28-ديسمبر-2019

صدر منذ أسابيع قليلة عن دار سيراس للنشر بتونس

 

أنطولوجيا الفنّ التشكيلي التونسي موزعة ومشتتة بين أكثر من قلم وأكثر من مؤلّف وأكثر من مؤسسة يبرز فيها الهووي الشخصي والإيديولوجي والسياسي والجهوي، إذ لم تخضع الرّحلة التشكيلية التونسية طيلة مسيرتها الزمنيّة التي جاوزت القرن والنيف إلى الممارسة العلمية الدقيقة في مستوى العلوم الإنسانية بكلّ تفريعاتها وفي مستوى المعالجات الأرشيفية. كما لم تذهب الدولة التونسية على مرّ تاريخها إلى مأسسة الحياة التشكيلية عبر المخابر البحثية والصيانة العلميّة والمتاحف العصرية.

اعتبر مؤلفا كتاب "فنانو تونس" أن فترة أحمد باي كانت هي المنطلق الحقيقي لحياة تشكيلية في تونس

وضمن سياقات الأفعال العفوية الثقافية تجاه الحياة التشكيلية التونسية، صدر منذ أسابيع قليلة عن دار سيراس للنشر بتونس كتاب "فنّانو تونس" المكتوب باللغة الفرنسية وهو منشور ببادرة من مؤسسة كمال الأزعر للمبادرات الثقافية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والتي بعثت سنة 2005 واتخذت مدينة جنيف بسويسرا مقرًّا لها ولها فروع عربية بما فيها تونس.

اقرأ/ي أيضًا: الموهبة حسام خالد: خلقني الله رسامًا من وراء "البلايك"

غلاف الكتاب

الكتاب جاء في طبعة فاخرة وملوّنة وضمّ بين دفّتيه 475 صفحة وهو من تأليف الثّنائي إلزا ديسيناي، وهي أكاديمية مختصة في تاريخ الفنّ وقد درّست بالعديد من المؤسسات الجامعية الأوروبية لمجالات التطوّر الفنّي بإفريقيا والعالم العربي ولها إصدار بعنوان "مائة كلمة بخصوص الفنّ الإفريقي" صدر بباريس سنة 2003، إلى جانب الدكتور رضا مومني، وهو باحث وأكاديمي تونسي مؤرخ للفن التشكيلي ومختص في الرصيد الفني لدى جامعي الأعمال الفنية في تونس خلال القرنين 19 و20 وقبل أن ينتقل في الآونة الأخيرة إلى جامعة هارفارد كان يدرّس بجامعات إيطالية وفرنسية وهو أيضًا كوميسارا لمعارض فنّية.

الإصدار وضع لنفسه خطيّة تاريخية أمام شح التوثيق العلمي وندرة المعلومة الخاصة بالفنون مع نهاية القرن التاسع عشر وعدم وضوحها وتشتّتها في أحيان أخرى، فكان أن انطلق من مرحلة الحكم الحسيني وخاصة فترة أحمد باي الذي زار باريس سنة 1846 وتأثّر بنهضتها وخاصة فنون الرسم، وقد تجلّى ذلك إثر عودته مباشرة إذ سرعان ما دعا إلى تونس مجموعة من رسامي البورتريه المشهورين في أوروبا مثل "شارل قليار" و"أوغست موانيي"، إلخ، الذين انشغلوا برسم الباي والأمراء والمخزنيين والأعيان، ليتركوا فيما بعد رصيدًا مازال موجودًا إلى الآن ومعروض جانب منه في القصر السعيد بضاحية باردو.

يبرز كتاب "فنانو تونس" الدور الذي لعبه وصول التصوير الفوتوغرافي من فرنسا إبان الاستعمار

وقد اعتبر مؤلفا الكتاب أن فترة أحمد باي كانت هي المنطلق الحقيقي لحياة تشكيلية في تونس تتالت بعدها التمفصلات الأخرى، منها ما سمّاه الكاتبان بـ"فترة الاستعمار"، وهي الحقبة التي شهدت الدفعة القوية في اتجاه انتشار فنون الرسم والتعريف بها لدى عامّة الناس حيث كانت فترة حالمة ورومنسية، إذ أنّ أغلب الأعمال التي راجت كانت فلكلورية في تصويرها للحياة اليومية للتونسيين وصوّرت أيضًا المناظر الطبيعة في أكثر من مكان بالشمال والجنوب التونسيين.

وأشارا إلى أنه خلال تلك الفترة، وتحديدًا خلال سنة 1923، تم بعث مركز لتعليم الفنّ سرعان ما تحول في الثلاثينيات إلى مدرسة الفنون الجميلة التي بقيت على نفس الشاكلة إلى اليوم بعد أن أصبحت مؤسسة جامعي. كما شهدت مرحلة الاستعمار أولى البعثات لأوروبا للتكوين على يد كبار الفنانين الفرنسيين والإيطاليين. ويذكر الكتاب أنه من التونسيين الأوائل الذين شاركوا في تلك البعثات نجد الهادي الخياشي وعبد الوهاب الجيلاني وجيل للوش وغيرهم.

الإصدار وضع لنفسه خطيّة تاريخية أمام شح التوثيق العلمي

ويبرز الكتاب مدى الدور الذي لعبه وصول التصوير الفوتوغرافي من فرنسا إبان الاستعمار وانجذاب بعض التونسيين لهذا الفن مثل سمامة شكلي، ووفود هواة التصوير من فرنسا بحثًا عن الضوء الباهر الذي تطلبه آلات التصوير المخترعة لتوّها ويوفره المناخ التونسي.

كما أفرد هذا المصنّف حيزًا للحديث عن "مدرسة تونس" الشهيرة والظروف التاريخية لتأسيسها ورموزها ومنجزها ومدى تأثيرها على الذائقة الفنية التونسية، حيث يعتبرها رمز تحديث فنون الرسم في تونس واشتغالها على الهويّة التونسية. وضمن التمشي الكرونولوجي الذي توخاه الكاتبان تم ذكر ما عرف بـ"المرحلة العفوية"، واعتبارها امتدادًا لتلك المحاولات الأولى للرسم على البلوّر ومن رموزها ذكرا علي بن سالم والبغدادي شنيتر.

اقرأ/ي أيضًا: مسرح قفصة.. ذاكرة وذكريات

من المراحل الأساسية التي ركّز عليها التمشي التاريخي لكتاب "فنانو تونس" هي "مرحلة الفنّ التجريدي"

ثم يعود الكاتبان لمرحلة ثانية من فنّ التصوير الفوتوغرافي عاشتها تونس بعد سنة 1957 وقد سمياها "مرحلة التصوير الفوتوغرافي بعد الاستقلال"، ومن الأسماء التي لمعت تم ذكر مصطفى بوشوشة وعبد الحميد كاهية وحسن عصمان، باعتبارهم الجيل المؤسس لهذه المرحلة يليهم أسماء أخرى مثل محمد العايب ورضا الزيلي وبيار أوليفي وجاك بيريز. كما اعتبرا أنّ السنوات 2000 عرفت في تونس دمقرطة للتكنولوجيا الرقمية فأصبح هذا الفن وسيلة للتعبير فلمعت أسماء أخرى مثل منى سيالة وأمال بوسلامة وهالة عمّار ومنى كرّاي.

ومن المراحل الأساسية التي ركّز عليها التمشي التاريخي للكتاب هي "مرحلة الفنّ التجريدي"، والتي يعتبر الكاتبان أنها انطلقت من "مدرسة تونس" وخاصة مع نجيب بلخوجة والهادي التركي ونلّو ليفي وإدغار نقّاش. كما لم يغب عن الكتاب مراحل أخرى أساسية طبعت الحياة التشكيلية التونسية مثل تشير فنون الخط والنحت والخزف...

ويختم كتاب "فنّانو تونس"  العرض الكرونولوجي الذي تمّ توخيه لتبيان أهم المراحل التي عرفها الفنّ التشكيلي التونسي بإبرازه لما سمّاه بـ"فنون الشارع " على غرار الغرافيتي والمعارض المفتوحة والجداريات...

بعد العرض لأهم المراحل التاريخية التي ساعدت على حياة تشكيلية تونسية نابضة بالحياة والتغيرات وحافلة بالنجاحات والمغامرات، يقدّم الكتاب من الصفحة 49 إلى الصفحة 470 ضمن تمشي ألفبائي تجربة 214 فنانًا ورسّامًا تونسيًا تم انتقاؤهم من مختلف الحقب الذكورة مع سيرة ذاتية مختصرة لكل واحد منهم ونموذج من أعماله الفنية التي اشتهر بها.

 أفرد هذا المصنّف حيزًا للحديث عن "مدرسة تونس" الشهيرة والظروف التاريخية لتأسيسها

إن كتاب "فنانو تونس" لإلزا ديسبيناي ورضا مومني، والذي تقترحه مؤسسة الأزعر للمبادرات الثقافية، يمكن اعتباره كاتالوغًا ضخمًا يحاول بقدر ما هو متوفّر من المعلومات أن يقدّم وجهة نظر كرونولوجية خاصة بالرسم والفنون التشكيلية التونسية خلال قرن ونصف مع إضاءات عن السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي حفّت بكلّ مرحلة، ليكون بذلك مرجعًا لا يختلف كثيرًا عمّا أنجز من قبل من قبل مثقفين أو جمعيات أو منظمات.

لكن الأسئلة التي يمكن أن تتأتى إلى الذّهن بعد الاطلاع على الكتاب هي: ما هي القاعدة العلمية التي على أساسها تم اختيار الـ214 فنانًا دون سواهم ولماذا أقصي آخرون كانت تجاربهم ثرية وقادرة على تمثيل بعض المراحل التي حددها الكتاب؟ ولماذا لم يتطرق الكاتبان إلى هيمنة السياسي بعد استقلال تونس على الحياة الثقافية عمومًا والتشكيلية على وجه الخصوص تحت عنوان تونسة الثقافة؟ ولماذا غيّب الكتاب صراعات الأروقة وصالات العرض في تونس؟ ومدى تأثير الفنانين النافذين على لجان الاقتناءات مما انعكس سلبًا على المجموعة التي تمتلكها الدولة؟

في اللحظة التي تتقاعس فيها الدولة عن حماية ذاكرتها الفنية والثقافية من النهب والإهمال ولمّ شتاتها ومتابعتها وأرشفتها وعرضها بطرق علمية وتوفير ظروف صيانتها، فإنّ كل بحث أو محاولة اشتغال على تلك الذاكرة يأتي منقوصًا وغير متماسك وهو ما لمسناه في هذا الكتاب وأقرّ به أصحاب مبادرة النشر من مقدمة كتاب "فنانو تونس" حيث الإفراط في إبراز الصعوبات التي اعترضت الكاتبان.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرحية " قصر السعادة " لنزار السعيدي.. رثائيّة مجتمع عليل

نبيل دغسان والمسرح.. عن تجربة فنية ووجودية