تصدير: "رحم الله أبا هريرة.. لقد كان أعظم من الحياة.. "
(من رواية حدّث أبو هريرة قال للأديب محمود المسعدي)
مع بداية الألفيّة كنت في زيارة لفضاء "كان" ببوفيشة بالساحل التونسي، أجلس في البهو الرئيسي لهذا الفضاء الثقافي الاستثنائي الساحر لصاحبه المعماري صلاح السماوي، بعد أن أنهيت تأمل قصيدة محمد الصغير أولاد أحمد "أحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد، صباحًا، مساءً، وقبل الصباح، وبعد المساء ويوم الأحد..." مكتوبة بخط يده وبإمضائه، ومؤطرة بعناية ومعلقة كنيشان في صدر الجدار.
وضعتني الصدفة قبالة لوحة رسم تزين أحد جدارن البهو، هي من الحجم الكبير لكنها سريعة الجذب لعين القلب، ضاجّة بالحركة ومربكة للحواس إلى حد بعيد وقد سميّتها حينها "رقصة الأوتار" لأنها تصور مشهدًا جزئيًا من عرض لفرقة السمفونية. أدركت من خطوطها السريعة وجرأة ألوانها أنها لـ"الماتر" الحبيب بوعبانة. كان المكان هادئًا وصامتًا. اقتربت أكثر من اللوحة ذات الخلفية السوداء حيث هتك هذا الرّسام سطوة القماشة بأحمر قاني وأبيض ناصع. وضعت أصابعي على أوتار آلة الكونترباص المرسومة على لوحة بوعبانة فامتلأ الكون موسيقى. إنها سوناتا من ألوان فخمة، وأجزم أنني لم أرَ من قبل مسحة فرشاة بتلك البساطة وذاك العمق وذاك الإحساس العالي بالضوء المنسكب على الحركة. هذا هو "الماتر" الحبيب بوعبانة شبيه لوحاته.
"الحبيب بوعبانة" من الرسامين التونسيين القلائل الذين يشبهون أعمالهم إلى حد بعيد، فرشاته حبلى دائمًا بالضوء وعتو الألوان وعفوية الأطفال والعواطف الإنسانية الخالدة. إنها خلطة عجيبة يبدو أنها دفعت باللوحة التونسية إلى مدارات جديدة لم تعهدها من قبل
نعم، "الحبيب بوعبانة" من الرسامين التونسيين القلائل الذين يشبهون أعمالهم إلى حد بعيد، فرشاته حبلى دائمًا بالضوء وعتو الألوان وعفوية الأطفال والعواطف الإنسانية الخالدة. إنها خلطة عجيبة يبدو أنها دفعت باللوحة التونسية إلى مدارات جديدة لم تعهدها من قبل.
فرشاة بوعبانة لا تتكلّف البلاغة التقنية والأكاديمية والدقة الركيكة بقدر التصاقها بخوالجه وعمقه ومزاجه وإحساسه الإنساني العالي بالأشياء والكائنات. ففعل الرسم لدى بوعبانة بسيط كالعشب لكنه آسر وعميق. لقد كنت أتمثل خفقة يده على القماشة، إنها "ضربة معلّم" لا تتطلب قيافة أو مراجعة فيما بعد وهو ما يجعله من القلائل الذين يتقنون ذلك.
بوعبانة درس بمدرسة الفنون الجميلة بتونس بداية من سنة 1954 وهي في أوج عطائها ونضجها وإشعاعها وتميزها، وكان من أساتذته الكبار آنذاك والذين تأثر بهم وبأعمالهم: "هنري سعادة" والفنان "عبد العزيز القرجي" سيد الخزف والحديد...
لكن، في لحظة جنون استبدت به ترك بوعبانة كل شيء في "البوزار" وانساق وراء فرشاته وتيهه، فانشغل في البداية بالفعل الثقافي فكتب للمسرح وألف الأشعار ونشر بالصحف والمجلات... كما جذبته أنوار باريس في بداية السبعينات وهي الفترة التي عمّقت تأملاته بحثًا عن هويته التشكيلية لينشد إلى عالم الرسام الفرنسي هنري ماتيس حتى عده النقاد ماتيسيًا في أعماله التي تلت الفترة الباريسية، لكنه سرعان ما عاد إلى تونس فأقام معرضه الشخصي الأول سنة 1977 بقاعة يحيى التركي... لكن تبقى فترة الثمانينات هي الفترة الأخصب بالنسبة لبوعبانة حيث قدم ثلاثة معارض شخصية خلال سنة 1983 بقاعة إرتسام وسنة 1985 برواق التصوير وسنة 1988 برواق وشيم ... فضلًا عن المعارض الجماعية العديدة.
اقرأ/ي أيضًا: رسم مائة شخصية في تاريخ تونس.. مشروع وطني بريشة شباب مبدع
عاش بوعبانة طيلة حياته الصاخبة ممسكًا بريشة عصفور كناية عن تعلقه بالحرية المطلقة، لقد كان "منشقًّا" عن كل شيء، عن أشكال السلطة وعن المؤسسات الثقافية والاجتماعية وعن الأخلاق بمعانيها الساذجة... لقد كان كائنًا حرًّا بكل معاني الشعر والفن والأدب والحياة، لم يكن "الماتر" يومًا ابن النظام السياسي الحاكم رغم تدريسه لسنوات بمعهد مدينة قفصة بالجنوب التونسي، فرغم منحه سنة 1988 "الجائزة الوطنية التقديرية للفنون التشكيلية" و"الجائزة الكبرى لمدينة تونس" سنة 1994، لم تجذبه أضواء السلطة والمركز بل ظل وفيًا للهامش، وفيًا لصدقه ولمبادئه. لقد كان نقيض السياسة وشقيق الناس البسطاء الذين خلّدهم في أعماله، لم يهادن السلطة يومًا ولم يصدق معسول كلامهم بل كان "فلّاقًا" برتبة رسام شاعر.
عاش بوعبانة طيلة حياته الصاخبة ممسكًا بريشة عصفور كناية عن تعلقه بالحرية المطلقة، لقد كان "منشقًّا" عن كل شيء، عن أشكال السلطة وعن المؤسسات الثقافية والاجتماعية وعن الأخلاق بمعانيها الساذجة
الحبيب بوعبانة كان يقيم إقامة دائمة وأبدية على أديم الفنّ، فهو برفّة فرشاة وحيدة يستطيع أن يحول كل شيء إلى جغرافيا من ألوان طفولية بسيطة لذلك تأتي أعماله شاسعة الرؤى ومترعة بالحقيقة النابعة لتوها من أحاسيسه الفياضة الصافية.
كانت طفولته بالمدينة العتيقة بالعاصمة في أربعينات القرن العشرين معينه ومرجعه والفضاء الرئيسي الذي يمتحي منه كل شيء لحظة يهمّ بالقماشة: الوجوه غير واضحة الملامح ومنشطرة أحيانًا لأن الأزقة الملتوية بالمدينة لا تمنح أحدًا فرصة التثبت في الوجوه والأشياء، ففي كل التواءة قد تصادف حدثًا أو شخصية أو انكسارة ضوء على شرفة أو عرّيشة ياسمين تلقي بظلالها على الزقاق، علمته المدينة "فلسفة غير المتوقع" فنجد كلّ ذاك السحر مبثوثًا في أعماله بأصداء مختلفة عن البعد الطوبوغرافي للمدينة العتيقة. فتبدو عتمة المدينة مضيئة في لوحاته، ويتحول المارة إلى أطياف والصخف إلى علامات...وهكذا ينتزع الدلالة المرجعية التي رتعت فيها طفولته ويحمّلها دلالات جديدة منها ما هو طوباوي ومنها ما هو شقي في إشارة إلى الواقع بكل راهنيته.
الحبيب بوعبانة، من شدّة حيرته وقلقه الوجودي، خيّر الهامش على المركز فذهب إلى القاع الاجتماعي مقيمًا فيه باختياره متمرّدًا رافضًا، فكان ليليًّا متصعلكًا بالمعنى الوجودي للكلمة يخالط أبناء الليل والمسحوقين والغرباء بكل أنواعهم عبر بارات المدينة وحاناتها وهو ما انعكس على أعماله، فتأتي الوجوه التي يرسمها متوحشة ومتشضية ومبتورة وبأجساد محطمة ومنهكة وبنظرات منكسرة حزينة... إنها سخرية الفرشاة من الواقع الاجتماعي ومن الوجود.
بوعبانة توفي يوم 23 مارس 2003 تاركًا فراغًا جماليًا لم يملأه أحد من بعده، لقد كان "الماتر" فنانًا حرًّا بألوان وخطوط وهواجس تتقن رتق آلام وانكسارات وأحلام التونسيين، فقط بفرشاة من ذهب
"الماتر" وفي اللحظة التي غلبته فيها سنين العمر وبعد أن راكم التجربة الفنية والثقافية الاستثنائية وطرح الأسئلة الفكرية التي أراد طرحها عبر كتاباته المسرحية وأعمدته الصحفية وتحول فيها إلى ثروة وطنية تتطلب الحماية والصون.. حصل في الأثناء خذلان ما للرجل الفنان حتى أنّ نصيبًا وافرًا من أعماله الفنية والتي تعدّ بالعشرات بيعت عبر المسالك العشوائية وأصبحت على ملكيّة أناس لا علاقة لهم بالفن التشكيلي.
وعندما أرادت وزارة الشؤون الثقافية إنجاز معرض استعادي تُكرّم من خلاله هذه الفرشاة الاستثنائية لم تجد الأعمال الكافية، كما رفض أصحاب اللوحات إعارتها للدولة وهو نفس ما حصل مع زوجته السويدية وابنته عندما أرادتا بمعية جمعية الصداقة التونسية السّويدية تكريم بوعبانة بعد وفاته عبر معرض إستعادي بمدينة ستوكهولم يروي مسيرته الفنية ويقدم رسوماته الباذخة...
كان رسّامنا يعشق "الاكريليك" حتى عُدّ لدى النقاد والوسط التشكيلي بـ"الفنان الاكريليكي". لقد كانت هذه المادة اللونية هي الأقرب إلى هواه وأصابعه. فهي مادته المفضلة للكتابة البصرية والجمالية، ووسيلته التي بها يجسم سيميائيًا كل حاجياته الفكرية والحسية المبذولة على اللوحة من أجل متلقى ذكي...
بوعبانة توفي يوم 23 مارس/آذار 2003 متأثرًا بحوادث عديدة وصدمات نفسية متتالية عاشها الراحل نتيجة الضيم والإحساس بالخذلان من محيطه وجسده، تاركًا فراغًا جماليًا لم يملأه أحد من بعده، لقد كان "الماتر" فنانًا حرًّا بألوان وخطوط وهواجس تتقن رتق آلام وانكسارات وأحلام التونسيين.. فقط بفرشاة من ذهب.
الحبيب بوعبانة فرشاة تونسية على حِدة...
اقرأ/ي أيضًا: