم يكن قائمًا في دستور 2014

في المقارنة بين باب "الوظيفة القضائية" في مشروع الدستور الجديد وباب "السلطة القضائية" لدستور 2014، نلاحظ حذف التنصيص على تحجير التدخل في سير القضاء (الفصل 109 من دستور 2014)، حذف منع إحداث محاكم استثنائية أو سن إجراءات استثنائية تمس من المبادئ العامة للمحاكمة العادلة (الفصل 110 من دستور 2014)، لا يتطرق مشروع الرئيس إلى ذكر المحاكم العسكرية ودورها كما تم حذف دسترة المجلس الأعلى للقضاء والاكتفاء بالإشارة إلى مجلس أعلى لكل نوع من الأقضية، تنضم تركيبتها وصلاحياتها بقانون، إضافة إلى أن تسمية القضاة تتم بأمر رئاسي بناء على "ترشيح" من مجلس القضاء الأعلى المعني في مشروع دستور 2022، بينما كان التعيين يخضع لـ"الرأي المطابق" من المجلس الأعلى للقضاء في دستور 2014.

  • لا هيئات دستورية غير هيئة الانتخابات

يلغي مشروع الدستور الجديد في تونس معظم "الهيئات الدستورية المستقلة" ومنها هيئة الاتصال السمعي البصري (الهايكا) وهيئة التنمية المستدامة وهيئة الحوكمة ومكافحة الفساد ويبقي فقط على هيئة الانتخابات.

يلغي مشروع الدستور معظم "الهيئات الدستورية المستقلة" ومنها هيئة الاتصال السمعي البصري (الهايكا) وهيئة التنمية المستدامة وهيئة الحوكمة ومكافحة الفساد ويبقي فقط على هيئة الانتخابات

ولا ينص مشروع الدستور، بخصوص الهيئات المذكورة أعلاه، على طريقة تعيين أعضائها، مما يفتح الشكوك أن التعيين سيكون من رئيس الجمهورية كما حصل مؤخرًا مثلًا عند تنصيب أعضاء هيئة الانتخابات الحالية.

  • المحكمة الدستورية

أما بخصوص المحكمة الدستورية، فنلاحظ أن شروط عضويتها تنحصر على الأقدمية بالنسبة لكبار القضاة، مع العلم أن رئيسها، وفق مشروع الدستور الجديد، يتولى رئاسة البلاد في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية.

 استبعاد أساتذة القانون الدستوري وممثلين آخرين من تركيبة المحكمة الدستورية وحصرها في القضاة

كما نلاحظ استبعاد أساتذة القانون الدستوري وممثلين آخرين من تركيبة المحكمة الدستورية وحصرها في القضاة بصفتهم، على عكس ما كانت عليه تركيبة المحكمة في دستور 2014، مع صمت عن الجهة التي ستعيّن أعضاء المحكمة الدستورية وهو ما قد يفهم أن الأمر سيعود أيضًا لرئيس الجمهورية.

  • اللامركزية.. فصل "يتيم"

يقتصر باب الجماعات المحلية والجهوية في مشروع الدستور الجديد على فصل واحد يكتفي بالحديث عن مجالس بلدية وأخرى جهوية ومجالس الأقاليم وممارسة مهامها حسب ما يضبطه القانون دون تفاصيل أخرى. وهذا  الفصل يذكر بالفصل 71 من دستور 1959، لا يقدم أي تفاصيل مع عدم ذكر المبادئ الجوهرية للامركزية (مبدأ التدبير الحر والتفريع والرقابة اللاحقة الخ).

  • التخلي عن "الإسلام دين الدولة" وأيضًا عن "مدنية الدولة"

ألغى مشروع الدستور الجديد في تونس التنصيص على "الإسلام كدين للدولة" لكنه ألغى أيضًا التنصيص على مدنية الدولة التي كانت مذكورة في دستور 2014.

ألغى مشروع الدستور التنصيص على "الإسلام كدين للدولة" لكنه ألغى أيضًا التنصيص على مدنية الدولة التي كانت مذكورة في دستور 2014

وبدل عبارة "الإسلام دينها" التي كانت مدرجة بالفصل الأول من دستور 2014 تم إدراج فصل يتعرض لـ"مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية"، وهو ما أثار تساؤلات عدة منذ الاطلاع عليه وفتح باب التأويل واسعًا.

تم التنصيص أيضًا في الفصل 5 على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية" مع الحفاظ على شرط ديانة الإسلام بالنسبة لرئيس الجمهورية والتنصيص في الفصل 44 على "تأصيل الناشئة في الهوية العربية الإسلامية".

تم إدراج فصل يتعرض لـ"مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية"، وهو ما أثار تساؤلات عدة وفتح باب التأويل واسعًا

يُذكر أن مشروع الدستور الجديد ينص على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية والأمة العربية وجزء من المغرب العربي الكبير".

 


إجمالًا، يمكن الإشارة إلى أن مشروع الدستور الجديد في تونس يلغي تقريبًا أي دور للأحزاب مع تهميش وإضعاف قيمة المجلس النيابي في إطار فلسفة البناء القاعدي، وهو ما قد يعني جمودًا للحياة السياسية في تونس.

من المهم الإشارة أيضًا إلى أن مشروع الدستور الجديد مرتبط في العديد من فصوله بالقانون الانتخابي الذي لم يجهز بعد (شروط الناخب يحددها القانون الانتخابي ووكالة النائب كذلك وتعويض النائب أيضًا وغير ذلك) والقانون الانتخابي  مستثنى من مجال المراسيم مما يوحي أن أهم عناصر البناء القاعدي ستضمن ضمن القانون الانتخابي، والذي لا يبدو أنه سينشر إلا بعد الاستفتاء.

كان لافتًا أيضًا أن مشروع الدستور الجديد ينص في أحكامه الانتقالية أن "الدستور يدخل حيز التطبيق ابتداء من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قبل هيئة الانتخابات" دون إشارة لفرضية سقوطه بتصويت بـ"لا" مثلًا.