تعيش مهنة الصحافة في تونس حالة من الأزمة شبيهة بما تعيشه مؤسّسات أخرى توصف بالوسيطة أو بالأجسام الوسيطة (les corps intermédiaires) على غرار الأحزاب والقضاء وحتى الجمعيات. ولعلّ المؤشر الأعظم على هذه الأزمة هو دون أدنى شك تراجع ثقة المواطنين فيها. ولكن الثقة ليست المؤشر الوحيد الذي يعبّر عن أزمة الصحافة.
فالمواطنون يعبرون دائمًا عن غضبهم على الصحافة بسبب الانحرافات المهنية على غرار الانحياز للأحزاب السياسية والتفريط في القيم الصحفية الكبرى (السعي إلى الحقيقة والدقة والتوازن والموضوعية).
اقرأ/ي أيضًا: "تصفية الأجسام الوسيطة".. عنوان المرحلة القادمة في تونس
تعيش مهنة الصحافة في تونس حالة من الأزمة شبيهة بما تعيشه مؤسّسات أخرى توصف بالوسيطة أو بالأجسام الوسيطة على غرار الأحزاب والقضاء وحتى الجمعيات
كما يمكن أن يؤشّر هذا الغضب أيضًا في أحيان كثيرة أخرى إلى أن هناك ما يشبه "سوء تفاهم" سببه بلا شك سياقات الاستقطاب الإيديولوجي الذي يؤدّي إلى التحريض على الصحافة ما لم تصطف بشكل صريح مع هذا الشقّ أو ذاك.
فلا عجب إذًا أن نرى كيف يغضب (أو يحقد أيضًا) جزء من الرأي العام على صحافة تُظهر من "لا يستحقون ذلك" أو "من أجرموا في حق الشعب" مثلاً. ويمكن على هذا النحو أن يعتبر جزء من التونسيين أن الصحافة متواطئة مع المفسدين والخونة أو مع "المنقلبين" على الديمقراطية.
ويمكن أن نضيف أيضًا إلى هذه المؤشّرات كلها محدودية الفوائد التي جناها الصحفيون في تونس من العشرية الماضية مهنيًا واجتماعيًا. فلا أحد يمكن أن يٌنكر أن الصحفيين يمثلون الفاعل الأضعف في القطاع. ففي القطاع العام حيث تآكلت المؤسسات لا تتوفر للصحفيين الموارد الضرورية لإنجاز مهامهم على أحسن وجه. وأما في القطاع الخاص فإن مكانة الصحافيين تتراجع بشكل كبير ماديًا واجتماعيًا لصالح نجوم الترفيه الذين يحظون بالتبجيل. ولكن الأخطر من هذا كله أن الصحفيين فقدوا أيضًا السلطة على الصحافة ومادتها الأولى والأساسية أي الأخبار. وهذا ما سنسعى إلى بيانه في هذا المقال التحليلي: الدخيل و"الهوية المهنية الحزينة".
في خطاب الصحفيين التونسيين عن الصحافة يتجلّى الامتعاض الصريح مما وصلت إليه المهنة من حالة الوهن والضعف. وفي كثير من الأحيان نلاحظ أن الصحفيين يصبون جام غضبهم على "الدخلاء" الذين يٌتهمون صراحة أو ضمنيًا بأنهم سبب البلاء كله بما أنهم يقومون بتلويث المهنة وإفقادها بريقها ونقائها.
فالدخيل هو المتهم الأساسي بما أنه المسؤول عن الانحرافات المهنية والسقطات الأخلاقية وعن فقدان المهنة لهيبتها، مقارنة بمهن أخرى على غرار الطب والمحاماة والقضاء، التي لا يمكن أن يمارسها إلاّ من درسها دراسة متخصصة بعد أن تحصّل على شهادة تمنع المتطفلين من الولوج إليها، وفق الكثيرين.
هكذا تستأثر مسألة "الدخيل" أو تختزل أحيانًا كل المشكلات التي تطرحها مهنة الصحافة على نفسها. فتبدو الصحافة وكأنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها، ممّا يفسر طغيان ما أطلقنا عليه في مقالات سابقة "الهوية المهنية الحزينة" [1] لدى الصحفيين. لكنّ مسألة الدخلاء لا تكشف فقط أحزان المهنة بل يمكن أن تحجب أيضًا المسارات التي أدّت تدريجيًا إلى ما نسمّيه فقدان الصحفيين لسلطتهم على مهنتهم خلال هذه العشرية الأخيرة التي انطلقت بشعار جذاب، شعار الصحافة سلطة رابعة.
في هذا المقال، نستكشف كيف لم تتحول الصحافة إلى هذه السلطة الرابعة بل وكيف خسر الصحفيون السلطة على مهنتهم.
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة التونسية أمام امتحان "الشعبوية"
- أولاً: مهنة بلا معايير ومعرفة متخصصة
إن ما نسمّيه فقدان الصحافيين للسلطة على مهنتهم نراه مجسدًا في مسارات عديدة. يتمثل المسار الأول في محدودية أو غياب المعايير المنظمة لممارسة الصحافة. فالمهن تتمايز بالمعايير الأخلاقية، إضافة إلى المعرفة المتخصصة التي تتيحها الجامعة، كما هو الحال بالنسبة إلى مهن مخصوصة على غرار المحاماة والطب.
ووٌجدت مدارس متخصصة تٌدرس فيها الصحافة نشأت منذ نهاية القرن التاسع عشر[2]. ومنذ ذلك التاريخ تكاثرت هذه المدارس حتى أصبحت تعد بالعشرات في فرنسا أو فاقت المائة في الولايات المتحدة. وقد تشكّلت تدريجيًا هذه المدونة من المعارف التقنية في الصحافة وتجسدت في كتب متخصصة يصدرها في كثير من الأحيان صحفيون تحولوا بفضل خبرتهم الطويلة إلى منظّري الصحافة.
وإضافة إلى المعرفة المتخصصة التي يتحصّل عليها الصحفي من المدارس المتخصصة، وضعت المؤسسات الصحفية ما يسمى المواثيق التحريرية على غرار البي بي سي أو التلفزيون العمومي الفرنسي، إضافة إلى المواثيق الأخلاقية العامة الكبرى التي تفسّر الواجب الأخلاقي المهني وتحددها.
والميثاق التحريري دليل تقني عملي يتكّون من عشرات أو مئات الصفحات يحدّد بشكل دقيق عملية إنتاج المضامين التحريرية مهما كانت أهميتها. كما وضعت هذه المؤسّسات المدونات التقنية news style book البحتة التي تحدد بشكل صارم الأسلوب الخاص بالمؤسسة. وتعتمد المدونات التحريرية التقنية كآلية عملية لإنتاج المضامين الإخبارية ومساءلة الصحافيين عندما لا يحترمون هذه المبادئ. وبمعنى لآخر فإن ممارسة المهنة الصحفية مشروط بتعلّم مستمرّ يبدأ من الجامعة ويستمر في المؤسسة الصحفية نفسها.
وسعت العديد من المؤسّسات الصحفية التونسية إلى وضع مواثيق تحريرية وأخلاقية على غرار الإذاعة التونسية والتلفزة الوطنية ووكالة تونس إفريقيا الإنباء أو موزاييك اف ام في القطاع الخاص. لكن هذه المواثيق فقدت شرعياتها أو فعاليتها تقريبًا كليًا لعدّة أسباب ومنها مسار صياغة هذه المواثيق.
لم تنجح المهنة الصحفية خلال العشرية الأخيرة في بناء مرجعيات تحريرية ومهنية وتقنية (أي بشكل عام مواصفات إنتاج المضامين الصحفية) وفي غيابها تصبح ممارسة الصحافة متاحة للجميع وغرفة الأخبار مفتوحة على كل أنواع التلاعب
وعلى هذا النحو، لم تنجح المهنة خلال العشرية الأخيرة في بناء هذه المرجعيّات التحريريّة والمهنية والتقنية (أي بشكل عام مواصفات إنتاج المضامين الصحفية (من التقرير الإخباري وصولاً إلى الاستقصاء الصحفي مرورًا بالريبورتاج والحوار الصحفي) هي تلك المعايير التي يمكن أن نقيس بواسطتها الكفاءة المهنية. وهي التي تمثل حاجزًا منيعًا أمام المتطفلين على الصحافة وعلى من يريد أن يتلاعب بها والتي في غيابها تصبح ممارسة الصحافة متاحة للجميع وغرفة الأخبار مفتوحة على كل أنواع التلاعب بالأخبار.
اقرأ/ي أيضًا: الاتصال والسياسة في تونس بعد 25 جويلية: من هم التونسيون ومن يمثّلهم؟
- ثانياً: سلعنة الأخبار
عرفت العشرية الأخيرة تنامي مكانة الميديا الخاصة في مجالي الإذاعة والتلفزيون التي خضعت كلّها تقريبًا إلى نموذج التسلية. نشأت هذه الميديا في إطار تصوّر تجاري وسلعي جعل من الميديا الإذاعية والتلفزيونية خدمة تكاد تكون تجارية بحتة.
لم تنج الأخبار من السلعنة وتحولت إلى مواد ترفيهية في برامج التسلية الإخبارية info divertissement. فأصبح مشروعًا لمن شاء، بما في ذلك المهرجين المضحكين، التعليق على الأحداث وإبداء الرأي، في حين ظل الصحفي المهني أسير النشرة الإخبارية أو كمراسل ميداني يمدّ نجوم البرامج الصباحية أو المسائية الإخبارية-الترفيهية بالمواد الضرورية لدردشاتهم التي لا تنتهي.
لم تنج الأخبار من السلعنة وتحولت إلى مواد ترفيهية في برامج التسلية الإخبارية فأصبح مشروعًا لمن شاء، بما في ذلك المهرجين المضحكين، التعليق على الأحداث وإبداء الرأي
- ثالثًا: مهنة فرّطت في التحكم في مسالك النفاذ إليها
لقد أرست مهنة الصحافة في العديد من الدول الديمقراطية على غرار فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية آليات للسيطرة على النفاذ إليها وفق أشكال مختلفة. ففي فرنسا يٌوجد صنف خاص جدًّا من المدارس والكلّيات المتخصصة في تكوين الصحفيين من طراز خاص تحصلت على اعتراف خاص من المهنة، ووضعت "لجنة متناصفة" من الصحفيين والناشرين مصفوفات من المعايير يجب أن تتوفر في المتخرجين الجدد الملتحقين من الصحفيين اليافعين الملتحقين بالصحافة [3]. وفي الولايات المتحدة كذلك يوجد مجلس لاعتماد مدارس وكليات الصحافة [4] الذي يضع معايير مختلفة لكل المتدخلين في عملية تكوين طلبة الصحافة. ويرأس هذه اللجنة مهنيين من قطاع الصحافة.
في مقابل ذلك فإن مهنة الصحافة في تونس، على عكس مهن أخرى مثل المحاماة والطب، فرّطت بشكل كامل تقريبًا في مراقبة مسالك النفاذ إليها، بل يمكننا القول إن هناك عدم إدراك لدى الفاعلين فيها لرهانات التكوين الأكاديمي للصحفيين ونتائج ذلك على مستقبلها. ولهذا السبب نرى أيضًا كيف تفرط النقابات المهنية في حقها الذي أتاحه القانون لها للمشاركة في الهيئات الاستشارية في المؤسسات الأكاديمية التي تكوّن الصحفيين التونسيين (معهد الصحافة وعلوم الإخبار على وجه الخصوص).
مهنة الصحافة في تونس فرّطت بشكل كامل تقريبًا في مراقبة مسالك النفاذ إليها، بل يمكننا القول إن هناك عدم إدراك لدى الفاعلين فيها لرهانات التكوين الأكاديمي للصحفيين ونتائج ذلك على مستقبلها
- رابعًا: مهنة لم تؤسّس بعد منظومة مساءلة فعّالة
من مؤشرات تنامي المهنية في الصحافة على غرار كل المهن الأخرى، مكانة آليات المساءلة الداخلية لحماية المهنة من التلاعب بها. ونلاحظ في هذا الإطار أن هذه الآليات لا تزال ضعيفة جدًا إن لم تكن غائبة تمامًا أو غير مفعلة على غرار مثلاً مجلس الصحافة الذي لا يزال يواجه مشاكل تنظيمية حتى يصبح هيئة فعالة.
فإذا كان الصحفيون يطمحون إلى أن تكون مهنتهم تحظى بالاستقلالية والهيبة، محمية من أطماع المتطفلين والدخلاء فيجب أن يقبلوا، على غرار الأطباء والمحامين، بهيئة تسائلهم على انحرافاتهم المهنية عندما تكون موجودة.
إذا كان الصحفيون يطمحون إلى أن تكون مهنتهم تحظى بالاستقلالية والهيبة، فيجب أن يقبلوا، على غرار الأطباء والمحامين، بهيئة تسائلهم على انحرافاتهم المهنية عندما تكون موجودة
- خامسًا: تعريف رومنطيقي للصحافة يحوّلها إلى مهنة مفتوحة بلا حواجز
من المسارات التي أدّت أيضًا إلى ما نطلق عليه فقدان الصحفيين للسلطة على الصحافة هو بلا شك تعريف المهنة لذاتها أو بتعبير آخر التعريف السائد للصحافة لدى الصحفيين وما يترتب عنه من توزيع للوجاهة المهنية le prestige professionnel .
فكثيرًا ما تُعرف المهنة باعتبارها "رسالة"، ممّا أضعف الأبعاد التقنية والحرفية المتّصلة بإنتاج المضامين المتخصصة. وبما أنّها رسالة لا يمكن أن ينتصب لممارستها من يعتقد أنه أهل لهذه الرسالة، ويتحمّل مسؤوليتها من يشاء أو من يعرّف نفسه باعتباره مدافعًا عن قضية ما، يمكن أن تكون الهوية أو الحريات أو التقدمية أو العدالة أو الأخلاق.. ويمكن أن تعرف الرسالة بطريقة فضفاضة، على أنها الوقوف في صف الشعب والإصداع بالحقيقة و"مقاومة الظالمين" و"التصدي للشعبويين" و"مناصرة الضعفاء".
كثيرًا ما تُعرف المهنة باعتبارها "رسالة"، ممّا أضعف الأبعاد التقنية والحرفية المتّصلة بإنتاج المضامين المتخصصة
إن هذا التعريف الواسع الرومنطيقي للصحافة، بما إنها رسالة فتح الباب على مصراعيه لمن يريد أن يصبح "فارسًا من فرسان الصحافة". فالصحافة لا تقتضي كفاءات تقنية بل خصالًا، مما يؤهّل صاحبها إلى تبوّء المراكز المتقدمة في المهنة وأن يفوز بالوجاهة المهنية.
والكرونيكور هو تجسيد لهذا التصور الرومنطيقي للصحافة أو لنقل التصور غير التقني للصحافة، بما أنه يحظى بخصال فكرية غير تقنية لا يستمدها من الممارسة المستمرة للصحافة في الميدان بل من نباهته الفكرية ومقدرته على سبر أغوار العوالم السياسية أو من شجاعته وفصاحته.
والكرونيكور يأتي عادة من مهن أخرى يغادر مهنته الأصلية لأسباب غير معلومة (خاصة المحاماة) ثم يأتي ليمارس الصحافة ثم يغادرها متى يشاء ويعود إليها مرة أخرى.
ويحظى الكرونيكور أو من تشبّه به بحق الظهور في كل وقت. وهو ويمارس نشاط التفكير مباشرة على الأثير دون رقيب أو حسيب ودون مساءلة. يتعامل بحرية لا حدود لها مع الأخلاقيات الصحفية والمعايير المهنية. وهذا الظهور المتواصل على الشاشة يحوله إلى "نجم إعلامي".
يحظى الكرونيكور أو من تشبّه به بحق الظهور في كل وقت. وهو ويمارس نشاط التفكير مباشرة على الأثير دون رقيب أو حسيب ودون مساءلة. يتعامل بحرية لا حدود لها مع الأخلاقيات الصحفية والمعايير المهنية وهذا الظهور المتواصل على الشاشة يحوله إلى "نجم إعلامي"
فالكرونيكور هو جزء من منظومة النجوم الصحفية الجديدة التي ظهرت بعد سنة 2011 التي تريد أن تكون أم يكون "قادة رأي" على حساب نموذج الصحفي "مزود الأخبار" (أو ما يسمّى news provider) المنغمس في الميدان الذي ينجز التحقيق والاستقصاء والحوار الصحفي.
اقرأ/ي أيضًا: ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - سطوة "الكرونيكور" (3/3)
- سادسًا: كيف استولى الفاعل السياسي على الصحافة؟
من المسارات التي أدّت إلى ما أطلقنا عليه "فقدان الصحفيين لسلطتهم على الصحافة" التبعية للفاعل السياسي وفقدان القدرة على المحافظة على استقلالية المهنة. تٌبنى استقلالية المهنة كما يرى ذلك منظرو الصحافة في تمايز الصحافة (أو الحقل الصحفي) عن الحقول الأخرى ومنها على وجه الخصوص الحقل السياسي.
وكلما تعاظمت هذه الاستقلالية (بالنسبة للمؤسّسات وليس للصحفي كفرد) تعززت المهنية في الصحافة. وإذا نظرنا إلى الصحافة التونسية من هذا المنظور، أي منظور العلاقة بين الحقل السياسي والحقل الصحفي، فإنه يجوز القول إن الصحافة تحررت من نفوذ الدولة ومن المؤسسات الرقابية القديمة لكن هل تمايزت عن الحقل السياسي بالشكل الذي يسمح بأن نقول إنها أصبحت حقيقة مستقلة بذاتها؟
يمكن تلخيص استراتيجيات الفاعل السياسي في العشرية الأخيرة إزاء الصحافة في ثلاث استراتيجيات. تتمثل الأولى في إنشاء الأحزاب لمؤسسات صحفية تابعة لها بشكل كامل أو خفي (وهي الاستراتيجية التي انتهجتها حركة النهضة مثلاً).
أمّا الاستراتيجية الثانية فهي تتمثل في ربط مؤسسات الصحافة علاقات شبكية في إطار علاقات زبونية أو إيديولوجية استخدمتها كل الحكومات والأحزاب والعديد من الشخصيات السياسية. وهذه الشراكات المتعدّدة الأشكال يمكن أن تكون أحياناً ذات طابع مؤسسي أي بين مؤسسات أحزاب سياسية وأصحاب المؤسسات الصحفية أو بين أحزاب الصحفيين كأفراد عندما تكون المؤسسات الصحفية فاقدة لآليات المساءلة فيستقلّ الصحفي ببرنامجه.
من الاستراتيجيات الأكثر مكراً، تحويل الفاعل السياسي إلى فاعل صحفي تحت مسمّى "إعلامي" ودسّه في البرامج الإخبارية الحوارية
لكن الاستراتيجية الثالثة الأكثر مكراً تتمثل في تحويل الفاعل السياسي إلى فاعل صحفي تحت مسمّى "إعلامي" ودسّه في البرامج الإخبارية الحوارية. ويمكن أن نذكر عديد الأمثلة من الفاعلين السياسيين الذين ينتقلون بين السياسة بل والمسؤوليات الحزبية والصحافة (تحت مسمّى التحليل والتعليق).
إن هذه الاستراتيجية تعتبر الأخطر لأنّها لا تقوم فقط على بناء علاقة شراكة بين الصحافة (كمؤسسات خاصة) والسياسة لتبادل المنافع والتي أطلقنا عليها سابقاً صحافة "السيستام" [5].
ولكن أيضًا على تحويل الصحافة نفسها إلى نوع جديد من الدعاية السياسية. وعادة ما تتجسد هذه الاستراتيجية (يمكن أن تكون مبادرة من مالك المؤسسة الصحفية نفسها) في بناء البرامج الحوارية السياسية وفق التوازنات السياسية أو على صورة وشاكلته الحياة السياسية.
وهذا ما يفسّر تمثيل الفاعلين السياسيين في البرامج الحوارية بمتكلمين يدافعون عن وجهة نظرهم ويؤدّون وظيفة الاتصال السياسي من داخل الصحافة نفسها. وهذا ما يؤدّي إلى تخريب الصحافة بما أنها تتخلّى هكذا عن القيمة الأساسية التي تقوم عليها أي السعي إلى الحقيقة.
- نحو ثورة داخلية لإعادة بناء المهنة لنفسها
لقد كان مطمح المهنة عند سقوط النظام السابق هي أن تنجز ثورة داخلية فتتحول إلى سلطة رابعة وأن تنهض بعد أن كانت سلطة راكعة. ولكن مؤشرات عديدة تؤكد أن عملية النهوض هذه لم تتحقق بعد، لأن الصحافة باتت خاضعة لأشكال متعددة من السيطرة والتبعية الظاهرة والماكرة الخفية سهّلت بسطها محدودية إعادة بناء المهنة لنفسها وفق الآليات المعلومة أي المواثيق الأخلاقية والتحريرية وآليات مساءلة الصحفيين.
لعل من الخطوات الأساسية الأولى لإنجاز ثورة داخلية في الصحافة هي إعادة تعريف "الدخيل" بالتخلي عن وصم من يمارس المهنة دون دبلوم الصحافة والصمت عن الدخلاء الحقيقيين الذين يخربون المهنة واستقلاليتها الحقيقية
ولعل من الخطوات الأساسية الأولى لإنجاز هذه الثورة الداخلية هي إعادة تعريف "الدخيل" بالتخلي عن وصم من يمارس المهنة دون دبلوم الصحافة والصمت عن الدخلاء الحقيقيين الذين يخربون المهنة واستقلاليتها الحقيقية، أي الصحفي غير الملتزم بالأخلاقيات المهنية والفاعل السياسي المتنكّر في هيئة "إعلامي" والذي يستغل الوجاهة الرمزية للصحافة ليتبوأ مكانة مركزية في المهنة لا يستحقها وهذا ما يقتضي ثورة مهنية حقيقية داخلية لم تنجز بعد لإعادة بناء نفسها من جديد.
مصادر:
[1] المفارقة التونسية: هل الصحفيون التونسيون أحرار حقًا؟
[5] الصحفيون التونسيون ومصادرهم: صحافة السيستام
اقرأ/ي أيضًا: