بثت معظم القنوات التلفزيونية، مؤخرًا، مناظرة جمعت نوابًا في برنامج تقوم فكرته على مساءلتهم عن الوعود الانتخابية التي قدموها (أو قدمتها أحزابهم) بعد 99 يوم من العمل البرلماني، وهذه المناظرة التلفزيونية هي الرابعة من نوعها بعد مناظرتيْ الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبرنامج الذي خصص لحوار رئيس الجمهورية قيس سعيّد لسؤاله عن 99 يومًا من المباشرة في منصب رئاسة الجمهورية. وتم الترويج لهذه المناظرات التلفزيونية على أنها ابتكار في المشهد السياسي وفي الاتصال السياسي في الانتخابات تجسيدًا لروح الديمقراطية والتنافس السلمي على السلطة.
تبقى فكرة المساءلة التي يقوم عليها برنامج المناظرة محدودة فهي مجددة في الشكل أكثر مما هي مبتكرة في المضمون، إذ يكتفي الصحفي بإدارة الحوار دون أن يكون له دورًا فاعلًا في عملية المساءلة
اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية 2019.. انتخابات بلا نقاش ودون أفكار؟
ولاشك أن فكرة البرنامج جيّدة في المطلق لأنها تكرّس مبدأ مساءلة النواب على الوعود التي يقدمونها للناخبين خاصة أن عزوف التونسيين عن الانتخابات مرتبط بقناعتهم أن السياسيين يعدون ولا يوفون بوعودهم، وأنهم "سفسطائيون" يجيدون فنون الكلام والبلاغة (والكذب أيضًا) للحصول على أصوات الناخبين ثم التنكر لها، وفق تقديرهم.
لكن تبقى فكرة المساءلة التي يقوم عليها برنامج "المناظرة" محدودة، فهي مجددة في الشكل أكثر مما هي مبتكرة في المضمون، بل يمكن القول إنها تكرّس على نحو ما النموذج أو البراديغم (paradigme) السائد الذي يفكّر داخله الصحفيون وأدوارهم في الديمقراطية التونسية الناشئة. قام هذا البرنامج (أو النموذج) على أن الصحفي وسيط بين المؤسسات من جهة وبين الناس والمجتمع والجمهور من جهة أخرى، ينقل ما يصله من معلومات ومعطيات يحوّلها إلى أخبار، إذ يكتفي الصحفي في هذا البرنامج بإدارة الحوار دون أن يكون له دورًا فاعلًا في عملية المساءلة نفسها.
تم الترويج للمناظرات التلفزيونية على أنها ابتكار في الاتصال السياسي في الانتخابات (أ.ف.ب)
لا شك أن المتعمق في المضامين التي تنتجها الصحافة التونسية يلاحظ هيمنة هذا الدور (النقل والوصل والتبليغ) على حساب أدوار أخرى من أهمّها دور الرقابة الذي يتجسّد في صحافة الاستقصاء، لكن أيضًا في صحافة التحري. فالمتمتعّن في برنامج المناظرة، على أهميته كما قلنا، لا يرى تحريّات أو تحقيقات يقوم به الصحفيون للتأكّد بأنفسهم وفق منهجية موضوعية ونزيهة وصارمة من أن الوعود التي قدّمها النواب للناخبين تم تحقيقها بشكل كامل أو جزئي أو لم يتم تحقيقها أصلًا.
ويظل البرنامج في النهاية يكرّر الآلية ذاتها المعتادة: سياسيون يتحدثون إلى الرأي العام بواسطة الصحفيين، والمناظرة من هذا المنظور هي مشهد يظهر فيه السياسيون يتنافسون في ما بينهم أمام مواطنين يشاهدون. ثم إن مساءلة النواب على الوعود التي قدموها للمواطنين دون تحري في هذه الوعود من الصحفيين أنفسهم تفترض أننا (والصحفيين كذلك) نثق في إجابات السياسيين وكأنهم صادقون بالقدر الكافي الذي يسمح لهم بالاعتراف بأنهم قصّروا في تحقيق الوعود التي أطلقوها.
إن الهاجس الذي تبادر إلى ذهني وأنا أشاهد المناظرة التي أرى فيها ما يتعلق بالتحوّلات الطارئة على الصحافة التونسية والنماذج التي تقوم عليها وفي الفلسفة التي تستند إليها، يتعلق بضرورة الانتباه لدور الصحفي في المجتمع أو المؤسسات. إذ لا شك أن الدور الأساسي الذي قامت به الصحافة منذ خمسين سنة هو دور الوسيط (أو حلقة الوسط) بين المؤسسات والمجتمع الذي يتجسد في أشكال دنيا بالخصوص في شكل صحافة ناقلة تكتفي بإعادة نشر التصريحات، وهو هذا الدور الوحيد الممكن في الأنظمة السلطوية التي تحتاج الصحافة كحلقة وصل بينها وبين الناس.
لقد تشكّل هذا الدور في سياق كانت فيه الصحافة والميديا الآليات الوحيدة التي يمكن أن يستخدمها السياسيون للاتصال بالناس وبالمواطنين مما أعطاها، أي الصحافة، أهمية بالغة تفسّر إستراتيجيات السيطرة عليها. وتراجع هذا الدور مع ظهور الأنترنت ثم الميديا الرقمية لأن السياسيين بشكل خاصّ والمؤسّسات بشكل عام تملّكت أدوات جديدة كمواقع الأنترنت ثم منصات الميديا الاجتماعية للتواصل مباشرة مع الجمهور، لكن لا يزال الاعتقاد سائدًا في المهنة بأن وظيفة النقل هذه هي الوظيفة الطبيعية للصحافة، ولهذا فلا غرابة أن نرى بعض التقارير الصحفية تكتفي بهذه الوظيفة البسيطة أحيانًا.
بلاغات صحفية في شكل مقالات
في هذا الإطار بالذات، استرعى انتباهي في الأيام الماضية خبرًا بدا لي وكأنه يجسّد هيمنة هذه الوظيفة، ويقول الخبر إن "منظمة الصحة العالمية تعتبر أن تجربة تونس في التوقي من فيروس كورونا نموذجية". ولكن المتمعن في الخبر يكتشف ببساطة أن الشهادة التي نقلتها المواقع الإخبارية هي في الحقيقة ما نقلته وزيرة الصحة التونسية نفسها عن مسؤولين لمنظمة الصحة العالمية حتى أننا لا نرى في التقرير مصدرًا واحدًا من هذه المنظمة يؤكد هذه الشهادة.
لا شك أن المتعمق في المضامين التي تنتجها الصحافة التونسية يلاحظ هيمنة دور النقل والتبليغ على حساب أدوار أخرى من أهمّها دور الرقابة الذي يتجسّد في صحافة الاستقصاء، لكن أيضًا في صحافة التحري
وبمعنى آخر، نجحت مصلحة الاتصال أو العلاقات مع الصحافة (أو الملحق الصحفي) في تحويل بيان أو بلاغ صحفي إلى خبر استعادته المواقع الإخبارية دون التحري أو التأكد من أصالة التصريح والحال أن المواثيق الأخلاقية تؤكد على أن الصحفي لا ينقل إلاّ المعلومات التي تأكد منها بنفسه. فلا ريب أن قارئ عنوان الخبر سيعتبر أن منظمة الصحّة العالمية قدمت شهادة نجاح لوزارة الصحة وهذا بطبيعة الحال يعزز من سمعة الوزيرة ويكرس صورتها كوزيرة ناجحة في سياق يتنافس فيه الجميع على مناصب الوزارات.
اقرأ/ي أيضًا: هل تونس هي مخبر الصحافة في العالم العربي؟
والواقع أنه كان الأحسن على الأقل في غياب الامكانيات للصحفيين (الوسيط) أن يُكتفي بنقل شهادة مسؤولي منظمة الصحة العالمية على لسان الوزارة نفسها حتى لا تتحوّل الصحافة إلى آلية في منظومة اتصال الوزيرة و الوزارة. وبهذا المعنى، ظلت الصحافة رهينة ممارسة قديمة تشكلت منذ خمسين سنة على الأقل.
"البراديغم القديم" أو صحافة لم تتغير
يجسّد هذا المثال إشكالية الصحافة التونسية ومعوقات التحول الداخلي المتصلة باستمرار "البراديغم" الصحفي القديم. وقد يثير مصطلح البراديغم (paradigme) لدى من يجهله التعجّب، فالمفهوم يبدو غريبًا على الصحافة خاصة وأنه يستخدم في مجال الإبستمولوجيا والعلوم الاجتماعية للحديث عن النماذج العلمية التي يفكر بواسطتها وفي داخلها الباحثون. لكن مفهوم "البراديغم الصحفي" مفهوم رائج في الأدبيات النظرية العالمية يستخدمه الباحثون لفهم الممارسات الصحفية السائدة والقواعد المهنية والمبادئ التي استبطنها الصحفيون والتي تنظم ممارسة مهنتهم بشكل مدرك أو غير ومدرك.
فقواعد المهنة الصحفية والتصوّرات التي يحملها الصحفيون عن مهنتهم بهذا المعنى ليست أبدية بل تتحول، وهي عندما تتحول تتغير مهنة الصحافة. وبمعنى آخر، عندما تتغير الطرق والأدوات والمبادئ التي يمارس على وقعها الصحفيون مهنتهم تنشأ صحافة جديدة، وحتى تتغير الصحافة لا بد من محاولات يقوم بها الصحفيون لإرساء هذه الصحافة الجديدة ونشر نماذجها المبتكرة. وهذه العملية ليست سهلة وتحتاج إلى وقت طويل، وهذا ما يفسّر الصعوبات المتصلة بتجديد الصحافة التونسية وإعادة إنتاج النماذج القديمة القائمة على فكرة أن الصحافة حلقة وصل تقوم بدور التبليغ والنقل.
يبدو جليًا أن الصحافة التونسية لم تنجز بعد الثورة التي تنتظرها والتي ستسمح لها بإعادة ابتكار نفسها من جديد بإنجازها لأدوار جديدة كمؤسسة من مؤسسات الديمقراطية
يبدو جليًا أن الصحافة التونسية لم تنجز بعد الثورة التي تنتظرها والتي ستسمح لها بإعادة ابتكار نفسها من جديد بإنجازها لأدوار جديدة كمؤسسة من مؤسسات الديمقراطية. فالحريات التي يتحدث عنها الجميع باعتبارها المكسب الأساسي للانتقال الديمقراطي يبدو أن المستفيدين الأساسيين منها في مجال الصحافة هم من يطلق عليهم "الكرونيكور" أو ما شابههم الذين يظهرون كل يوم في الإذاعات والتلفزيونات يتكلمون بكل حرية أي بلا ضوابط مهنية، ينتقدون السياسيين (أو بعضهم بالأحرى) وفق مصالحهم الذاتية أحيانًا أو يجرّحون فيهم إذا اقتضت مصالح المؤسسة التي يعملون فيها.
أما الغالبية العظمى للصحفيين، لا يبدو أنهم جنوا حقيقة ثمار الحريات الجديدة لأنهم في أغلب الحالات لا يزالون يؤدون الدور ذاته وهو دور حلقة الوصل بين المؤسسات والجمهور، وهو الدور الذي يؤديه الصحفيون منذ الاستقلال. ولا شك أن أوضاع الصحفيين لن تتغير ما لم تتغير الأدوار التي يقومون بها بالتخلي عن النقل والتبليغ وخدمة إستراتيجيات السياسيين الاتصالية دون وعي منهم في أحيان كثير لتأمين أدوار أخرى جديدة تقوم على الاستقصاء والتحقيق. ويمكن القول كذلك إن الثورة التي تنتظر الصحافة هي ثورة الأدوار والانتقال من صحافة النقل إلى صحافة الرقابة على السلطة السياسية التي تتجسد اليوم في دورين أساسيين هما الاستقصاء من جهة أولى والتحري من جهة ثانية.
أما الاستقصاء فيجعل الصحفي كاشفًا لعوالم السلطة الخفية ولممارسات الفساد لأصحاب النفوذ ومجسدًا لحقّ الجمهور والرأي في معرفة المؤسسات من الداخل وضامنًا لمقتضى الشفافية التي تقوم عليها المؤسسات الديمقراطية. وأما دور التحري، فهو لا يقل أهمية عن الاستقصاء لأنه يسمح للصحفي بأن يتحوّل من ناقل لتصريحات السياسيين وغيرهم من قادة الجمعيات والهيئات النقابية إلى أمين على حق الجمهور في الحقيقة وضامن لحق الجمهور في أصالة المعطيات والمعلومات والأرقام والإحصائيات التي تتضمنها هذه التصريحات حتى لا تصبح مغالطات يستخدمها السياسيون للترويج لصورتهم وإستراتيجيتهم الاتصالية التي تستعمل الصحفيين لتبليغها إلى الجمهور.
نماذج من تقارير لوسائل إعلام أمريكية تحريًا في خطاب الأمة لدونالد ترامب
ثمة "ثورة" أو لنقل "انقلاب" بدأ في الصحافة العالمية منذ منتصف العشرية الماضية يجسّده تنامي وظيفة التحرّي التي يمكن أن نعطي مثالًا جيدًا عنها حتى لا يبقى حديثنا نظريًا محضًا. فككلّ رؤساء الولايات المتحدة منذ نهاية القرن الثامن عشر، يلقي رونالد ترامب منذ صعوده خطابًا إلى الأمة الأمريكية يتحدث فيها عن سياساته وعمّا أنجزه من برامجه، لكن توقفت الصحافة الأمريكية منذ سنوات عن إعادة تبليغ الأمريكيين بما قاله الرئيس في خطابه أو الاكتفاء بتحليل معانيه. إذ تعالج الصحافة الأمريكية خطاب الرئيس السنوي بإخضاعه إلى عملية تحري صارمة في كل المعطيات التي يقدمها الرئيس عن سياساته ولا تتردد في تكذيبه عندما يقدم معطيات غير صحيحة أو في تأكيد ما يقوله نسبيًا أو كليًا. وهكذا تحول دور الصحافة من النقل إلى أمين على أصالة المعلومات والمعطيات التي يحتاجها المواطن ليفكر بنفسه دون وصاية في الأحداث.
اقرأ/ي أيضًا:
ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - الحوار مع الجمهور (3/1)
ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - مجلس الصحافة (3/2)
ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - سطوة "الكرونيكور" (3/3)