"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" -النفري-
"ما يعتبره الأوروبي شيئًا ينبغي تجاوزه، نحن نعتبره شيئًا لم يحصل بعد" -فتحي المسكيني-
عشر سنوات تلت نجاح الشارع التونسي في فك قيد الاستبداد وتبني مشروع الانتقال الديمقراطي الذي عصفت به رياح عاتية. الديمقراطية التونسية كانت في شكل شحنات مُوَرَّدَة من الخارج لا عقلًا ديمقراطيًا "خاصًا وداخليًا" في عصر تغول الخارج ونهاية الداخل ضمن مجموعة الإعلانات التبشيرية بالنهاية التي أسست عصر ما بعد الحداثة (موت الإله، موت المؤلف، موت الميتافيزيقيا، نهاية التاريخ، نهاية الفن، نهاية الإنسان، نهاية السرديات الكبرى...).
ولا يعسر أمر كعسر تعريف مصطلح ما بعد الحداثة الذي ظهرت فلسفته في النصف الثاني من القرن العشرين، ضد مجموعة من الحقائق (الهوية، التاريخ الحقيقة، اللغة...) التي تشكلت خلال عصر التنوير فالحداثة بل الأمر في تشكيل أنساق من الخطاب تمنع الادعاء/القول بوجود الحقيقة أي بصورة أخرى الإقرار بالعدم الأبستيمولوجي والأخلاقي .
الديمقراطية التونسية كانت في شكل شحنات مُوَرَّدَة من الخارج لا عقلًا ديمقراطيًا "خاصًا وداخليًا" في عصر تغول الخارج ونهاية الداخل ضمن مجموعة الإعلانات التبشيرية بالنهاية التي أسست عصر ما بعد الحداثة
جان فرانسوا ليوتار وجاك دريدا فيلسوفان فرنسيان، صاغ الأول مصطلح ما بعد الحداثة وأعلن نهاية السرديات الكبرى أي الخلفيات والقصص الكبرى الميتافيزيقية والمادية التي تسعى لتفسير العالم والإنسان وعلاقتهما (الرأسمالية، الشيوعية، الأديان...) والثاني جاك دريدا الفيلسوف التفكيكي الذي أغلق النص وأمات كل ما يخرج عن النص، وكلاهما من أبرز أقطاب ما بعد الحداثة .
السؤال "الحقيقي" الذي قد تستدعيه اللحظة: أي علاقة تجمع بين الأزمة التونسية (سياسة واجتماعًا...) وبين النصوص المغلقة والسرديات الميتة؟
ما يلي محاولة في الإجابة:
الأزمة في اللغة بمعنى الضيق والشدة (قاموس الثعالبي)، أما في الأنجليزية crisis من اللاتينية عن اليونانية krisis والتي تعني نقطة التحول في المرض(turning point in a disease). ومن الإتمولوجيا إلى الواقع فإننا بصدد المرض، أو التحول داخل المرض السياسي/الاجتماعي.
كما أورد الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني في كتابه "الهجرة إلى الإنسانية" أن الشعوب العربية بعد الاستقلال ظنت المواطنة خطأ في الترجمة عن "المدنية" (نسبة للمدينة أو الدولة الأوروبية منذ عهد اليونان) فإذا بنا اليوم زمن اللجوء لأوروبا الإنسانية فرارًا من الوطن نكتشف تهافت مصطلح "مواطن" و"الدولة الوطنية" التي اشتقت عمدًا من "الوطن" من طرف ما يسميه بالمثقف الهووي للدولة لأن دولة الاستقلال لم تكن تحمل معها سوى وعود الهوية دون مواطنة حقيقية.
"وبدأ خطاب الهوية يتفتت وينهار كأفق أخلاقي للانتماء ولم يعد قادرًا على الإقناع بالتضحية في سبيله".
اقرأ/ي أيضًا: الشارع جزء من الديمقراطية
وتم للتونسيين التحرر من ربقة الاستبداد، وحل التعدد مكان التوحيد وجاء البرلمان والدستور والأحزاب وعشر سنوات.. وأزمة وأزمات .
الفعل السياسي التونسي منظم لكنه هش ومؤقت يشبه النوتة الموسيقية التي فرضها الشاعر على قصيد حر لا تضرب بجذورها في أي خلفية إلا ما ارتد في وجدان الشاعر/السياسي
إذن، لنعتبر جدلًا المشهد في تونس نصًا مكتوبًا من الحروف والكلمات والرموز عندها سنبدأ "سردنا":
تنبأ ارنست كاسيرار -فيلسوف ولساني ألماني- منذ أكثر من قرن بأن اللغة (الدولة في سياق الاعتبار) ستصبح سلاح الشك العدمي وأصبح الهدف إثبات إخفاق الدولة/اللغة حتى تصاب إبستيمولوجيا النص (السياسي في هذا السياق) بالشلل.
وصار بذلك تحرير الإنسان/الشعوب من أية أوهام تتعلق بالكليات والثبات والتجاوز وهدمها غاية ما بعد الحداثة أي القضاء على اليقين المعرفي، ولم تعد فكرة الشعب/الأمة تحافظ على تجانسها في علاقة بالمقدس والجميل والمشروع واللامشروع.
وكما يستند المشروع التواصلي للإنسان إلى اللغة فإن مشروعه السياسي يستند للدولة وآلياتها ومؤسساتها والكلمات داخل شبكة من الاختلافات اللامتناهية كمثل مؤسسات الدولة في شبكة علاقات هيكلية ووظيفية، واللغة نظام مستقل عن الإنسان والإرادة الإنسانية كالدولة في حيادها الأخلاقي بالتالي إفشال اللغة/الدولة يقود إلى إنتاج شعوب من دون ذاكرة ولا وعي تاريخي (وهو الحال).
وقياسًا على ما يراه البنيويون أن اللغة تتكلم من خلالنا، فإن النص السياسي بالأساس يتكلم من خلالنا نحن "المواطنون". هنا تثبت أوجه الصلة بين النص(من كلمات) وملامح النص التونسي وأثر ما بعد الحداثة.
الفعل السياسي التونسي منظم لكنه هش ومؤقت يشبه النوتة الموسيقية التي فرضها الشاعر على قصيد حر لا تضرب بجذورها في أي خلفية إلا ما ارتد في وجدان الشاعر/السياسي.
وبالحديث عن القصائد والنصوص، فلقد أحكم جاك دريدا إغلاق النصوص "فلا شيء خارج النص" وهو ما ينطبق على النص السياسي والنص الاجتماعي حيث تتناحر وتُفكك الدوال (الجزء الصوتي من اللغة /المرئي) ومدلولاتها (المعنى، القيمة) نفسها بنفسها في شبكة معقدة (حال الأحزاب، المنظمات، بارونات الاقتصاد...) كل يحاول طرح معنى للنص من داخله و"استئصال" المعنى المخالف. فخطاب "الإسلام هو الحل" أو خطاب "توزيع عادل لوسائل الإنتاج و الثروة وشيوعية الدولة" مثلًا ليست معان نهائية ولا حقيقية وقابلة للإلغاء والإضافة من قارئ النص.
حالة أزمة داخل نص مغلق يحاول أن يحيا على نفسه وبنفسه دون الاستناد إلى أي حقيقة جامعة وفعلية.
تحوّل الأداء السياسي إلى فعل معد للاستهلاك الحيني ولم يعد المعنى السياسي تشريعيًا وتنفيذيًا بل أصبح فرجويًا مبنيًا على شكل جديد يسميه ريجيس ديبراي "الفيديوقراطية" أو حكم الفيديوهات
وحتى في محاولة "روحانية" منه -القارئ- للخروج من النص والبحث عن سرد "خارجي" و"حقيقي" يُحَصِّلُ المعنى، فإنه سيجد نفسه في أتون عصر موت السرديات الكبرى وسيجد على طرف النقيض من ذلك سرديات صغرى تلج/تُكْتَبُ مع النص وتنصهر فيه وصار الحكم في تونس جغرافيا يدين بالولاء "الميتافيزيقي" لجغرافيا خارجية أو سردية صغرى تفسر العالم التونسي (الولايات المتحدة، الصين، فرنسا، تركيا، قطر..).
فلا يمكن فهم المشهد في تونس دون الإحالة على المحور الفرنسي أو التركي فيها، لكن من داخل المشهد لا من خارجه.
ويصير الطرف السياسي الذي استعان بهذه السرديات/الجغرافيات جزءًا من ميكانيزم ما بعد الحداثة وإمبرياليًا غازيًا (فكك المعنى داخل النص وأدخل عليه سردية/جغرافية محتلة تزيد في تفكيكه).
وحينما يفقد المعنى يدخل شَبَهُ المعنى في شكل ميتافيزيقيا استهلاكية فيصير الأداء السياسي (البرلماني بشكل خاص) فعلًا لاتاريخيًا (يحيا ويموت في زمن الحاضر لا يرتبط بجذور ولا يتطلع للمستقبل)، فعل معد للاستهلاك الحيني يزيد من توقعات المتلقي إزاء "أداء" فرجوي عنيف ماديًا ورمزيًا (السجال داخل قبة البرلمان) فلا يعود المعنى السياسي تشريعيًا وتنفيذيًا بل يصبح فرجويًا (ممارسة السياسة عبر فيديوهات الهواتف الذكية) ومبنيًا على شكل جديد يسميه ريجيس ديبراي "الفيديوقراطية" أو حكم الفيديوهات.
وفي صراع "الاستعراض"(show) وشبهات المعاني لابد من "تحييد" الحكم أي جعله مساحة "نقية"(HD)، تحكم فيه التقنية وتَسُوس العقول التكنولوجية بنموذج سياسي يسوقه الفورديزم Fordism (العقل التكنولوجي المنمط) والمعروف بالتكنوقراط. التكنوقراط حليف رأس المال العابر للقارات الذي يدير دفة دواليب الحياة البشرية إجرائيًا بمكابس ميكانيكية تزيد في صدأ المعنى .
هكذا تتشكل ملامح النص ما بعد الحداثي في تونس، نص خال من الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا: إرباك في أعلى مؤسسات الدولة في تونس
وقد تخيلت قاعدة الناخبين التونسيين أنهم وجدوا الحقيقة السياسية في "نظافة" الرئيس سعيّد وأكاديميته، لكن تجربة الرئيس في الحكم إلى جانب شعبويتها -والقائمة على تصور الشعب كقوة خيرة أخلاقيًا لها الأفضلية في المبادرة السياسية على نقيض النخبة- صارت جزءًا لا يتجزأ من تهريج الأزمة، فخطاب التكلف والشقشقة اللسانية لا يصمد ويتهافت في عصر تفتت الهوية وجنسانية الشعوب الاجتماعية.
إذن نحن أمام غياب شبه تام للتماسك داخل النص الذي يفكك نفسه بنفسه. ولنضرب لذلك مثلًا آخر: حالة الغضب/الفوران ضد الدولة/الحكم في شهر جانفي/يناير المنصرم والتي قادتها قوى سياسية واجتماعية يسارية وجدت نفسها تتبنى شكلًا ليبراليًا لتفريغ الغضب (نموذج رش الطلاء، نموذج أحمر الشفاه..).
تخيلت قاعدة الناخبين التونسيين أنهم وجدوا الحقيقة السياسية في "نظافة" الرئيس سعيّد وأكاديميته، لكن تجربة الرئيس في الحكم إلى جانب شعبويتها صارت جزءًا لا يتجزأ من تهريج الأزمة
فالنص معقد ومتقاطع بشكل لامتناهي: ردة فعل اجتماعية غاضبة في الشارع "تستعرض" نماذج تعبيرية معولمة -مستهجنة قاعديًا- ضد أمني/مواطن وموظف لدى دولة اشتراكية (60 بالمائة تقريبًا من المواطنين موظفون لدى الدولة) تحكمها اقتصاديًا عائلات وتكتلات برجوازية متحالفة مع رأس المال الأجنبي وتدافع عن مصالحهم سياسيًا أحزاب تتصارع على الفعل الفرجوي منتخَبة "ديمقراطيًا" من المواطنين المطحونين الذين يستهجنون ردة الفعل الغاضبة نفسها التي تشتبك مع الأمني بهدف خلاصهم.
هذا فصل من النص التونسي حاليًا الذي تتشابك فيه المدلولات وتتكون حقيقته -معناه في اتصال قصتين قصيرتين فقط- لا حوار عقلاني في إطار قصة كبرى جامعة تجمع ما يمكن جمعه من الإسلام كمشروع وجود روحاني والشيوعية كمطلب دنيوي مادي وعادل مثلًا -وتكون هذه الحقيقة جزئية متصلة بالزمان والمكان سرعان ما تتلاشى بانفضاض القصتين (من ذلك مثلًا لحظة حميمية لاحتضان منجي الرحوي عن الوطد الحبيب اللوز عن الجناح السلفي لحركة النهضة بعد الإمضاء على دستور 27 جانفي/يناير 2014).
اقرأ/ي أيضًا: عن طوفان الشعبوية في تونس..
تذهب الفيلسوفة سوزان هاندلمان إلى أن جاك دريدا أدخل الوثنية إلى النص أي أن تعدد المعاني داخل النص (البرلمان) من تعدد الآلهة وإغلاقه إنكار لمعنى جامع (ذاكرة، لغة، تاريخ، وجدان..). كل معنى يفكك نفسه بمعنى آخر في خطابات سائلة تخلو من المركز سواء في علاقة بالإنسان أو بأي متجاوز.
مثال: شعار "قسمًا برب الوجود التجمع لن يعود" يفكك نفسه ويحيل إلى التجمع الذي يرفع شعار "إسقاط الخوانجية" الذي يحيل للأول، وهذان الشعاران إحالة من شعار القوى اليسارية "تسقط الرجعية، دساترة وخوانجية". أي مجموعة من الإحالات المتواصلة دون نهاية أو نقطة لقاء في غياب العلاقة بين الدوال والمدلولات وعملية تفتيت لا هوادة فيها .
رئيس حكومة معيّن من رئيس الجمهورية يجري تحويرًا وزاريًا يلقى من رئيس الجمهورية نفسه الذي عيّن رئيس الحكومة تعطيلًا لأداء يمين الوزراء لشبهة فساد إثباتها يقع على عاتق السلطة القضائية لا التنفيذية ويفرض على الدستور تأويلًا خاصًا (ضمن مجموعة تأويلات) وهو بنص الدستور المكفول بصونه في غياب مرجعية دستورية لتعطيل من مجلس النواب الذي وافق على التحوير. حالة عطالة سياسية سائلة تتحارب فيها السلط على تجميد النص من داخله فيما يعرف بأزمة اليمين الدستورية.
نعيش على وقع حالة عطالة سياسية سائلة تتحارب فيها السلط على تجميد النص من داخله فيما يعرف بأزمة اليمين الدستورية
يمكن أن يوقف عملية تناحر المعنى هذه مدلول متجاوز، ميتافيزيقيا سياسية سامية على كل الخلافات، سردية جامعة هي الوطن والوطنية .
لكن كما أشرنا في البدء إلى أن "عصر اللجوء الميتافيزيقي لأوروبا" كشف تخلخل سلطان الوطن على الشعوب العربية التي لم تعد تشعر بأنها في موطنها وأن الوطن فكرة متعددة الأبعاد تقبر داخل نص أحادي البعد على حد تعبير هاربرت ماركوز.
إذن هل يكمن الحل في فتح النص وإحياء داخله وتسويته بالخارج أم في البحث عن سردية جديدة تتصدى للموت المحتوم الذي هو قدر ما بعد الحداثة؟ أم شيء أبعد من ذلك بكثير يحاول استيعاب اللحظة في كليتها وتعقيدها؟
في ظل الحلقة المفرغة من المعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي.. إلخ، لن تستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات غير الأجيال القادمة .
المصادر:
- جان فرانسوا ليوتار، ويكيبيديا
- جاك دريدا، ويكيبيديا
- فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية
- عبد الوهاب المسيري وفتحي التريحي، الحداثة وما بعد الحداثة
اقرأ/ي أيضًا: