"الباب" كلمة مزدحمة بالدلالات القصية والقصووية وعلامة جدلية باذخة في الفكر والفلسفة والممارسات الجمالية منذ القدم. فنجد باب المنزل وباب العمارة وباب المدينة وباب القلعة وباب البحر وباب السجن وباب الحرية وباب الجنة وباب النص وباب الموت وباب الحب. أبواب لا متناهية. إنها ابواب كالجسور. أبواب يعبرها الجسد وأخرى تعبرها الروح، بحثًا عن المعنى والأمان والبقاء والنقاء قبل الصعود وقبل الحلول.
وراء الباب نفكر ونتأمل ونتعرى ونبكي ونأمن ونتوحد ونقوى ونطير إلى علّيين خيالًا وإبداعًا. وراء الباب ننحت كياناتنا ونتوسد الكتب ونربّي الأمل ونرقب الشمس من ثقب الباب وهي تطلع لتغيب.
أبواب متعددة لا تحصى وتعدّ، والوالج واحد أحد هو الإنسان الغامض الواضح، المغامر الخائف الذي لا يكف في كل لحظة وكل حين عن دخول أبوابه المشتهاة. ممارسة مادية وذهنية بين الوعي واللاوعي. وكل الأبواب تفضي إلى بعضها البعض.
أغلب الأبواب في تونس صُنعت سابقًا من الخشب بتصميمات وتزويقات مختلفة جعلت منها مع مرور الزمن أعمالًا إبداعية وفنية ومن فرط الأحداث والقصص التي شهدتها تحولت إلى شاهد على الزمن فاكتسبت قيمتها التاريخية والرمزية
سنتحدث هنا عن الأبواب المهندسة ضمن المعمار التونسي القديم وعلى وجه التحديد مباني الأحياء الأوروبية التي أنشئت زمن الاستعمار الفرنسي من 1881 إلى حدود الاستقلال في سنة 1956 وأيضًا معمار المدن القديمة ذات الطراز الإسلامي.
أغلب الأبواب في تونس، إن لم نقل كلّها، سواءً أبواب المدن الكبرى والأربطة والأسواق والمحلات التجارية والحرفية، أو أبواب المنازل والقصور والغرف أو أبواب دور العبادة أو المؤسسات الرسمية، هي مصنوعة من الخشب وبتصميمات وتزويقات مختلفة جعلت منها مع مرور الزمن أعمالًا إبداعية وفنية صنع جزء منها يدويًا ومن غير مكننة أبدًا. ومن فرط الأحداث والقصص التي شهدتها أو حدثت وراء أخشابها تحولت إلى شاهد أو جزء من الحدث نفسه، فاكتسبت قيمتها التاريخية والرمزية والروحية والدلالية.
في السنوات الأخيرة تنامت ظاهرة غير واعية تمثلت في اقتلاع تلك الأبواب التاريخية والاستعاضة عنها بأبواب من مادة "الأليمنيوم" والحديد ومعجون الخشب المغلف بالبلاستيك المسال، ومواد أخرى غير صحية مثل الأخشاب المكررة والمرسكلة، وغير جمالية لأنها غير متناسقة مع المعمار القديم.
في السنوات الأخيرة تنامت ظاهرة اقتلاع الأبواب التاريخية والاستعاضة عنها بأبواب من مادة "الأليمنيوم" والحديد ومعجون الخشب المغلف بالبلاستيك وذهبت الأبواب القديمة الساحرة والمحملة بالذاكرة والتاريخ إلى المزابل
وذهبت الأبواب القديمة الساحرة والمحملة بالذاكرة والتاريخ إلى المزابل، ونصيبٌ وافر منها ذهب إلى محلات الأنتيكا والتقطه جامعي التحف حتى أنه ثمة من قام بترحيل الأبواب إلى الخارج وبيعت في مزادات علنية بأسعار خيالية.
أبواب تونس المهدورة في صمت جعلت "الترا تونس" يتطرق إلى هذا الموضوع المثير من خلال اتصاله بالمعنين والمنخرطين في هذه الحكايا والقصص:
الأبواب القديمة.. مكوّن أنثروبولوجي للمجتمع التونسي في القرون الأخيرة
إيمان درين، مهندسة تصميم داخلي متخرجة من "المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس" وتقيم بين سويسرا وتونس، تؤكد لـ"الترا تونس" أنّ أبواب العمارات والقصور والدور التونسية التراثية هي كنز وطني مدهش لأنها جزء لا يتجزأ من البناية والمعمار نفسه وهي مكون جمالي من مكوناته وجزء من الذاكرة البصرية الجمالية للمدينة أو المعلم أو العمارة.
إيمان درين (مهندسة تصميم داخلي) لـ"الترا تونس": أبواب العمارات والقصور والدور التونسية التراثية هي كنز وطني مدهش لأنها جزء لا يتجزأ من البناية والمعمار نفسه وهي مكون جمالي من مكوناته وجزء من الذاكرة البصرية الجمالية
أغلب الأبواب التونسية هي من أخشاب محلية أو مستوردة، وقد ركزت منذ قرون وعقود مديدة، ومنها ما أُنجز من أخشاب نادرة من النسيج الغابي المحلي التونسي مثل أشجار الصنوبر أو الزيتون أو الكالبتوس والنخيل والفلين والبلوط والخروب، أو من غابات بعيدة بقارّات أخرى مثل أخشاب الماهونجي والزان والجوز والأورو والآش.
وقد صُنع جزء منها بأياد تونسية، ومنها ما أُنجز بالخارج وخصوصًا بإيطاليا واليونان وفرنسا وإسبانيا وشحنت إلى تونس بحرًا عبر رحلات تجارية، وهي أبواب صلبة وتتحمل قساوة المناخ والزمن.
إيمان درين (مهندسة تصميم داخلي) لـ"الترا تونس": أبواب العمارات والدور القديمة هي علامات تشي بالمكون الثقافي والرؤية الذوقية والجمالية لسكان تونس في القرون الماضية وتتماشى مع المناخ المتوسطي التونسي فهي قادرة على امتصاص الرطوبة وصد الحرارة
وأشارت مهندسة التصميم الداخلي التونسية إلى أنّ أبواب العمارات والدور القديمة هي علامات تشي بالمكون الثقافي والرؤية الذوقية والجمالية لسكان تونس في القرون الماضية وتتماشى مع المناخ المتوسطي التونسي فهي قادرة على امتصاص الرطوبة وصد الحرارة.
وترى محدثة "الترا تونس" أن الأبواب تمثّل علامات أنثروبولوجية ضرورية عند تناولنا للمعمار القديم بالدراسة والترميم وهي تحمل تفاصيل فنية لا وجود لها اليوم كما ترتبط بمعتقدات وعادات ورموز دينية وثقافية.
وبيّنت إيمان درين أنّ الاعتداء على التراث في تونس طال كل شيء في ظل غياب القوانين الصارمة والمتقادمة وعدم التفكير في تطوير منظومة التشريعات الحامية للتراث وتجريم الاعتداء عليه، داعية إلى ضرورة محاسبة كل من يقتلع بابًا قديمًا أو يشوّهه أو يغيّر من ملامحه وألوانه أو يمزجه بمواد أخرى تفسد هويته وشكله وجماله دون مراجعة السلط الثقافية المختصة.
إيمان درين (مهندسة تصميم داخلي) لـ"الترا تونس": الأبواب تمثّل علامات أنثروبولوجية ضرورية عند تناول المعمار القديم بالدراسة وهي تحمل تفاصيل فنية لا وجود لها اليوم كما ترتبط بمعتقدات وعادات ورموز دينية وثقافية
كما تحدثت مهندسة التصميم الداخلي عن تجربة لها مع الأبواب والنوافذ القديمة عند إعدادها وتنفيذها لمشروع منزل خاص بمدينة صفاقس عندما طالبها صاحب المشروع بالبحث عن أبواب ونوافد وشبابيك قديمة ومزاوجتها مع معمار منزله الجديد. فتنقّلت بين أسواق الخردة والأثاث المستعمل بالعاصمة تونس وهناك وجدت مئات الأبواب القديمة سواءً لعمارات أو منازل أو لغرف داخلية، ملقاةً في العراء دون حماية من لفح الشمس والمطر في نوع من الاعتداء الصارخ على التراث المعماري الحضري. وبسؤالها أصحاب المحلات قيل لها إن إزالة عمارات بأكملها اقتضى ذلك كما أن التغييرات المحدثة على بعضها تطلب إنهاء صلاحية هذه الأبواب.
وذكرت المهندسة إيمان درين أنّ تعويض هذه الأبواب يكون أساسًا بأخرى مصنوعة من "الأليمنيوم" وهي مادة باتت تلقى اهتمامًا عند التونسيين ويروج لها كثيرًا عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو من خلال محلات صناعة أثاث الأليمنيوم المنتشرة في أحياء المدن والقرى التونسية بشكل لافت. وبيّنت أن مادة الأليمنيوم مكلفة للغاية لأنها مستوردة، على الرغم من أنها تبدو بلا روح ولا جمالية تذكر وعادة ما يتم تجنبها من قبل المهندسين الفنانين عند تنفيذ المشاريع الهندسية والتصاميم الداخلية الفضاءات والمساكن.
إيمان درين (مهندسة تصميم داخلي) لـ"الترا تونس": الاعتداء على التراث في تونس طال كل شيء في ظل غياب القوانين الصارمة والمتقادمة وعدم التفكير في تطوير منظومة التشريعات الحامية للتراث وتجريم الاعتداء عليه
وأكدت محدثتنا أن ما شاهدته في أسواق الخشب والأثاث المستعمل وما رأته على شبكات التواصل الاجتماعي من بيع وشراء لهذه الأبواب وغيرها من الخشبيات مثل النوافذ وحواجز الشرفات وأشياء فنية أخرى، جعلها تشعر بالخطر تجاه أبواب تونس وهذا الموروث الفني والثقافي الهام، داعية إلى التحرك سريعًا من قبل المؤسسات التي بيدها القانون حتى يتم الإنقاذ.
وختمت إيمان درين مهندسة التصميم الداخلي حديثها بالقول إنّ مجلة التراث واضحة وإنّ النصوص القانونية الترتيبية لا بدّ من مراجعتها حتى تشمل مثل هذه التفاصيل الهامة.
إقبال على الأبواب القديمة.. من داخل تونس وخارجها
"أحمد"، صاحب محل "أنتيكا " وتحف فنية بالعاصمة تونس، أكد لـ"الترا تونس" أن الأبواب والشبابيك الخشبية القديمة باتت مطلوبةً من قبل الزبائن وجامعي التحف والمهندسين المعماريين، لذلك بات يترصّدها من قبل باعة لا يعرفون قيمتها، فيتنقل يوميًا لأماكن بعينها في العاصمة يمكن له أن يجد فيها ضالته من هذه التحف الخشبية.
صاحب محل أنتيكا لـ"الترا تونس": الأبواب والشبابيك الخشبية القديمة باتت مطلوبةً من قبل الزبائن وجامعي التحف والمهندسين المعماريين.. وعلى سبيل الذكر فإن سعر باب عمارة من الطراز الأوروبي الكولونيالي يتجاوز 50 ألف دينار
وأوضح "أحمد" أنها أبواب ذات قيمة فنية ورمزية وذلك بالنظر للمكان الذي وجدت به والدور الذي لعبته طيلة سنوات وجودها بالمعمار والمدينة التي وجدت بها وأيضًا لخشبها ومكان إنجازها والتزويقات والنقائش الموجودة على وجهها حتى أن بعضها يحمل إمضاء الحرفي أو المصنع الذي أعدّها أو اسم الورشة التي أُنجزت داخلها، وخاصة تلك التي جلبت من خارج تونس.
وأضاف أنّ سعر باب عمارة من الطراز الأوروبي الكولونيالي يتجاوز 50 ألف دينار، وتحديد سعرها يخضع لمقاييس عديدة منها المكان ونوع الخشب والورشة.
وعن مأتاها إلى محلات " الأنتيكا " وتجار التحف، أشار أحمد إلى أنّها تأتي من شركات البناء التي تتدخل بإزاحة العمارات أو ترميمها، كما تأتي من أصحاب المنازل والمحلات عندما يقومون بتغييرات أو ترميمات منزلية، مشيرًا إلى أنّ تجار الأنتيكا يتنقلون إليها أيضًا أينما وُجدت حال تصلهم أخبارها.
صاحب محل أنتيكا لـ"الترا تونس": الأبواب القديمة باتت مطلوبة مطلوبة من قبل مواطنين وشركات التصميم الداخلي والمهندسين المعماريين من أجل إعادة تدويرها، فيتم بيعها بأسعار باهظة خاصة إذا كانت في وضعية جيدة ومحافظة على صلابتها وقوتها وألوانها الأصلية
وذكر أنّ هذه الأبواب مطلوبة من قبل مواطنين وشركات التصميم الداخلي والمهندسين المعماريين وذلك من أجل إعادة تدويرها وتركيزها في البناءات الجديدة، فيتم بيعها بأسعار باهظة خاصة إذا كانت في وضعية جيدة ومحافظة على صلابتها وقوتها وألوانها الأصلية.
وختم أحمد حديثه لـ"الترا تونس" بالقول إنّ "التونسيين باتوا يبحثون عن السهولة والبساطة فيميلون إلى مواد جديدة مثل الألومنيوم، وهي مادة جامدة ولا تتطلب صيانة ودهنًا ، وأبواب عجين الخشب بخسة الثمن وسريعة الزوال مع مرور الوقت.
إنّ فقدان تونس تدريجيًا لأبواب معمارها القديم بالعاصمة أو بالمدن الأخرى وحتى بالقرى التونسية وتذهب هدرًا بين المزابل الخاصة بنفايات البناءات أو بين تجار الأنتيكا الذين يدركون قيمتها فيبيعونها سرًا داخل تونس وخارجها، يؤكد أن موضوع الأبواب الخشبية التونسية هي من الرصيد التراثي المعماري التونسي وتتطلب انتباهًا وتدخلات عاجلة من قبل مصالح المعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية وحتى من قبل الجمعيات الثقافية..