29-يونيو-2021

انفتح "نجا المهداوي" بالحرف على باقي الفنون الأخرى كالرقص والسينما والموسيقى (صفحة الفنان على فيسبوك)

 

تصدير: "نجا المهداوي اختار أن يتكئ على الحرف العربي وكان الخيار حكيمًا، طالما أن الحرف هو خط التّماس للكينونة والكلمة معًا..." (الدكتور عبد الوهاب بوحديبة)


في كل مرة ألتقي فيها "نجا المهداوي" وأمدّ يدي لمصافحته إلا وأشعر أن أصابع يديه لا تشبه أصابع البشر، إنها توليفة جسدية غريبة جمعت بين هشاشة براعم القرنفل وصلابة الرخام الأسيل، أصابع تلمع كأبنوسة أدارت خدّها لشمس الأصيل، فمن فرط قبضها على الدواة والفراشي وأدوات القصب وإصرارها على مداورة الحرف وعناده في إحدى المنعطفات ومثابرة عقله الوقّاد تجاه فنّه، تشكّلت أصابعه على نحو آخر، لقد تحولت إلى إلمامة من حروف، يدان تينع منهما حروف كما يينع التوليب أسفل السّفوح الممتدة متغلبًا على أحزانه الدفينة فيبهج ويطرب القلوب.

عاد نجا المهداوي بعد دراسته الأكاديمية بأوروبا باحثًا عن هويته الثقافية وسط الإرث الحضاري العربي الإسلامي والبربري.. فانشغل بالخط العربي وأسس لحروفية تونسية وعالمية جديدة

هذه الأصابع صنعت مجدًا تليدًا لرجل استبدت به الحروف وتلبست بروحه فحطم أساطيرها القديمة وطوّعها على غير نظم الشّعر والتّدبيج وتأثيث الورق بشتى المعاني بل حملها على صهوة قلبه إلى مجاهل غير معهودة، ونثرها كمزارع شجاع على أديم الفنون التشكيلية فصنع له استعارات جديدة ورؤى جديدة للحرف غيّرت وجه الثقافة التونسية إلى الأبد.

لم يكن "نجا المهداوي" ينتمي لمدارس الخط العربي أو خطاطًا منمّقًا للحرف، يحسن التقليد، أسيرًا لتقنيات الكتابة كما الخطّاطين القدامى الذين سيّجوا الحروف وأسروها في تقنيات تشبه القوانين التي لا محيد عنها، بل كان "حروفيًا" مأخوذًا بظلال الحروف العربية المسكونة بالحنايا والمنعرجات والسهول والوهاد والقباب والانفتاحات والشرفات، ومدهوشًا بمراوغات التنقيط وتائهًا في تجويفة حرف النون وصاعدًا إلى أعالي الألف ومنحنيات اللاّم ومتاهات الضّاد.

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

 سافر "نجا المهداوي" بداية ستينات القرن العشرين لدراسة الفنون الجميلة بأكاديمية الفنون بجامعة سانت أندريا بروما وتخرج منها سنة 1967 ثم تحوّل فيما بعد إلى باريس لتلقي تدريبات أكاديمية بالمدينة الدولية للفنون وذلك بموجب منحة من الدولة التونسية، لكنه سرعان ما عاد باحثًا عن هويته الثقافية وسط الإرث الحضاري العربي الإسلامي والبربري، وهو إرث تاريخي كبير وبلا ضفاف، بمداخل ومخارج عديدة ومزدحم بالأحداث، فما كان منه إلا أن اختار منها قبسًا وقرر أن يضيء به مجاهل لم يدركها أحد من قبله في تونس وفي الوطن العربي.. لقد كانت عوالم الحروف ومعمارها المدهش أفقًا فسيحًا مغريًا للشاب "نجا" الباحث عن ذاته وهويته الفنية وهو الذي قضّى طفولته في تفاصيل الحاضرة بزخرفها الاجتماعي والجمالي، فانشغل بالخط العربي وظل يرقب مداراته الجمالية وأسس لحروفية تونسية وعالمية جديدة واختارها منهج حياة، بل وحولها إلى شكل من أشكال الإقامة على الأرض.

تجاوز نجا المهداوي الحروفيين الإيرانيين وذهب بالحرف العربي بعيدًا فانفتح على باقي الفنون الأخرى كالرقص والسينما والموسيقى والمسرح والكوريغرافيا والنحت وتكنولوجيات التصميم..

لم يقف "نجا المهداوي" مدهوشًا أمام ما أنجزه الحروفيون الإيرانيون الذين سبقوه إلى فلسفة الحرف بل تجاوزهم وذهب بالحرف العربي بعيدًا، هناك إلى الأقاصي فأدخله مجرّبًا إلى طواحين الفنون التشكيلية والغرافيك وتقنياتها المتعددة، مغمّسًا إياه في الألوان، وألقى به بلا رحمة على بياض القماش، بطريقة نيتشوية صرفة، ومحطمًا كل التقنيات والنواميس التي أتاها الخطاطون الذين تمرسوا بالخط العربي لقرون، لم تكن تعنيه مدارس الخط وأنواع الخط ومنشأ الخط ورحلة التنقيط، بل كان مندهشًا أمام أسراره الجمالية. لقد استنبت أجنحة جديدة للحرف وضخ فيه دماءً ملونة وطار به محلقًا نحو شرفات الاستعارات، لقد حوله إلى شعر منظور يسرّ كل عين رأته.

قمر من الحروف.. واحدة من أعمال نجا المهداوي

"نجا" أناخ بالحرف في كل بساتين التشكيل وبحيرات الألوان واختبره في الصحو وفي المطر "ضمن تجارب شاملة" أكسبت الحرف "نبضًا جديدًا"، لقد كان بهلوانًا يحسن ملاعبة الحروف ويحسن ليّ أعناقها بأصابعه الأبنوسية فكان الحرف في مواجهة مواد مختلفة من قماش وورق البردي والخشب والأجساد البشرية والبلور والدجينز والحديد.. 

كما انفتح الفنان التشكيلي الحروفي "نجا المهداوي" على باقي الفنون الأخرى كالرقص والسينما والموسيقى والمسرح والكوريغرافيا والنحت وتكنولوجيات التصميم.. مستلهمًا منها جوهر إيقاعاتها الظاهرة والباطنة من أجل ترويض الحرف نحو جمالياته الجديدة التي تحمل المتلقي على الحلم والتفكير والتيه.

اقرأ/ي أيضًا: الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)

 وتبقى تجربة "الطبل التونسي" من أهم التجارب التي خاضها المهداوي طيلة مسيرته التشكيلية، إذ حاول الإيقاع به نحو ملاذات الحرف وشرائكه وتحويله إلى قناديل معلقة يكاد زيت الحرف منها يضيء، ومن ثمة سكب أغاني الفنان الشعبي الراحل إسماعيل الحطاب وجعلها تغمر المعرض.. لقد توخى خلال هذه التجربة كل عناصر الإثارة الفنية والجمالية.. وهو ما أبهر الجمهور البريطاني حين قدمت بلندن لأول مرة، وقد نوهت بها الصحافة المحلية واعتبرتها انجذاب الفنان نحو جذوره وأصالته وهويته الثقافية.

تجربة "الطبل التونسي" واحدة من أعمال نجا المهداوي

"نجا" صمم أعمالًا "أسطورية" بعدة دول، بكل من جامعة جدة حيث حوّل واجهة مسجد الجامعة إلى جدار بلوري خط عليه أمواجًا لامتناهية من الحروف التي يعكسها ضوء الشمس سجادًا من حروف داخل قاعة الصلاة.. كما أنجز أعمالًا لا نظير لها بشركة جوجل الأمريكية ولعدة شركات طيران ومؤسسات تجارية مرموقة ومحلات مجوهرات شهيرة أغراها الحرف العربي فجعلته عقودًا وخواتم وأساور للأميرات وسيدات المجتمع المخملي.

أما لوحاته وجدارياته فهي مقتناة ضمن مجموعات أهم المتاحف في العالم على غرار المتحف البريطاني ومتحف سنيثونيان في العاصمة الأمريكية واشنطن.

نجا المهداوي متحدثًا عن نفسه: في استخدامي للرسوم الغرافيكية للحروف العربية، أعمد إلى هدم القسوة من خلال الإيقاع بالقواعد والقوانين الأكاديمية لفن الخط وهي قيم لزمن آخر ونظام معرفي آخر

"المهداوي" يقول عن نفسه: "في أسلوب عملي واستخدامي للرسوم الغرافيكية للحروف العربية وبعيدًا عن بنية اللغة والتوليفات الهندسية للفعل وتعلم تركيب الجملة، أعمد إلى هدم القسوة من خلال الإيقاع بالقواعد والقوانين الأكاديمية لفن الخط وهي قيم لزمن آخر ونظام معرفي آخر..". وهو بذلك يجعلنا نفهم كنه ميثاقه ومدى التزامه مع اختياره الفني الهام، كما يبدو "نجا" وهو يوصّف أسلوبه، مستقبليًا ومسكونًا بالحرية، فهو قد حرّر الحرف وأخرجه من سباته لقرون، وأزاح عنه سواده ودفع به إلى مدارات اللون، ومنحه منصة في مدارس الفنون الجميلة.. "لقد كوّن من الحرف حروفية".

"نجا" يعدّ الفنان التشكيلي التونسي الوحيد الذي صنع له مدونة خاصة به، بناها حجرًا حجرًا على امتداد ستة عقود من الزمن.. وهو بذلك يعتبر أحد المثقفين التونسيين المجدّدين الذين طبعوا التاريخ الثقافي إلى الأبد.   

نجا المهداوي أمام إحدى لوحاته (صفحة الفنان على فيسبوك)

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم

"الماتر" الحبيب بوعبانة... فرشاة على حدة