عشنا مؤخرًا على وقع المناظرات التلفزيونية الانتخابية للمترشحين للانتخابات الرئاسية، التي حازت على اهتمام التونسيين وأعطت للحملة الانتخابية نكهة خاصة. لكن هل يجب أن نقيّم المناظرات الآن أم علينا أن ننتظر حتّى تتوفر لنا أكثر معطيات (نتائج الانتخابات مثلًا أو دراسات أخرى تقيّم التغطية الإخبارية للانتخابات) حتى يكون هذا التقييم صارمًا وموضوعيًا ونزيهًا لهذه المناظرات لما لها من أهمية وتأثيرات ممكنة على نوايا التصويت وعلى نتائج الاقتراع، وقد يكون ذلك عند إعلان النتائج يوم 15 سبتمبر/أيلول لنرى ما إذا كانت المناظرات قد ساهمت في نجاح الفائز؟ ثم هل يمكن أن ننطلق من المناظرات لتقييم المسار الانتخابي من جهة مكانة النقاش العام لما له من أهمية في الحياة الديمقراطية بشكل عام وفي تنوير جمهور الناخبين بشكل خاص؟
اقرأ/ي أيضًا: المناظرات الرئاسيّة.. عن الأفكار والبرامج في السباق التونسي
هل خدمت المناظرة التلفزيونية الديمقراطية؟
لكن وإذا كان لا بدّ من التقييم الآن فما هي المعايير التي يجب أن نعتمدها لتقييم هذه المناظرات بطريقة نزيهة ومنصفة؟ لنبدأ أولًا ببيان فوائدها لتعزيز المسار الانتقال الديمقراطي بشكل عام، إن المناظرات أولًا مشهدًا. وهذا المشهد يعبّر عن التنوعّ المجتمع التونسي الفكري والأيديولوجي والسياسي وعن تعدّد الأصوات الذي يميز الديمقراطية التونسية. يتحدّث المشاركون في المناظرة بطرق مختلفة بالعربية الفصحى وباللّهجة الدارجة ويستخدم بعضهم اللّغة الفرنسية أحيانًا. هكذا تجسّد المناظرة لا فقط التنوّع ولكنها تقرّ هذا التنوع كواقع ينظر إليه الجميع ويسلم به حتى من ينكرونه.
تحوّل المناظرة الانتخابات إلى شأن من الشؤون التي يخوض فيها المواطنون في سياقاتهم اليومية وتحررهم من اهتماماتهم الذاتية والأنانية وتدعوهم إلى التفكير في الشؤون العامة
والمناظرات بما أنها أيضًا مشهد، فهي تجسّد التنافس السلمي على السلطة واستبعاد كل أنواع الإكراهات الأخرى مثل العنف أساسًا. صحيح إن بعض المترشحين يمكن أن يستخدموا خارج مشهد المناظرة أساليب ماكرة للحصول على هذه السلطة لكن المناظرات في ذاتها هي تجسيد لهذا النمط الجديد من إدارة المجال السياسي عبر أساليب جديدة وخاصة منها المواجهات الرمزية. وعلى هذا النحو، فإن المناظرة تقر لناظريها بوجود هذا المجال السياسي المفتوح للتنافس.
كما تجسّد المناظرات أيضًا فكرة المساواة التي هي قيمة أساسية من قيم الديمقراطية، فالمناظرة تضع جميع المترشحين على قدم المساواة: رئيس الحكومة يوسف الشاهد والمحامي سيف الدين مخلوف مثلًا. وصحيح أن ثلاثة مترشحين تمتعوا بحق اختيار يوم ظهورهم، ولكن لا يفسد هذا التمييز بشكل جوهري مبدأ المساواة وتجسيدها العملي في مشهد المتناظرين، فالرئيس الجديد الذي سيفوز بثقة الشعب وقف في كل الأحوال كبقية المترشحين الآخرين أمام الكاميرا للحديث إلى التونسيين.
كما ساهمت المناظرة في تعزيز انخراط المواطنين في المجال السياسي، صحيح أنهم لا يشاركون مباشرة فيها لكنهم ينخرطون من باب تقييم المتنافسين الذين يتوّجهون إليهم ويسعون إلى الحصول على رضاهم بل إن المناظرة تحول الانتخابات إلى شأن من الشؤون التي يخوض فيها المواطنون في سياقاتهم اليومية وتحررهم من اهتماماتهم الذاتية والأنانية وتدعوهم إلى التفكير في الشؤون العامة.
هل ساعدت المناظرات الناخبين على اتخاذ القرار المستنير؟
السؤال الأساسي الذي يجب أن نطرحه الآن بعد أن تناولنا فوائد المناظرات بشكل عام بالنسبة إلى مسار الانتقال الديمقراطي هو الآتي: هل ساعدت المناظرات التلفزيونية الانتخابية الناخب على اتخاذ القرار المستنير، بما أنه هدفها الأساسي والذي يجب أن نقيّمها أساسًا على ضوءه؟ وحتى نجيب عن هذا السؤال، يجب أن نعود أوّلًا إلى المعايير التي يستخدمها الناخب الناظر إلى المناظرة الانتخابية لتقييم الرئيس ثم نرى بعد ذلك إن كانت المناظرات قد ساعدته على تكوين رأي مستنير أم لا؟
نظريًا، يحتاج الناخب كي يختار المترشح الجيد إلى نوعين من المعايير: أوّلًا يحتاج إلى أن يتعرّف على برنامج المترشح والمسائل الأساسية التي يطرحها ومضامينها (مثلًا هل يطرح مسألة الوكالة الوطنية للاستخبارات وما هو موقفها منها)، أما المعيار الثاني فيتعلق بتقييم شخصية المترشح أو ما يطلق عليه سقراط في فن الخطابة أو "Rhétorique" عبر "الأيتوس" (Ethos) إضافة إلى اللوغوس أي الخطاب والباتوس (pathos) أي العلاقة العاطفية الممكنة بين المخاطب وجمهور.
أولًا: في تقييم البرامج ووعود المترشحين بشكل خاص وخطابهم بشكل هام
يعتمد كما قلنا الناخب على الوعود التي يقدمها المترشح وعلى برامجه ومقترحاته فيما يتعلّق بصلاحيات الرئيس وقضايا الشأن العام والشأن الوطني بشكل عام وهي قضايا عديدة على غرار إصلاح منظومة الدفاع الوطني والدبلوماسية الاقتصادية وإصلاح منظومة الحكم ووضع منظومة استخبارات وطنية وعودة الإرهابيين والعلاقات مع النظام في سوريا وأيضًا العلاقات مع الإتحاد الأوروبي.
في هذا الإطار، إن طريقة تنظيم المناظرات وطرح الأسئلة أو بتعبير آخر عدم طرح القضية الواحدة (وليس بالضرورة نفس السؤال)، كان العائق الأساسي أمام إمكانية تقييم المترشحين ومواقفهم لمختلفة من قضايا بعينها.
لم نرى طرحًا لأمهات القضايا مما جعل من العسير بالنسبة إلى جمهور الناخبين تبيان مضمون الإجابات ومقارنتها بعضها ببعض والتعرف على أهمّيتها إضافة إلى محدودية الوقت المخصص للإجابات
وبتعبير آخر، فقد كان من مصلحة الناخب أن يتعرف في إطار المناظرة على مواقف المترشحين من أهم ثلاثة أو أربع قضايا مشتركة تهم صلاحياته كرئيس: كيف ينظر مثلًا إلى الدبلوماسية الاقتصادية؟ ما هي نظرته لمسألة الأمن الوطني؟ ماهي رؤيته لمكافحة الإرهاب وتصوره للعلاقات مع الإتحاد الأوروبي؟ هكذا لم نرى طرحًا لأمهات القضايا مما جعل من العسير بالنسبة إلى جمهور الناخبين تبيان مضمون الإجابات ومقارنتها بعضها ببعض والتعرف على أهمّيتها إضافة إلى محدودية الوقت المخصص للإجابات.
اقرأ/ي أيضًا: مترشحون للرئاسيات بوعود خارج الصلاحيات.. استغفال للناخبين أم ماذا؟
ومن مساوئ المناظرات الأخرى أيضًا أنها سوّت بين كل المسائل مهما كانت اختلافها وأهميتها وكأنها تحتاج كلها إلى المدة الزمنية ذاتها. هكذا تحوّلت المناظرة إلى مشهد استعراضي يتداول فيه المترشحون على إلقاء كلمات في مواضيع مختلفة لا علاقة لبعضها ببعض.
ويمكن أن نتيّن محدودية مساعدة المناظرة للناخبين على التعرف على مضامين المترشحين لاتخاذ القرار إذا أضفنا إلى ذلك أن عديد القضايا المطروجة لا يملك عنها الجمهور خلفية جيدة. فهل يمكن للمشاهدين أن يفهموا مثلًا مواقف المترشحين من قضية "الأليكا" مثلًا؟ هل يفهم عموم التونسيون ما هي "الآليكا" وقضاياها ونتائجها على الاقتصاد التونسي ومواقف مختلف المترشحين حتى يتمكنوا من تقييم المواقف منها؟ و"الأأليكا" ليست القضية الوحيدة التي لا تتوفر حولها معلومات للناخبين حتى يتخذوا منها موقفًا مستنيرًا، إذ ثمة قضايا أخرى عديدة كالوكالة الوطنية للاستخبارات أو الدبلوماسية الاقتصادية أو العلاقات مع الإتحاد الأوروبي لا تتوفر فيها معارف تمثل خلفية يمكن للناخبين أن يفهموا بفضلها رهانات القضايا المطروحة.
فالتغطية الصحفية بشكل عام لا توفر مثل هذه المضامين إلى الناخبين بل تكتفي في أغلب الأحيان إما بالحوارات مع المترشحين أو بتغطية أنشطته الانتخابية في إطار الحملات، حتى أن بعض القنوات الأخرى تضيف إلى هذا فضاءات حوارية يتحرّر فيها المعلقون أو "الكرونيكورات".
ثانيًا: هل ساعدت المناظرة الناخبين على تقييم المترشحين وقدرتهم على تحمّل منصب الرئاسة؟
أما المعيار الثاني الذي يمكن أن يستخدمه الناخب، يتعلق شخصية المترشح أو ما يمسّى "Ethos" أي أسلوبه في التواصل والإقناع والتعامل مع الآخرين ما يميزه عنهم وخصاله التي تؤهله أو تجعل منه رئيسًا مؤتمنًا على البلاد.
من مساوئ المناظرات الأخرى أيضًا أنها سوّت بين كل المسائل مهما كانت اختلافها وأهميتها وكأنها تحتاج كلها إلى المدة الزمنية ذاتها
لكن لماذا يحتاج الناخب إلى تقييم المترشح على ضوء هذا المعيار؟ لأن الديمقراطية التونسية هي بكل بساطة ديمقراطية تمثيلية، والناخبون ينتخبون من يمثلهم لإدارة السلطة التنفيذية أو للتشريع (الانتخابات التشريعية). فالمناظرة نظريًا يمكن أن تخبر الناخب عدم قدرة المترشح على الإقناع عبر الصورة التي يعطيها عن نفسه ومدى التزامع بقواعد منصب الرئاسة على غرار كيف يستمع إلى حجج الآخرين وكيف يرد عليها؟ هل هو الرجل والمرأة المناسبة للمكان المناسب؟ فهل هو قادر على إدارة مشاعره؟ هل يرتبك عندما تطرح عليه أسئلة مزعجة؟ هل لديه قدرة على الإقناع خاصة وأن النظام الديمقراطي يقتضي أن يشارك الرئيس في النقاش العام؟ هل هو قادر أن يعبر عن أفكاره بوضوح؟ هل يحترم خصومه وكيف يتعامل مع منافسيه؟
فتقييم شخصية المترشح يتجاوز فقط مسألة تقييم قدرته على الاتصال، إذ أن غياب هذا التفاعل لم يسمح للناخب بتقييم شخصية المترشحين. وفي المحصلة العامة، فإن المناظرة التي اعتمدت طريقة إجابات المترشحين الفردية على أسئلة مختلفة لا تتيح للناخبين تقييم خطاب المترشحين وشخصياتهم بل إنها تحولت إلى مشهد يستعرض فيها المترشحون بعض الأفكار حول بعض القضايا.
ثالثًا: في غياب نقاش الأفكار
إن المدخل الثالث الذي يمكن أن نستخدمه لتقييم المناظرات يتعلق بمسألة النقاش العام السياسي ونقاش الأفكار لأن الانتخابات فرصة جيدة لإرساء هذا النقاش وتعزيزه. إن الميديا والصحافة يمثلان المجال الأفضل لتنظيم هذا النقاش حول قضايا أساسية تتعلق بمجال صلاحيات الرئيس على غرار الدفاع الوطني والأمن القومي والسياسة الخارجية والإرهاب، فهل ساهمت المناظرات في إرساء هذا النقاش؟
ثمة عدة صيغ عديدة للنقاش: نقاش الأفكار ونقاش الآراء (le débat d’idées) والنقاش العام (débat public) والمداولة (délibération) وإن لكل نوع من هذه الصياغة غاية مخصوصة، فالمداولة مثلًا غايتها المثلى تتمثل في التوافق على قاعدة يقبلها الجميع وهي من هذا المنظور أرقى صيغ النقاش لانها تسعى إلى إرساء التوافق بين المشاركين فيها.
غاب عن الانتخابات الرئاسية لعام 2019 نقاش الأفكار والآراء والبرامج وتحوّل الرهان بالنسبة إلى الناخبين إلى التفضيل بين أشخاص تحت تأثير إستراتجيات الدعاية
إن المتمعّن في تغطية الميديا والصحافة التونسية للانتخابات الرئاسية يلاحظ بكل وضوح غياب هذا النقاش السياسي أو لنقل محدوديته، فالمناظرة كما تم تصميمها ليست نقاشًا وهي ليست آلية من آليات النقاش الديمقراطي لأنها كانت فضاءًا استعرض فيه المترشّحون البعض من برامجهم حتى تكاد أن تكون آلية من آليات التسويق السياسي والاتصال الانتخابي.
إن النقاش الديمقراطي يفترض أولًا وقبل كل شيء التفاعل بين المترشّحين الذين يتبادلون الأفكار حول موضوع ما، يقدم كل واحد منهم الحجج والحجج المضادة، ويستمع جمهور الناخبين إلى هذه الحجج والحجج المضادة وإلى التفاعل حتى يتمكن من أن يكوّن لنفسه رأيًا مستنيرًا.
ويمكن أيضًا أن نتصور نوعًا ثان من النقاش بين المترشّح والمواطنين حول عدد من القضايا يتبادل فيها الجميع الأفكار والأدوار، يمكن أن يطرح المواطنون المشاركون أسئلة على المترشّح الذي يمكن بدوره أن يطرح عليهم أسئلة أخرى لاستجلاء آراءهم. ويمكن أن نتصوّر أيضًا نوعًا ثالثًا من النقاش بين خبراء ومتخصصين وممثلين وأكاديميين من المجتمع المدني حول أمهات القضايا حتى لا نبقى سجناء لرؤى المترشحين فقط.
وهكذا لم تشهد هذه الانتخابات أي نوع من هذه النقاشات الأساسية كما كان الحال في الانتخابات الماضية التي اتسمت بغياب النقاش الانتخابي أمام الجدالات (Polémique) بين متنافسين كانوا يسعون إلى نزع الشرعية عن بعضهم البعض باسم الحرية والديمقراطية والثورة والهوية. لقد كانت الميديا إما حلبة سياسية تخاصم فيها المترشحان وأنصارهما أو مجرد أداة ناقلة لأحداث الحملة الانتخابية، أما الانتخابات الحالية فإنها وإن لم تعرف جدالات عنيفة فإنها شهدت استخدامًا لبعض أنواع الدعاية الماكرة والداعية المضادة الفجة.
لقد كانت الانتخابات الرئاسية عام 2014 بسبب الاستقطاب السياسي مسرحًا لجدالات بين قطبين حاول كل واحد منهما نزع الشرعية عن الآخر، أما الانتخابات الرئاسية لعام 2019 فقد غاب عنها أيضًا نقاش الأفكار والآراء والبرامج وتحوّل الرهان بالنسبة إلى الناخبين إلى التفضيل بين أشخاص تحت تأثير إستراتجيات الدعاية.
اقرأ/ي أيضًا:
هل تمثّل الانتخابات الرئاسيّة خطرًا على المسار الديمقراطي التونسي؟