04-نوفمبر-2020

تم النجاح في "تقسيم" فراغ/تركة النظام البائد تقسيمًا ديمقراطيًا لم يخلُ من نزاعات لإعادة رسم الحدود (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

مقال رأي

 

عشر سنوات إلا نيفًا تلت ذكرى نجاح الشارع التونسي في فك ربقة الاستبداد و تبني مشروع الانتقال الديمقراطي الذي عصفت به رياح الجنوب والشَّمْأَلِ.

عشر سنوات مثلت لحظة احتقان تاريخي للظرفية السياسية وتشكل نسيج حزبي متشابك في الداخل ومتفرع إلى الخارج وحالة من التشبع القياسي للفضاء السياسي، بحيث شهدنا تكالبًا عنيفًا على الكينونة الحزبية (مجموع الأحزاب التي قدمت نفسها بإعتبارها البديل الذي سيملأ فراغا وجوديًا -قبل أن يكون سياسيًا- في عملية الحكم) التي ستعود وبالًا على علاقات الحكم نفسها ومنها إلى الحياة العامة.

فعلًا، تم النجاح في "تقسيم" فراغ/تركة النظام البائد تقسيمًا ديمقراطيًا لم يخلُ من نزاعات لإعادة رسم الحدود في كل مرة.

أول المتضررين من داخل المشهد السياسي هو اليسار التونسي ممثلًا في الأحزاب التي انتقلت إليها عدوى التفكك وتجاوزتها اللحظة السياسية حتى أعلنت موتها بصريح العبارة

عملية التقسيم التي تتكرر في كل مناسبة سياسية أودت إلى جَغرفة الحكم-أي بتحويله إلى جغرافيا داخلية تتبع الأحزاب موصولة بجغرافيا أكبر منها في الخارج- حيث يتحدث كل طرف سياسي من داخل أيديولوجيته و لكن أيضًا بما تسمح به مساحته. ومن هنا يصير مُلحًا للأطياف الحزبية خلق "المجال الحيوي"(على المنوال النازي) لتأمين النمو السياسي للكائن الحزبي بعيدًا عن أي اعتبارات اقتصادية أو اجتماعية.

التقسيمات الحزبية التي تتفرع عن بعضها في كل مرة تزيد في تفكيك المفكك لدى الرأي العام السياسي ( فعل التفكيك المتواصل منع من تكون بنية سياسية صلبة تكف عن التفكك وتحتمل فعل البناء وتحظى بدعم عقلاني من قاعدة "مواطنية" و إنما حالة سائلة لاعقلانية تعيد إنتاج الصراع/التفكيك في نسخة ما بعد حداثية شنيعة تسخّر كل المخزون السياسي للتموقع و التمكين في نسق عبثي يفقد شيئا فشيئا المعنى ، لا يرى له من أفق).

حالة من تبثيث الصراع وإعادة خلقه فيما يشبه داروينية سياسية البقاء فيها للأقوى ماليًا وإعلاميًا، للأقدر على توريث جيناته الحزبية وخدمة الظرفية الجغراسياسية العالمية من داخل جغرافيته.

أول المتضررين من داخل المشهد السياسي هو اليسار التونسي ممثلًا في الأحزاب التي انتقلت إليها عدوى التفكك وتجاوزتها اللحظة السياسية حتى أعلنت موتها بصريح العبارة.

القوى اليسارية في تونس -الجبهة الشعبية- لم تستوعب عملية التشظي على الذات إلّا و قد ذابت نهائيًا داخل نسق الصراع  (انشداد اليسار إلى السرديات الكبرى "الميتة"-على الأقل فلسفيًا- أطرده من دائرة السرد الحزبي وألحقه بمقاهي النخبة وجعله محل "شفقة اجتماعية").

نموذج عبير موسي هو إعلان إفلاس الوثنية الحزبية كممارسة سياسية وقادح لمزيد ترذيل الصراع

حالة الامتلاء في الجسد السياسي أدخلت الوثنية إلى النص السياسي ممثلًا في البرلمان (مثلما أدخل جاك دريدا الوثنية إلى النص الأدبي) بعد أن كان النص توحيديًا-الرئيس الواحد والحزب الواحد والمعنى الواحد-، أما الآن نحن أمام تعدد "المعاني" بغير معنى جامع. نحن أمام برلمان وثني هو إفراز الديانات المختلطة التي تحكم المجتمع التونسي. و أمام وثنية عاجزة عن بث روح الطمأنينة السياسية يتسلل شبح التوحيد -ممثلًا في الحزب الدستوري- بسفر جديد.

نموذج عبير موسي هو إعلان إفلاس الوثنية الحزبية كممارسة سياسية وقادح لمزيد ترذيل الصراع .

إن حالة الامتلاء التي عرفها المشهد الحزبي ناقضتها حالة خواء عامة بحيث قادت حمى السياسة إلى فوضى شاملة في حواس الشارع التونسي.

نجاح النظام البائد في تجفيف منابع السياسة كان مكلفًا وصولًا إلى مرحلة اللاسياسة "le  non politique " حيث يستهجن الخطاب اليافع اليومي أي حقل دلالي بمضمون سياسي، فلا يجد الشارع التونسي في مواجهة الرداءة السياسية غير مرجعية شعبية أخلاقوية عليها يصنف خياراته الانتخابية (هذا في أحسن الأحوال).

إلى جانب البرلمان فالثقافة الإعلامية -التي طالتها عملية التفكيك- مسؤولة عن الفوضى الحسية: يُطْمَسُ البصر السياسي للمشاهد من خلال استهلاك المغالطات اليومية التي تقدم له ضمن الخطاب الإعلامي السياسي وحتى الترفيهي، يُصَمُّ السمع السياسي للسامع من كم الإشاعات التي يختلقها الذباب الإلكتروني وينشرها، تُفْقَدُ حاستا الشم والذوق السياسيتان من خلال ضحالة الثقافة السياسية والعنف الرمزي المسلط يوميًا على المواطن.

تستثمر الماكينة الرأسمالية في حالة الفراغ الناتج عن عدم تشكيل هوية سياسية لتستثمر على المدى الطويل في الخواء لإنتاج ورفع سقف التوقعات الاقتصادية والطبقية للفرد ومنه إلى الدولة في محاولة لفصل الذوات (مصلحة الفرد عن الدولة والعكس) للإبقاء على ثقافة "الخبزة" (البائدة).

اقرأ/ي أيضًا: أفيون الثورة التونسية

في الأثناء، يبقى الصراع حاميًا: صراع يلقي بظلاله على الشارع التونسي الذي كوّن آلية نفسية دفاعية ضد الخطاب هي حالة "اللاسياسة" التي تتفشى خصوصًا في شريحة الشباب وهي حالة نفور/تحلل من كل ماهو حزبي من منطلق أخلاقوي قادت إلى حصول الرئيس قيس سعيد على قاعدة جماهيرية كخيار شعبي من خارج "السيستام"، لكن هذا الخيار الطهوري سيزيد الصراع سيولة و يُبِيتُ حمى سياسية مستعصية في الجسد السياسي.

مقاربة سعيّد في الحكم التي تنصب العداء للعملية البرلمانية (التنازلية) وتوكل مهمة البناء للقاعدة في اتجاه تصاعدي يدنيه إلى خانة الأيدولوجيا الشعبوية التي تصور الشعب كقوة خيّرة أخلاقيًا لها الأفضلية في المبادرة السياسية وتناقضه بـ "النخبة"

جمهور نفسي-على رأي غوستاف لوبون- أوصل قيس سعيّد لسدة الحكم أكتوبر/تشرين الأول 2019 بعد تصويت مُركّز من منطلق "معاداة الحزبية" من جهة وعلى أساس أخلاقي يحتفي بنظافة اليد والتعفف وروح المحافظة الشعبية التي تسكنه من جهة ثانية.

مقاربة سعيّد في الحكم التي تنصب العداء للعملية البرلمانية (التنازلية) وتوكل مهمة البناء للقاعدة في اتجاه تصاعدي يدنيه إلى خانة الأيدولوجيا الشعبوية -يختصرها شعاره الانتخابي "الشعب يريد"- التي تصور الشعب كقوة خيّرة أخلاقيًا لها الأفضلية في المبادرة السياسية وتناقضه بـ "النخبة"، التي تقدم مصالحها على المصلحة العامة وتوصَف بالفساد والأنانية.

بصورة ضمنية يقدم سعيّد الشعب بصفته "الحزب" الوحيد الذي يتمتع بشرعية صناعة القرار السياسي.

تمكنت صورة سعيّد (son profile ) مفصولة عنه كذات وأفكار ورؤى من الظفر بتأييد شعبي عميق، خصوصًا فئة الشباب، التي طوقته وماتزال تدافع عن خياراته السياسية.

النموذج ذو المرجعية الأكاديمية الذي قدمه الرئيس في مواجهة منظومة حزبية-ذرائعية- تفكيكية لم يصمد رغم محاولات التصعيد من المرجعيتين، محاولة "ثورية" لتوطين الإرادة السياسة -أي إنفاذ القرار من صلب المواطن- تصطدم بتناحر جغرافي على القرار في شبكة معقدة من التكتلات السياسية التي تجمع أحزابًا وعائلات وكبار المتنفذين والأوليغارشيا.

قيس سعيّد الذي رفض الأموال المخصصة لتمويل حملته من قبل الدولة، على الرغم من قانونيتها، وجمع وديعة ضمان قدرها 10000 دينار للتسجيل في القائمة النهائية للمرشحين وذلك باللجوء للاستدانة من أفراد عائلته يصدم باستشراء المال السياسي الفاسد داخل ماكينات حزبية مسوغة من الخارج وأخطبوطية في الداخل.

خرج الرئيس منهكًا بصراع مضنٍ بمزيد من المعقولية السياسية اتضحت في التعديلات التي أجراها على خطابه وخاصة تبنيه وضعًا دفاعيًا في اختياره هشام المشيشي رئيسًا للحكومة وانسحابه من الفعل السياسي واكتفائه بإجراءات بروتوكولية مناسبتية

ينأى بنفسه في البداية عن الصراع حتى تسقط حكومة الجملي ليتدخل تحت تكليف القانون وإلزام المسؤولية الأخلاقية في إختيار إلياس الفخفاخ رئيسًا للحكومة لينخرط كليًا في نسق الصراع ضد تغوّل الأحزاب اعتمادًا لا على مخطط سياسي صلب وإنما على حالة مجردة/غازية هي مشروعيته الشعبية التي يستمد منها الفعل السياسي.

المرجعية القانونية الوضعية التي تشربها الرئيس تمازجت في خليط غير متجانس مع وجدان شعبي محافظ ليكون شخصية شبه حداثية في منطقة وسطى بين الخطاب الحداثي النخبوي وخطاب الشعب المحافظ (يؤمن الرئيس بمبدأ حياد الدولة في حين يستند لخطاب النقل في رفض المساواة في الإرث).

إزاء هذه الشخصية المركبة وأمام اختلاف مقاربات الحكم بين الرئيس وحركة النهضة -أكثر الأحزاب تفكيكية- لقي سعيد دعمًا "حداثيًا" في هجومه على الحركة.

شهد المشهد السياسي فترة احتراب بين قوتين محافظتين الأولى تقيم معالم محافظتها على أيديولوجيا حزبية إسلامية مُطْوَاعَة في مقابل محافظة "متنورة" تقيم أسسها على ثبات المبدأ الأخلاقي.

ورغم دعم الأحزاب (التيار، حركة الشعب ..) للرئيس من منطلق عداء أيديولوجي، فإن افتقاده لآليات الصراع واقعيًا وافتراضيًا جعل منه ضحية لعملية تفكك خسر على إثرها مخزونًا انتخابيًا هامًا.

أُقْحِمَ الرئيس في مسؤولية رسم السياسة الخارجية (ليبيا، تركيا، فرنسا..الخ)، ثم "إطلاق الصواريخ" في كل الاتجاهات بسبب وضع أمني غامض، ثم في الشأن العسكري وفي جائحة كورونا التي أثقلته إلى جانب سقوط "حكومته" سقوطًا مدويًا وفشل اختياره رغم نجاحاتها الصحية.

خرج الرئيس منهكًا بصراع مضنٍ بمزيد من المعقولية السياسية اتضحت في التعديلات التي أجراها على خطابه وخاصة تبنيه وضعًا دفاعيًا في اختياره هشام المشيشي رئيسًا للحكومة  وانسحابه من الفعل السياسي واكتفائه بإجراءات بروتوكولية مناسبتية.

في الأثناء، تواجه حكومة "التكنوقراط" أزمات اجتماعية واقتصادية عمقتها الجائحة بحصيلة كارثية ستلقي بأثرها على امتداد العقود القادمة.

تتركب البنيات الكبرى للعملية الحزبية داخل البرلمان بين شق النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس الذي أثبت لادينية العملية الانتخابية (الخطاب الطهوري الذي أقيم ضد قلب تونس سرعان ما نجس) وقد حظي الشق بمشروعية أخلاقية لدى أنصاره لاعتبارات دينية ونفعية من جهة، وبشيطنة الشق المقابل ممثلًا في حركة الشعب والتيار الذين تم توريطهما أخلاقيًا في أذهان العامة في التعامل مع الديانة البائدة. صراع عروش بين الأديان السياسية منها المستعد للتحالف مع الشيطان نفسه.

خرج من اللعبة في جولتها الثالثة التيار الديمقراطي مفككًا و منهارًا بعد استقالة محمد عبو. لم يصمد التيار في عملية الانقسام بسبب استناده في تشكيل حزبيته على شعار "مقاومة الفساد"، شعار ذو خلفية أخلاقية هلامية تبخر داخل الصدام ووجد التيار نفسه يتحدث من داخل الفساد في عملية تحوير جيني لم يستفق منها إلا مجزّءًا.  

وسرعان ما دخلت حركة النهضة في أزمة عميقة فضحت ديكتاتوريتها الناعمة أمام إشكال زعماتي هوياتي من شأنه تغيير جينات الحركة ومستقبلها.

الثابت مبدئيًا عودة الصراع في صبغته الاستعراضية البهلوانية التي لم تفارقه لخلو الفعل السياسي داخل البرلمان من المعنى في دورة برلمانية ثانية تنتظر أسفارًا جديدة، علّها تحمل المعنى.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

في رحاب "مجلس الصبيان".. فرجة وامتعاض

بخطى حثيثة نحو إخصاء الثورة... وبالقانون!