"عندما كنت صغيرًا، كنت أحب الكلمات.
كنت طفلًا ألعب الحرف وألهو الكلمات.
كنت أصواتًا بلا معنى وراء الكلمات.
وتخطّيت سنينًا عثرتها الكلمات.
أركض الأحلام والأوهام خلف الكلمات.
وراء الزمن الهارب أعدو الكلمات.
كلّ ما أعرفه أني ظلمت الكلمات.
وسمعت النّاس يصغون لصوت الكلمات.
فتكلّمت ولكن لم أفدها الكلمات"
هذا المقطع الشعري من معلّقة "كلمات" للشاعر التونسي الكبير منوّر صمادح يحمل في جيناته اللغوية العميقة طعم الخزف ورائحة الطين، إذ أن الشعرية الطاغية على القصيدة والملتحفة بعفوية الكلمات الخارجة من بركان الذات تشبه ذاك اللمعان الذي نلمحه على أديم الخزف.
هذا التّلاقي الروحي بين الخزف و"الكلم"، بين الطين والشعر، جرّ الخزّاف التونسي بلحسن الكشو إلى الاشتغال على هذا البرزخ العجيب المشبع بالتلاقي بين الأجناس الفنية والذي قلّما نجد من يقيم فيه تلك الإقامة العالمة والمجنونة التي تشبه "الوجد" في عالم الصّوفيّات، فكان معرضه "أنوميا" برواق خزفيات بمدينة الثقافة التابع للمركز الوطني للخزف الفنّي بتونس المُبرمج طيلة شهري فيفري/شباط ومارس/آذار من سنة 2020، والذي تم تعليقه مؤخرًا على ضوء أزمة فيروس "كورونا".
دفع التّلاقي الروحي بين الخزف و"الكلم"، بين الطين والشعر، الخزّاف التونسي بلحسن الكشو إلى إعداد معرض بعنوان "أنوميا"
اقرأ/ي أيضًا: "رفائيل".. أستاذ اللّوحة الإيطالية في تونس
التحام الشعر بالخزف لا غرابة فيه فكلاهما طين، لكنها صنعة عصية لا يتدبرها إلا الرّاسخون في التجريب الفني، والكشو مشى في الدرب عميقًا واختار بثبات شاعرين منشقين هما منور صمادح ومحمد الصغير أولاد أحمد ليشتغل على ما علق الذاكرة الشعبية التونسية والعربية من شعريهما الخالد.
الخزاف التونسي بلحسن الكشو
اللّافت في السلوك الخزفي لبلحسن الكشو هو توخّيه البساطة في إنجاز أعماله المسطّحة والأخرى الناتئة، وهي بساطة نجد لها ما يشبهها في النصوص الفلسفية والشعرية. فهو يلتقط من الطين أوجاعه، ومن الكلام حرائقه ليصنع سجاجيد من جمال يستفزّك ويدعوك للتفكير.
وهذا الوقوف وهذا التأمّل البركاني فيما يحدث في المجتمع وداخل بنى تفكيره هو ما حدا بالسيراميست الكشو لتسمية معرضه بـ"أنوميا"، وهو مصطلح استدعاه الخزّاف من مجالات السوسيولوجيا ليكون قاعدة علمية لعمله، و"الأنوميا" مفهوم يشير إلى عدم الاستقرار وحالة الاضطراب والقلق لدى الأفراد الناجمة عن انهيار المعايير والقيم الاجتماعية أو الافتقار إلى الهدف الأمثل، وكان عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم هو أول من وظّف هذا المصطلح في كتابه "الانتحار" سنة 1897.
اللّافت في السلوك الخزفي لبلحسن الكشو هو توخّيه البساطة
وكتب الكشو في مقدّمة المعرض عن "أنوميا" موضحًا وموجهًا للمتلقّي: "هي حكاية تشكلت أطوارها أطيانًا وألوانًا، هي رؤية فنية ونقدية ترصد قضايا الحياة وتعكس حالة من عدم الاستقرار والقلق والاضطراب نضرب عمق المجتمع وتخلخل توازنه وتفتك بالمعايير والقيم. سنوات والأرق يحاصرني، يغازلني حتى تملّكني فكانت المواجهة. فما نعيشه بالأمس واليوم وغدا يحرّك سواكن المسكون فنّا. أنوميا أبطالها العابرون التائهون المترصّدون المهاجرون، شخوص من وحي الخيال:
عيون مطموسة ثاقبة
أفواه صامتة صارخة
أيادي مبتورة ممدودة
بطون خاوية وقانعة
عقول مدركة وشاردة".
وهو بذلك لا يختلف مع الباحث في علم الاجتماع بل يلتقي معه فيرصد التفكك التنظيمي لمؤسسات المجتمع وانهيار القيم والمعايير وخاصة الزيف السياسي الذي بات منتشرًا في المجتمع التونسي.
بحث الكشو الخزفي يتلقاه الفكر في شكل دعوات بصرية حاثّة على التغيير
إنّ المقدمة التي خطها بلحسن الكشو لخزفياته تأتي في شكل "بيان"مؤسس لسلوك الفنان الخزفي الذي يجب أن ينخرط في الحياة التشكيلية بكل جهد، وأن يخرج من دائرة الهامش الثقافي ويتوجه مباشرة إلى العمق والقطب وأن يفتك دوره ولا يكتفي بالمشاركات الشرفيّة في المعرض والتظاهرات.
بلحسن الكشو هو خزّاف مطرقي على شاكلة الفيلسوف فريدريك نيتشه، فهو يخرج الطين والخزف من الارتسامي والسطحي والتزويقي الميّال إلى السذاجة الفنّية ليحوّله إلى جذاذات فكرية
اقرأ/ي أيضًا: عن أشهر لوحة فسيفساء تونسية.. "فرجليوس" الذي لا ترى وجهه إلاّ في تونس
بلحسن الكشو هو خزّاف مطرقي على شاكلة الفيلسوف فريدريك نيتشه، فهو يخرج الطين والخزف من الارتسامي والسطحي والتزويقي الميّال إلى السذاجة الفنّية ليحوّله إلى جذاذات فكرية تناقش الأيديولوجيا والسياسة والتردي الاجتماعي، ونلمح ذلك في عمل "برـ لمان"، و"لغة الكراسي"، و"دعاة سلام" و"ربيع مؤكسد".
بحث الكشو الخزفي يتلقاه الفكر في شكل دعوات بصرية حاثّة على التغيير ومقاطعة السائد والوقوف على ناصية الحرية ونلمح ذلك خاصة في العمل الثلاثي الذي يحمل مقطعًا شعريًا للشاعر التونسي الكبير محمد الصغيّر أولاد أحمد: "إذا كنت شعبًا فصوّت لنفسك في اللحظة الحاسمة".
نحن إزاء "أنوميا" جمالية غير نمطية
تأتي هذه الخزفية المصنوعة من طين وشعر هما ذاكرة الأرض والانسان، طين لا يعرف النسيان، وشعر معلق في ذاكرة الشعب التونسي كقنديل أخضر، إنهما الشاهد الأول على مرورنا وحكايانا منذ الأزل، أليس الطين هو الذي سيرافقنا يوم الدينونة الكبرى والبلاغة هي سلالنا في لقيا الله؟
الألوان التي استعملها الخزاف التونسي بلحسن الكشو في أغلب الأعمال تأتي متقشّفة خجلى كحقل قمح فاجأته خيوط الشمس فجرًا، لم يكن لديه وقت لزحمة الألوان. لقد كان يفسح المجال لحركة الطين والتحامها بحركة الكلمات، والألوان هنا مسألة ثانوية أمام قدحة الفكرة والرسائل التي يجب أن تعبر من العين إلى العقل.
في معرض "أنوميا" للخزاف بلحسن الكشو، نحن فعلًا إزاء "أنوميا" جمالية غير نمطية في عالم الخزف تجعلنا مدهوشين كأطفال يظل الصلصال يغرينا إلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا:
ملتقى الخزف الفني.. فن عريق في قلب تونس بأنامل صفوة خزافي العالم