مع انتهاء الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها وانطلاق الحملات للانتخابات التشريعية، يبقى هاجس السياسيين الأكبر هو نسب الإقبال على مراكز الاقتراع والتي اعتبرها عديد الخبراء "محتشمة" وهو ما يشكل ناقوس إنذار للأحزاب المشاركة في الانتخابات التشريعية.
وعدم بلوغ نسبة الإقبال على التصويت حتى نصف عدد الناخبين المسجلين يرتبط، بالنسبة لغالبية كبيرة من التونسيين، بعدم مصداقية الخطابات السياسية المتداولة واعتقاد بعدم أهميّة الرئاسية مقابل التشريعية أو البلديّة. ويمكن اعتبار نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2019 انعكاسًا للرأي العام التونسي الذي يتسم بعدم الرضا عن أوضاع البلاد.
أسامة الخريجي (باحث في علم الاجتماع): يُمكن تفسير التغيب أولًا من خلال البعد النفسي والذي تلعب فيه المصلحة الذاتية للناخب دورًا هامًا
اقرأ/ي أيضًا: التصويت الأبيض في الانتخابات الرئاسية.. رقم لافت في مشهد ضبابي
بعد عملية الحشد الكبيرة للتسجيل للانتخابات والتي كانت نتائجها إيجابية، حيث ارتفع عدد المسجلين إلى 7 ملايين و74 ألف و566 ناخب مقارنة بالانتخابات السابقة في 2014 والتي بلغ فيها العدد 5 ملايين و236 ألف ناخب حسب ما يظهره الرسم البياني عدد1، بلغت نسبة المشاركة في التصويت في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، 48.98 في المائة.
وتشكّل هذه النسبة تراجعًا كبيرًا مقارنة مع الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2014 والتي بلغت 64 في المائة مثلما يوضّحه الرسم البياني عدد 2. وقد أكّد ملاحظون أنّ ضعف الإقبال هذا كان بشكل خاص لدى الشباب، حيث بلغت نسبة مشاركتهم في التصويت 27,8 في المائة.
الرسم البياني عدد 1
الرسم البياني عدد 2
ماهي أسباب العزوف؟
ويُعتبر العزوف عن الانتخاب أو لنقل التغيب عن أداء واجب الانتخاب من أهم معوقات العملية السياسية الديموقراطية، ويُمكن تفسير ذلك العزوف في بعديه النفسي والاجتماعي، والبعدان يعكسان حالة من النفور وانعدام الثقة في المسار السياسي المتبع من النخبة السياسية.
وفي هذا السياق، يبيّن الباحث في علم الاجتماع أسامة الخريجي أنّ هذه الظاهرة لا تقتصر على تونس فقط وإنما تنسحب على معظم البلدان ومنها الأكثر عراقة في الديموقراطية واكتسبت شعوبها تقاليد في الممارسة السياسية الحرة ويكون الانتخاب الوسيلة إلى ذلك، على حدّ قوله.
عن البعد النفسي
ويؤكّد الخريجي لـ"ألترا تونس" أنه يُمكن تفسير التغيب أولًا من خلال البعد النفسي والذي تلعب فيه المصلحة الذاتية للناخب دورًا هامًا فيكون الإقبال على الانتخاب أو العزوف عنه مرتبطًا بما سيتحقق له شخصيًا من منافع وهذا طبيعي ومفهوم لأن الممارسة السياسية في المجتمع التونسي ومنذ الاستقلال وحتى جانفي/ كانون الثاني 2011 كانت مبنية على هذا الأساس أو ما يُعبر عنه بالزبونية السياسية (clientélisme politique) أي الولاء السياسي مقابل المصلحة والمنفعة الشخصية، حسب تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: لقاء حصري مع "رضا لينين" وسنية الشربطي.. من يقف وراء حملة قيس سعيّد؟
ويضيف "يمكن في هذا البعد تفسير التغيب عن الانتخاب بعدم ثقة الناخب في جدوى تصويته أو أن صوته لن يكون ذو تأثير أو أن النتائج محسومة مُسبقًا وهنا تلعب عملية سبر الآراء والتي تكون عبارة على عملية توجيه للناخبين والتأثير على اختياراتهم دورًا في تكريس الاعتقاد أن النتائج ستكون محصورة في أسماء بعينها مما يُعطي الانطباع أن الأمور حُسمت".
أسامة الخريجي لـ"ألترا تونس": الخطاب الذي ساد قبل الانتخابات أو بعده والذي تم التركيز فيها على مفهوم "السيستام" (النظام) يؤكد هذا الغضب من المنظومة الحاكمة
عن البعد الاجتماعي
أما في ما يتعلق بالبعد الاجتماعي، يفسّر الخريجي العزوف بحالة القلق الاجتماعي المتنامي في المجتمع التونسي والذي يمس كل الشرائح والفئات وإحساس المواطنين أنهم تعرضوا لعملية خداع من النخبة السياسية الحاكمة وأن أصواتهم في الانتخابات الماضية لم تقدر على تغيير الواقع المتردي فيكون النفور من الانتخاب نوعًا من الاحتجاج الصامت على المسار السياسي وبمثابة رسالة تحذير للفاعلين على الساحة مفادها عدم الرضا.
ويعتبر محدّثنا أنّ الخطاب الذي ساد قبل الانتخابات أو بعده والذي تم التركيز فيها على مفهوم "السيستام" (النظام) يؤكد هذا الغضب من المنظومة الحاكمة التي خيبت آمال الناخبين ولم تف بالوعود والالتزامات التي قطعتها لجمهور الناخبين.
ويقول الباحث في علم الاجتماع "هناك مُعطى آخر وإن كان في نظر البعض بسيطًا إلّا أنه كان مُؤثرًا حسب اعتقادي وهو المناظرات التلفزية المباشرة بين المترشحين للسباق الرئاسي والتي أظهرت صورة عكس تلك التي كان يرسمها الناخب لمرشحه المفضل. ولعل حملة السخرية والتهكم التي طالت أغلبية المترشحين وتقديمهم بتلك الصورة الكاريكاتورية جعلت منهم في نظر أغلبية الناخبين غير جديرين بمنصب رئيس الجمهورية الذي يتمتع برمزية كبيرة في ذهنية التونسي حتى وإن تم الحديث على محدودية صلاحيات هذا المنصب في دستور 2014".
ويردف أسامة الخريجي حديثه قائلًا إنّ رئيس الجمهورية ما يزال في التمثل الاجتماعي التونسي ذلك الشخص القوي والقادر على الانتقال بالواقع المعيش من حال إلى حالة أفضل مبينًا أن أي صورة تُظهر العكس فإنها ستُجابه بالرفض والعقاب والذي تجلى أولًا في التغيب عن التصويت وثانيًا في نتائج هذا التصويت الذي أتى بمترشحين مثّلا مفاجأة للكثيرين.
ويؤكد أنّ وُصول مترشحين من خارج السيستام كما يُروج لهما ربما يُحسن من نسب المشاركة أولًا في الانتخابات التشريعية وأيضًا في الدور الثاني من الرئاسية وذلك لأن الناخب ستتعزز عنده القناعة أن صوته قادر على إحداث الفارق.
في ضرورة إيجاد حلول لمعضلة العزوف الانتخابي
وتبقى مسألة عزوف الناخبين مسألة تطرح عديد التساؤلات وتسيل الكثير من الحبر لدى المهتمين بالشأن العام عامة والأحزاب والشخصيات السياسية خاصة والتي تسعى إلى استقطاب جماهير جديدة وراءها خصوصًا من فئة الشباب الذي أثبت قدرته على صنع التغيير.
وتتمحور أسباب الامتناع حول ثلاث جوانب أساسية وهي الشعور بعدم كفاءة السياسيين وانعدام الحس المدني والاهتمام بالسياسة بالإضافة إلى عدم الاقتناع بفاعلية التصويت، لذلك من الضروري طرح هذه المواضيع على طاولة النقاشات وتحليلها بمزيد من التفصيل.
ويجب البحث عن الطرق التي تجعل فئة الشباب أكثر اهتمامًا بالسياسة وتعزيز الحس المدني لدى هذه الفئة، وأهم ما يمكن رصده خاصّة على منصات التواصل الاجتماعي أنّ الجميع يبحث عن ضخّ دم جديد، قادة جدد وبرامج متجدّدة من شأنها أن تنعش الاهتمام بالسياسة خاصّة بعد تأكّد خيبة غالبية الشعب ممن يتصدّرون المشهد السياسي.
اقرأ/ي أيضًا:
بذات الوعود ونفس الوجوه.. الأحزاب تصارع من أجل حظوظها في التشريعيات
الدور الأول لرئاسية 2019: ثورة ناعمة تهز كيان المنظومة السياسية القائمة