25-أكتوبر-2019

في ضرورة إرساء آليات حوار بين مؤسسات الميديا والجمهور (تيري موناس/Getty)

 

أفرزت انتخابات 2019 في تونس مشهدًا سياسيًا جديدًا اتّسم بصعود أحزاب جديدة وتنامي الشعبوية السياسية، كما شهدنا نقاشًا وأحداثًا متّصلة بأداء بعض القنوات التلفزيونية أثناء الانتخابات (بالخصوص قنوات "نسمة" و"الحوار التونسي" و"الزيتونة" و"التاسعة" وإذاعة "القرآن الكريم"). كما شهدنا تنامي نقد أداء ما يسمّى "الكرونيكورات" بل معاينة حملات إدانة عنيفة ضدهم تحوّلت أحيانًا إلى تهديدات بالقتل مما دفع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى التعبير عن مخاوفها حول مستقبل حرية التعبير والصحافة.

نسعى في هذه السلسلة من المقالات لمعالجة بعض المسائل التي يطرحها السياق الراهن على الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019

في هذا الإطار، نسعى في هذه السلسلة من المقالات لمعالجة بعض المسائل التي يطرحها السياق الراهن على الصحافة التونسية (الإذاعية والتلفزيونية والمكتوبة والإلكترونية) بعد انتخابات 2019. فهذه الانتخابات تمثّل منعرجًا أساسيًا في مسار الانتقال الديمقراطي وحدثًا ذا تداعيات حاسمة على الحياة السياسية. وسنتناول في هذه السلسلة ثلاث مسائل أساسية وهي:  الحوار مع الجمهور (الحلقة الأولى)، ومسألة مساءلة الصحفيين وإشكاليات إرساء محكمة شرف أو مجلس الصحافة (الحلقة الثانية)، ومكانة "الكرونيكور" في الصحافة السياسية (الحلقة الثالثة). 

والحقيقة أن التفكير الرصين في هذه المسائل في السياق الحالي يبقى محفوفًا بمخاطر لا حصر لها بسبب  تنامي مشاعر الغضب وحتى الحقد من بعض القنوات على غرار "الحوار التونسي" المتّهمة بأنها  تنشر خطاب "كراهية خطير" يمكن أن "يهدّد السلم الاجتماعي" من جهة أولى وبسبب تنامي الشعور بالخوف من أن تتحوّل هذه الحملات إلى ممارسات مناهضة لحرية الفكر والتعبير من جهة ثانية.

اقرأ/ي أيضًا: في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا

في ضمور النقاش المهني حول أدوار الصحافة

إن ما يستحق التفكير في هذا السياق بادئ ذي بدء هو تفاعل المهنة مع نتائج الانتخابات، فالواضح إلى الآن أن المهنة لم تنخرط بعد في نقاش مهني داخلي صريح ومباشر ونزيه حول مسؤوليتها في ظواهر عديدة صاحبت الانتقال الديمقراطي على غرار العزوف عن الشأن السياسي وعن الأحزاب وتنامي الأسلوب الشعبوي في الحياة السياسية والتصويت العقابي.

لم تنخرط مهنة الصحافة في نقاش مهني داخلي صريح ومباشر ونزيه حول مسؤوليتها في ظواهر عديدة صاحبت الانتقال الديمقراطي على غرار العزوف عن الشأن السياسي

فنادرًا ما نرى ندوات أو ملتقيات أو ورشات داخل المؤسّسات وخارجها في الأوساط المهنية يفكّر فيها الصحفيون في مهنتهم باستثناء حالات بعينها على غرار النقاش الذي عرفته المهنة حول أدوراها إزاء ظاهرة الإرهاب.

وقد يكون ضمور هذا النقاش المهني حول الصحافة نتيجة أيضًا لضمور آليات مساءلة الصحفيين، والمقصود بالمساءلة ليس مقاضاة الصحفيين أمام القضاء ولكن جملة الآليات التي تضعها المهنة ومؤسّسات الميديا التي تسمح بتقييم العمل الصحفي من طرف الجمهور على قاعدة المعايير التي وضعتها المهنة لنفسها في مواثيقها الأخلاقية (ميثاق شرف النقابة الوطنية للصحفيين) وفي مواثيقها التحريرية (أي تلك التي تضعها المؤسّسات).   

كما أن المهنة قد لا ترغب دائمًا في المساءلة لا فقط بسبب ضمور ثقافة المساءلة بل بسبب أيضًا توجّس مشروع أحيانًا من أن تتحوّل هذه المساءلة إلى تدخل الجمهور في الممارسة الصحفية خاصّة وأن ثقافة الحرية لم تترسخ بعد في المجتمع التونسي بالقدر الذي تصبح فيه حرية الصحافة مطلًبا مواطنيًا قبل أن تكون حقًا من حقوق الصحفيين.

لماذا يغضب الجمهور من الصحافة ويحقد عليها؟

إن بيئة الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي، التي لا تساعد على احترام استقلالية الصحفيين، لا تزال تساهم رغم تراجعها نسبيًا في انتشار مشاعر الخوف من الأخر بل والحقد عليه أحيانًا ورفض كل ما يمكن أن يصدم الحقائق التي يتغذى منها قطاعات من التونسيين.

وليس غضب قطاعات معينة من التونسيين على الميديا والصحافة استثناءً تونسيًا، فقد ارتبطت، في كثير من البلدان، بيئة الاستقطاب السياسي وظواهر التصويت العقابي والأسلوب الشعبوي في ممارسة السياسة ومناهضة منظومات النخب السياسية التقليدية بتنامي الغضب من الصحافة بل والحقد عليها أحيانًا بل تزايدت مظاهر رفضها.

ويقود دونالد ترامب منذ صعوده إلى الرئاسة الأمريكية حملات مستمرة تكاد تكون يوميًا لا تتوقف ضد الصحافة الأمريكية التي يعتبرها مصدرًا أساسيًا من مصادر الأخبار الكاذبة التي تروج ضده واعتبرها "عدو الشعب". يقوم ترامب بتغذية هذا العداء ويتهم الميديا الأمريكية بأنها تنشر ثقافة الكراهية حتى أن صحفيين أمريكيين اشتكوا من تصرفات عدائية يتعرضون لها عند تغطية الاجتماعات الشعبية لترامب.

 

سيدة تحمل لافتة مكتوب عليها "الإعلام هو عدو الشعب"

 

وفي فرنسا، صاحبت احتجاجات السترات الصفراء أيضًا أشكالًا من الغضب على الصحافة والصحفيين بل أيضا أعمالًا من العنف اللفظي والجسدي ضدهم عند تغطية الاحتجاجات وفي منصّات الميديا الاجتماعية، حتى أضحى الحديث في الأوساط المهنية الصحفية عن طلاق بين هذه الحركة الاجتماعية والصحفيين. (انظر هنا مقال رئيس نقابة الصحفيين الفرنسيين).

ويعتبر الغاضبون على الصحافة والحاقدون على الصحفيين في هذه السياقات المختلفة أن الصحافة هي جزء من المنظومة التي يريدون معاقبتها أو التي "لفظها الشعب". ويتّهمون الصحافة عادة بأنها لا تنقل بأمانة الوقائع أو الاحتجاجات أو تعمد إلى تشويهها ويعتبرون الصحفيين خدمًا لمصالح المؤسّسات التي يعملون بها.

في أهمية حوار الصحافة مع الجمهور

في هذه السياقات، أطلقت منظمة "مراسلون بلا حدود" ومؤسّسات ميديا فرنسية مبادرة  "كيف يمكن للميديا أن تساهم في تحسين المجتمع" وهي مبادرة فريدة من نوعها تمثّلت في استشارة واسعة (من جوان/يونيو إلى سبتمبر/أيلول 2019) شملت أكثر من 100 ألف فرنسي ساهموا بأكثر من 1500 مقترحًا لتطوير علاقة الصحافة والميديا بالمجتمع. وقامت هذه الاستشارة الواسعة على أن أزمة الثقة في الصحافة تقتضي إعطاء الكلمة للجمهور حتى يعبر عن انتظاراته.   

هكذا يمثّل الحوار مع الجمهور أحد أهمّ الآليات التي تضعها الصحافة والميديا لبناء علاقة ثقة بينها وبين الجمهور، فعلاقة الثقة أساسية بالنسبة للصحافة ولا يمكن أن تزدهر دونها لأنها الضمانة الأولى والأساسية لبقاء المؤسسة واستمرارها. فكلّ ما تنتجه الصحافة موجّه للجمهور الذي يضمن الموارد الاقتصادية بواسطة الإشهار لمؤسسة الميديا بما يعزز استقلاليتها.

يمثّل الحوار مع الجمهور أحد أهمّ الآليات التي تضعها الصحافة لبناء علاقة ثقة بينها وبين الجمهور، فعلاقة الثقة أساسية بالنسبة للصحافة ولا يمكن أن تزدهر دونها لأنها الضمانة الأولى لبقاء المؤسسة واستمرارها

اقرأ/ي أيضًا: هل للصحافة الاستقصائية مستقبل في تونس؟

كما لا يمكن للصحافة أن تقوم بأدوارها دون ثقة الجمهور خاصّة تلك المتّصلة بالرقابة على السلطة السياسية وبالأخبار. فكيف للجمهور أن يقبل بأخبار من مصادر لا يثق فيها ولا تتوفر فيها صفات الاستقلالية والمصداقية؟ وكيف يمكن للصحفي أن يتحرّى ويحقّق ويستقصي يساءل السلطة السياسية إن كان الجمهور لا يثق فيه؟ فعندما تنقطع الميديا والصحافة وتتوقف عن تحقيق واجباتها المتصلة بحق الجمهور في الحقيقة تصبح الصحافة رهينة القوي السياسية والاقتصادية.

إن السؤال عن ثقة الجمهور في الصحافة يبدو من المسائل غير المفكّر فيها أو من "التابوات" المهنية في السياق التونسي، إذ لا نرى هذا المشغل في ما يقوله الصحفيون عن مهنتهم مما يفسّر نقص المؤشرات عن هذه الثقة.

في هذا الإطار، يتّخذ استطلاع الرأي الذي أنجزته جمعية "برّ الأمان" في سبتمبر/أيلول 2018 وموضوعه "إلى أي مدى يثق التونسيون في الإعلام"  أهمية قصوى،  فهو من أهمّ المؤشرات المتاحة عن علاقة التونسيين لأنه صادر عن مؤسسة مستقلة إضافة إلى نتائج ذات دلالة عميقة عن تراجع الثقة في الميديا.إذ بحسب هذا الاستطلاع، فإن أغلبية التونسيين ثقتها إما منعدمة أو محدودة في الصحافة التونسية.

 

استطلاع للرأي أعدته جمعية "بر الأمان" يوضح ضعف ثقة التونسيين في وسائل الإعلام

 

 في تراجع مكانة الصحافة في المجتمع

ولعل الأحداث التي عشناها في الأيام الماضية والمواقف المتباينة حولها وما تثيره من مخاوف في المهنة على وجه الخصوص، تحيلنا أيضًا إلى مفارقة طريفة لأن هذا الاهتمام بالصحافة يأتي في سياق تراجع مكانتها في المجتمع. فالصحافة المكتوبة أو المطبوعة تراجعت مبيعاتها بشكل واضح وأعرض القراء عنها.

يمكن أن نقول إن دور الصحافة في التنشئة السياسية قد تراجع بشكل كبير لدى فئات الشباب وبمعنى آخر، تراجع دور الوساطة التي تقوم بها الصحافة بين المجال السياسي والمواطنين

أما البرامج الإخبارية المحضة التي توفّر المواد الإخبارية (على غرار الريبورتاجات والتحقيقات والحوارات وكل المضامين الأخرى الميدانية) فهي نادرة. كما تقلص عدد نشرات الأخبار ذات المواصفات المهنية المعلومة. ومن المؤشّرات الدالة على تراجع مكانة الصحافة تناقص عدد الصحفيين في مؤسّسات الميديا بشكل عام ومحدودية الطواقم الصحفية بل إن الصحفيين هم الفئة الأكثر تعرّضًا للطرد عندما تسوء الأمور الاقتصادية في مؤسسة ما.  

ويتجسد أيضًا تراجع مكانة الصحافة المكتوبة في انقطاع قطاعات متعاظمة من الشباب عن الصحافة الإخبارية (المكتوبة والإذاعية والتلفزية) فالشباب كما تدل على ذلك بعض الدراسات والمؤشرات (استطلاع رأي "هل يثق التونسيون في الإعلام"، جمعية بر الأمان) لا يقبل على الصحافة المكتوبة ولا يتابع البرامج الإخبارية  في القنوات الإذاعية والتلفزية ليس بسبب طبيعة هذه البرامج فقط، التي عادة ما تهتم بالسياسة بشكل سياسوي بحت أي من منظور صراعات السياسيين على السلطة، بل لأن الميديا الاجتماعية وفيسبوك تحديدًا أصبحت المجال الأساسي الذي يتابعون فيه الأحداث الاجتماعية  والسياسية. ومن هذا المنظور أيضًا، يمكن أن نقول إن دور الصحافة في التنشئة السياسية قد تراجع بشكل كبير لدى فئات الشباب وبمعنى آخر، تراجع دور الوساطة التي تقوم بها الصحافة بين المجال السياسي والمواطنين بماهي فضاء يتعرض فيه الناس للأحداث والأفكار السياسية وللنقاش السياسي.

نقد الصحافة حق من حقوق الجمهور

قد لا يستسيغ بعض الصحفيين مبدأ نقد الجمهور للصحافة (وليس التحريض عليها) وهم مخطئون في ذلك. فقد ثمّنت أهمّ المواثيق الأخلاقية في العالم هذا الحقّ، إذ نقرأ في الميثاق الأخلاقي لجمعية الصحفيين المهنيين الأمريكية أن "الصحفي يناصر الحوار الفكري المنفتح والمدني وتبادل وجهات النظر مهما كان تقييمه لها" وأنه على الصحفي أن "يقبل بالمسائلة وأن يكون شفافًا"، كما يلتزم "ببيان مبادئه الأخلاقية وعمله إلى الجمهور"، و أن "يقبل بالانفتاح على الجمهور حول الممارسات الصحفية والتغطية الإخبارية والمضامين الإخبارية"، وأن "يجيب بسرعة عن تساؤلات الجمهور المتصلة بالدقة والوضع والإنصاف"، وأن "يعترف بأخطائه ويصلحها بسرعة وبالشكل المناسب".

 

جزء من الميثاق الأخلاقي لجمعية الصحفيين المهنيين الأمريكية

 

وترسّخت في الميديا العالمية معايير مخصوصة للحوار مع الجمهور وأولياته لعل أهمّها وظيفة الوسيط (Médiateur/Ombudamn)، وانتشرت هذه الوظيفة في كل مؤسّسات الميديا في الدول الديمقراطية، والوسيط وظيفة يؤمّنها صحفي متمرس صاحب خبرة طويلة في المهنة.  يتلقى شكاوى الجمهور وملاحظاته حول مختلف البرامج والمضامين التي تنتجها المؤسسة وينقلها إلى الطواقم الصحفي وكل صانغي المضامين ويحقق فيها ثم يبلغ الجمهور بنتائج تحقيقاته ويتابع ردود فعل الصحفيين عليها.

 كما أنه يقوم بتفسير عمل المؤسّسة للجمهور ويوفر له كل المعلومات والمعطيات حول الخيارات التحريرية للمؤسسة خاصة عند تغطية الأحداث الكبرى. ويعبّر الوسيط عن حق الجمهور في الإطلاع على عملية صناعة الأخبار ويقدم للجمهور معلومات وإيضاحات عما يريد أن يستفسر عنها. كما يعزّز معرفة الصحفيين بإنتظارات الجمهور. ويمكن أن يسدي ملاحظات حول جودة الأخبار ومطابقتها للمعايير الأخلاقية والمهنية.

والوسيط ليس رقيبًا على الصحفيين أو رئيس تحرير من نوع خاص بل هو الأمين على القيم الصحفية الأخلاقية والمهنية بطريقة بعدية والتي تكون مضمنة في الميثاق التحريري الذي يضعه الصحفيون لأنفسهم للالتزام به ولمسائلتهم من طرف الجمهور على قاعدته. 

وأحدثت جلّ مؤسسات الميديا الخاصة والعمومية في العالم هذه الآلية ويتمتع الوسيط فيها بآليات تواصلية بينه وبين الجمهور على غرار صفحات فيسبوك وأرقام الهاتف والبريد الإلكتروني. 

ضمور الحوار مع الجمهور في الصحافة التونسية 

أما في تونس، فقد تأخر إحداث مجلس الصحافة الذي يمثل الآلية الأساسية من آليات مساءلة الصحافة في الديمقراطيات. لقد نصّت كراسات الشروط التي وضعتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على أن كل قناة إذاعية وتلفزية خاصّة تتحصل على ترخيص تقوم بوضع ميثاق تحريري يتضمن المبادئ الأخلاقية والمهنية الخاصة بالمؤسسة إضافة إلى إحداث وظيفة الوسيط، لكن المؤسّسات الخاصة التي التزمت بهذه الشروط نادرة جدًا. إذ أن المؤسسات التي وضعت ميثاقًا تحريريًا يتضمن المبادئ الأخلاقية و المعايير المهنية التي تلتزم بها المؤسسة قليلة جدًا (التلفزة الوطنية والإذاعة الوطنية ووكالة تونس إفريقيا للأنباء وإذاعة "الديوان أف أم" و"شمس أف أم" و"موزاييك أف أم").

عدد المؤسسات الإعلامية التونسية التي وضعت ميثاقًا تحريريًا يتضمن المبادئ الأخلاقية والمعايير المهنية التي تلتزم بها المؤسسة قليل جدًا

اقرأ/ي أيضًا: هل التلفزة التونسية مرفق عمومي حقًا؟

أما وظيفة الوسيط فهي لا تزال نادرة جدًا، فالتلفزة الوطنية أرست هذه الآلية منذ مدة، كما أحدثت إذاعة "الديوان أف أم" ميثاقًا وأحدثت برنامجًا شهريًا لتلقي ملاحظات المستمعين. أما التجربة الأكثر تقدمًا فهي إذاعة "موزاييك" التي تعتبر المؤسسة الوحيدة التي وضعت منظومة  وساطة متكاملة:  ميثاق تحريري ووظيفة الوسيط الذي يقدم برنامجًا خاصًا كل يوم جمعة يعرض فيه تقريرًا لمستمعي الإذاعة عن الملاحظات والشكاوى التي تقدم بها المستمعون.

لا تتوقف آليات الحوار مع الجمهور على الوسيط بل ابتكرت مؤسّسات الميديا آليات أخرى، فالتلفزيون الفرنسي العمومي، على سبيل المثال، أرسى المجلس الاستشاري الخاص للبرامج الذي يجمع ثلاثين مشاهدًا يتم اختيارهم وفق قواعد مخصوصة لإبداء رأيهم في برامج التلفزيون العمومي وإبداء رأيهم في مسائل أخرى تتعلق بالتلفزيون العمومي. ومن الآليات الأخرى للحوار مع الجمهور هي الزيارات للمؤسّسات الإعلامية حتى أن بعض المؤسسات فتحت أبواب غرف الأخبار للجمهور للنقاش معه بخصوص قضايا تتعلق بالأحداث الراهنة.       

ما الذي يفسّر ضمور ثقافة الحوار مع الجمهور؟

يبدو، إذًا، من الواضح أن  ثقافة الانفتاح على الجمهور محدودة جدًا، ولا معنى للمطالبة بإرساء آليات الحوار مع الجمهور إذا لم نفهم ما يعطّلها. فتاريخيًا، كانت الصحافة خاضعة إلى السلطة السياسية وكانت تبحث عن شرعيتها من استقامتها السياسية ورضاء السلطة عليها وذلك بالتزامها بالمحددات التي وضعتها السلطة. وعلى هذا النحو، لم يكن يمثل الجمهور عنصرًا فاعلًا في العملية الصحفية.

 لا يبدو أن السنوات الثماني الفاصلة بين سقوط النظام القديم والسياق الديمقراطي الجديد قد أحدثت تغييرًا حاسمًا في تمثلات الصحافة والميديا لعلاقتها بالجمهور

في المقابل، لا يبدو أن السنوات الثماني الفاصلة بين سقوط النظام القديم والسياق الديمقراطي الجديد قد أحدثت تغييرًا حاسمًا في تمثلات الصحافة والميديا لعلاقتها بالجمهور. لقد اُرسيت في السنوات الأخيرة أطر قانونية جديدة، كما تمتعت المهنة ببرامج تأهيل وتكوين وضعتها العديد من منظمات الميديا العالمية (بما في ذلك مجال الأخلاقيات) وتوفر لها حريات لا باس بها لابتكار ممارسات جديدة كما ظهر فاعلون جدد بل وجيل جديد من الصحفيين. لكن كل ذلك لم يكن كافيًا لابتكار أشكال جديدة من الحوار مع الجمهور، بل يمكن القول إن العلاقة بالجمهور لا تزال تخضع إلى الثقافة الصحفية القديمة.

وتقوم هذه الثقافة الصحفية القديمة على علاقة عمودية بين الصحفيين والجمهور، فالصحفيون يتمثلون أنفسهم "قادة رأي" و"صناع رأي عام" أو كمعلّمين للتونسيين ينتجون لهم الأفكار ويؤولون لهم العالم والحياة السياسية والعالم الاجتماعي الذي يعيشون فيه. فكيف يمكن لصحافة تقوم على تبجيل الآراء على حساب صحافة السعي إلى الحقيقة بالتفسير والتحري والتحقيق والاستقصاء أن تستمتع إلى الجمهور التي تنظر إليه باعتباره قاصرًا ينتظر من فئة ما أن تقود عقله نحو الحقيقة بوساطة التعليق اليومي على الأحداث؟    

لماذا تأخّرت المؤسّسات في إرساء آليات الحوار مع الجمهور؟

لا يرتبط ضمور آليات الحوار فقط بالصحفيين الذين هم في النهاية ليسوا سوى أجراء في مؤسّسات لم تلتزم جلّها بمقتضيات كراسات الشروط التي وضعتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري الخاصة بالحوار مع الجمهور أي آلية الوسيط والميثاق التحرير.

وتعمل المؤسسات الإذاعية والتلفزية الخاصة، رغم أن أغلبها ظهر بعد الثورة، وفق الثقافة القديمة التي لا تقرّ بحق الجمهور في النقد والمساءلة. وقد يكون إعراضها عن آليات الحوار والمساءلة مع الجمهور استبطان مؤسّسيها لهذه الثقافة القديمة، إضافة إلى أن هذه الآليات تبدو  لهذه المؤسسات تدخلًا في شؤونها الداخلية أو ذات تكلفة لا تقدر عليها أحيانًا (بالنسبة لوظيفة الوسيط). ويمكن تفسير هذا الإعراض أيضًا بالجهل بمعايير الميديا الديمقراطية خاصة وأن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري لم تطلق مبادرات ذات شأن للتعريف بآليات الحوار مع الجمهور. 

الخلاصة: ما الذي يتوجّب فعله لإرساء الحوار مع الجمهور؟

يمثّل الحوار مع الجمهور والانفتاح عليه معيارًا أساسيًا من معايير الميديا الديمقراطية لكن يبدو أن الميديا التونسية تتجاهل، في أغلبها، هذا الابتكار المؤسسي الأساسي لشرعيتها في المجتمع وكسب ثقته. وفي هذا الإطار، من الضروري أن تطلق المهنة مبادرات لتأسيس ممارسات وثقافة جديدة لتطويق ثقافة كراهية الصحافة والحقد عليها للتوقي من الحملات التي تهدد حرية الصحافة بل والصحافة ذاتها أيضًا.

 يجب على على الميديا العمومية،وبما هي مرفق عمومي ملك للمجموعة الوطنية، أن تفعّل وتطور من آليات الحوار مع الجمهور استنادًا إلى التجارب العالمية الجيدة

ومن هذه المبادرات ذات الأهمية وضع آليات لقياس ثقة التونسيين في الصحافة ومنها على سبيل المثال استطلاعات الرأي التي تنجز في عديد الدول الديمقراطية مما يسمح بإبلاغ صوت الجمهور إلى المهنة بشكل صريح ومباشر. إذ تمثل هذه الآلية شكلًا من أشكال الاعتراف بحق الجمهور في نقد الصحافة وإبداء رأيه في ممارساتها.

كما لا يجب أن ننسى أنه على الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري السعي إلى توفير الشروط الموضوعية لتفعيل مقتضيات كراسات الشروط المتصلة بالحوار مع الجمهور. وفي هذا الإطار، يجب على على الميديا العمومية سواء المرئية (التلفزة الوطنية) والسمعية (الإذاعة التونسية) والمكتوبة (جريدتا الصحافة ولابريس) إضافة إلى وكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، وبما هي مرفق عمومي ملك للمجموعة الوطنية، أن تفعّل وتطور من آليات الحوار مع الجمهور استنادًا إلى التجارب العالمية الجيدة.   

 وفي كل الأحوال، إن ضمور آليات الحوار مع الجمهور، والتردد في القبول بحقّه في نقد الصحافة أحيانًا، ومحدودية النقاش المهني العلني وآليات المساءلة، جميعها ستزيد من الغضب من الصحافة والميديا خاصة وأن تيارات معادية لحرية الصحافة تسعى لتغذية هذا الغضب يومًا بعد يوم،  وهو ما سيعمّق من أزمة الصحافة ومن أزمة الديمقراطية التونسية باعتبارها إحدى مؤسّساتها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. الهلع (3/1)

الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. التحرّي (3/2)

الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. دفاعًا عن "صحافة الحقيقة" (3/3)