رغم أن مؤسّسة الرئاسة محدودة الصلاحيات في النظام السياسي التونسي حيث السلطة الفعليّة في البرلمان والحكومة فإن الانتخابات الرئاسية كانت حدثًا بالغ الأهمية وقد يكون ذلك متّصلًا بمكانة مؤسّسة الرئاسة في "مخيال" التونسيين، خاصة وأن اختيار الرئيس من الشعب بواسطة الاقتراع المباشر لا يعطي فقط لمؤسّسة الرئاسة شرعيّة ولكن أيضًا رمزية قوية، بما أن نتائج الانتخابات هي على نحو ما تمثيل (صورة إذا أردنا) للتونسيين.
التصويت العقابي والتصويت لصالح "الشعبويين" لا يمكن أن يفهم خارج مفهوم أشمل هو مفهوم أزمة "التمثيل السياسي"
اقرأ/ي أيضًا: زلزال الانتخابات في تونس من منظور أسئلة الأخلاق والسياسة والدّولة
تعدّدت القراءات لنتائج الانتخابات الرئاسية التي تجمع كلّها على أن شيئًا ما حاسمًا وجذريًا حصل في المجال السياسي يصفه البعض بـ"الثورة الثانية" أو بـ"الزلزال". ومن هذا المنظور، فإن الدروس التي يجب أن نستخلصها من نتائج الانتخابات الرئاسية تهمّ النظام السياسي برمته. لقد توافقت العديد من القراءات على أن الدرس الأساسي لهذه الانتخابات يتمثّل في ما يسمى بـ"التصويت العقابي" الذي تجسّده خسارة ممثلي منظومة الحكم منذ 2011 إلى الآن حكومات ومعارضات لصالح مرشحين لم يشتركوا كلهم في هذه المنظومة.
على أن التصويت العقابي والتصويت لصالح "الشعبويين" (تناولنا مسألة هذه المسألة في مقالنا الصحافة التونسية في مواجهة الشعبوية) لا يمكن أن يفهم خارج مفهوم أشمل هو مفهوم أزمة "التمثيل السياسي". فلقد كرّرنا في مواضع عديدة في المقالات التي ننشرها هنا في "ألترا تونس" فكرة أساسية وهي أن الديمقراطية التونسية ديمقراطية ناشئة واستثنائية في سياقها العربي لكنها ديمقراطية مريضة وعليلة. أما مرضها الأساسي فهو عزوف الناس عن الشأن السياسي من جهة أولى واستحواذ الفاعلين السياسيين بواسطة استراتيجياتهم الاتصالية على المجال العمومي بواسطة الميديا (أنظر مثلًا مقالاتنا عن "الحكم التيلوقراطي" و"صحافة السيستام").
في هذا الإطار، فإن من المفاهيم السياسية التي يمكن أن نوظفها لفهم نتائج الانتخابات هي ما يمكن أن نسميه أزمة التمثيل "la crise de représentation".
معاني أزمة التمثيل السياسي بشكل عام
ظهرت فكرة "أزمة التمثيل السياسي" في فرنسا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ثم تعاظم حضورها في الخطاب السياسي والفكري والصحفي كمدخل لفهم تحوّلات الديمقراطية والنظام السياسي. وتحيل فكرة أزمة التمثيل السياسي على عدة دلالات منها:
- قطيعة متعاظمة بين السياسيين والناخبين وعدم تطابق مشاغل المجتمع والنخب السياسية وتراجع الثقة في هذه النخب واهتراء صورتها وتراجع قيمة السياسة بشكل عام.
- صعود مستمرّ للتنظيمات والحركات المناهضة لما يسمّى بـ"السيستام" (anti système) على غرار حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف.
- المكانة التي يحتلها الاتصال في العمل السياسي وتفضيل استراتيجيات الظهور في الميديا على حساب العمل الميداني والإنصات للمواطنين.
- "أمركة" الحياة السياسية وتحويل الأحزاب إلى منصات لإدارة المستقبل السياسي لزعماء الأحزاب وإفراغها من روحها وتحويل وظائفها.
- التنافر بين الخطاب السياسي وانتظارات المواطنين وشعورهم بأن السياسيين افتكوا أو انتزعوا النظام السياسي لصالحهم وهو ما يعبر عنه بـ "نزع الملكية الديمقراطي" (la dépossession démocratique).
إن المتأمل في الحياة السياسية التونسية يلاحظ مؤشرات عديدة تحيل على "أزمة التمثيل السياسي" ومنها تراجع ثقة التونسيين في النخب السياسية
وقد تجلّت أزمة التمثيل السياسي مرة أولى عام 2005 عند الاستفتاء على الموافقة على "دستور أووربا" (أو ما يسمّى معاهدة روما) الذي رفضته الأغلبية مما أثار استغرابًا كبيرًا خاصة وأن أغلبية الأحزاب السياسية كانت مع التصويت بـ"نعم" إضافة إلى دعم الميديا والصحافة للمعاهدة، مما جعل من هذا التصويت مؤشرًا على القطيعة بين النخب والسياسيين من جهة أولى والمجتمع و"الشعب" من جهة ثانية.
ثم بلغت أزمة التمثيل السياسي أوجها بشكل خاص وأزمة الديمقراطية التمثيلية بشكل عام مع الاحتجاجات التي قادتها السنة الماضية حركة "السترات الصفراء" في فرنسا التي تطالب بأشكال جديدة من الديمقراطية المباشرة بتطوير مشاركة المواطنين في الحياة السياسية عبر تعزيز آلية الاستفتاء أو ما يسمّى استفتاء المبادرات المواطنية "Référendum d'initiative citoyenne".
أزمة التمثيل في الديمقراطية التونسية
إن المتأمل في الحياة السياسية التونسية يلاحظ مؤشرات عديدة تحيل على "أزمة التمثيل السياسي" ومنها تراجع ثقة التونسيين في النخب السياسية أو ما يسمّى "منظومة الحكم" من أحزاب حاكمة ومعارضات بما في ذلك المعارضة اليسارية واهتراء صورة السياسيين وتفضيل الاستراتيجيات الاتصالية والحضور في الميديا (الإذاعة والتلفزيون على وجه الخصوص) وبناء شبكات العلاقات المصلحية مع الميديا (مقابل العمل الميداني الذي كان يقوم به قيس سعيّد مثلًا) والاستثمار في الدعاية وفي الدعاية المضادة في فيسبوك.
لا يبدو أن الإعراض عن الاقتراع يمثل مشكلًا مطروحًا على الأجندة العامة أو في النقاش العام في حين أنه يمثل المؤشر الأخطر لتشخيص أمراض الديمقراطية التونسية
ومن علامات أزمة التمثيل السياسي أيضًا التنافر بين الخطاب السياسي وانتظارات التونسيين، وقد أقر بعض المترشحين أن هزيمتهم تفسر بعدم قدرتهم على مخاطبة الشباب (مثلًا يوسف الشاهد في حديثه لموازييك يوم الجمعة 20 سبتمبر/ أيلول 2019). كما يمكن هنا أن نتساءل عن عدم قدرة المترشحين السياسيين على استقطاب أصوات الناخبين المنتمين إلى الطبقات الفقيرة في حين نجح مرشحون مثل نبيل القروي على استقطابها.
وتحيلنا أزمة التمثيل السياسي كذلك إلى نظرة التونسيين للسياسة كما يمارسها السياسيون (أو منظومة الحكم كما يقال) الذين اختطفوا السياسية واستقلّوا بها وحوّلوها إلى فن المنافسة على السلطة في حين أن التونسيين انتخبوهم لإدارة الشؤون العامة وشؤون البلاد. وبتعبير آخر فإن عزوف التونسيين عن الأحزاب السياسية (بشكل متفاوت) هو تعبير صريح على أن السياسيين لا يمكن لهم أن يكونوا ممثلين لهم وهم لا يعترفون بقدرتهم على تمثيلهم.
الإعراض عن التصويت المؤشر الأقوى عن أزمة التمثيل السياسي
على أن المؤشر الأقوى لأزمة التمثيل السياسي يتجسد في عدم الإقبال الكبير على التصويت أي المقاطعة (l’abstentionnisme). إذ يبلغ العدد الجملي للناخبين المسجلين قرابة 7 ملايين و74 ألف أما العدد الجملي للأصوات المصرح بها في الانتخابات الرئاسية بلغ 3 ملايين 372 ألف، إضافة إلى العدد الجملي للأوراق البيضاء الذي يقدر بـ 24 ألف ورقة هو مؤشر على أن عددًا لا يستهان به من التونسيين (يبلغ أصواتهم ما تحصل عليه عديد المترشحين) غير راضين على كل المترشحين بما في ذلك الفائزين.
هناك إذًا، إضافة إلى مئات الآلاف من التونسيين الذي يرفضون التسجيل للانتخاب، أغلبية من التونسيين المسجلين (51 في المائة) قاطعوا الانتخابات أو لم يروا سببًا وجيهًا للمشاركة فيها رغم أنها الآلية الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية التونسية بما أنها ديمقراطية تمثيلية.
في المقابل، لا يبدو أن الإعراض عن الاقتراع يمثل مشكلًا مطروحًا على الأجندة العامة أو في النقاش العام في حين أنه يمثل المؤشر الأخطر لتشخيص أمراض الديمقراطية التونسية وهو لا شك أكثر أهمية من التصويت العقابي أو ما يسمّى الانقلاب على منظومة الحكم والنخب المتصلة بها.
فالإعراض عن الانتخاب وإن كان لا يحذف الشرعية عن الذي انتخبهم الشعب التونسي والذين سيتنافسون في الدور الثاني لكنه مؤشر على أن التصويت العقابي الذي يحتفي به البعض لا يمثل دواء للديمقراطية التونسية أو مخرجًا لأزماتها بقدر ما هو من أعراض مرضها العضال الذي يتمثل في أزمة المشاركة السياسية.
إن ما يجب أن ننتبه إليه ليس فقط الرسائل التي بعثها الناخبون (أكثر بقليل من 3 ملايين)، أي القطيعة بين النخب والشعب ولفظ منظومة الحكم (أو السيستام) التي أدارت البلاد من 2011، ولكن أيضًا الرسائل التي بعثها ثلاث فئات: الذين لم يذهبوا للاقتراع أولًا والذين لا يريدون التسجيل للانتخاب ثانيًا والذين صوتوا بأوراق بيضاء ثالثًا.
كادت البرامج الإخبارية الحوارية في الخمس السنوات الأخيرة أن تتحوّل إلى برامج تطرح فيها فقط الصراعات السياسيوية
اقرأ/ي أيضًا: الدور الأول لرئاسية 2019: ثورة ناعمة تهز كيان المنظومة السياسية القائمة
فالتونسييون الذي يعرضون عن التسجيل في الانتخابات أو عن التصويت يعتبرون، على الأقل نظريًا، أن كل المترشحين، بما في ذلك الفائزين، لا يمثلونهم وأنهم لا يثقون فيهم وأن الانتخابات لن تغير الأمور بشكل حاسم وأن السياسيين لا يوفون بوعودهم.
إن الاهتمام بالتصويت العقابي (أو الاحتفاء به أحيانًا) قد يخفي عنا بهذه الطريقة المرض الأساسي الذي تعاني منه الديمقراطية التونسية وهو العزوف عن الشأن السياسي وضمور المشاركة السياسية الذي يمكن أن يحوّل الديمقراطية التونسية إلى ديمقراطية شكلية عندما يكتشف التونسيون أن النخب الجديدة والبديلة لقوى "السيستام" أو منظومة الحكم قد تكون هي أيضًا عاجزة عن تحقيق ما وعدت به النخب التي تمت معاقبتها. وقد يؤدّي ذلك بالتونسيين تدريجيًا إلى فقدان الأمل في الديمقراطية وهو الاتجاه الذي قد يتشكل لدى التونسيين مما قد يهدد الانتقال الديمقراطي نفسه.
الوجه الثاني لأزمة التمثيل: الميديا
إن المستوى الثاني الذي يستدعي الاهتمام هو علاقة الميديا والصحافة بالتحولات التي تعرفها الحياة السياسية: إعراض التونسيين عن منظومة الحكم والغضب من النخبة السياسية، وصعود فاعلين جديد مناهضين للسيستام "antisystème"، والإعراض عن التصويت والعزوف عن الشأن السياسي وضمور المشاركة السياسية. فهل للميديا والصحافة علاقة ما بهذه المسائل؟
فإذا كان للصحافة والميديا أدوار أساسية في الديمقراطية بما أن "لا ديمقراطية بلا صحافة، فإنه من المشروع التساؤل عن مسؤولية الميديا والصحافة في أعطاب الديمقراطية.
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تزال محدودة في الأوساط المهنية رغم ما يقال عن تأثير "اللّوبيات" و"المال الفاسد". أما خارجها فإننا عادة ما نرى خطابًا حول ما يسمى بـ"إعلام العار"، بل إن قطاعات من التونسيين يعتبرون أن الميديا تلعب دورًا سلبيًا جدًا بما أنها امتداد للوبيات. فكيف يمكن إذن أن نقيّم أدوار الميديا والصحافة من منظور أزمة التمثيل السياسي والظواهر المتصلة بها. يمكن أن نتخذ لإنجاز هذا التقييم المداخل التالية:
1- استحواذ السياسيين على النقاش العام في الميديا
في الديمقراطية التمثيلية وبما أن المواطنين لا يمكن لهم أن يشاركوا كلهم في النقاش العام فإن ممثلين عنهم يقومون بهذا الدور: السياسيون من جهة أولى وفاعلون آخرون كممثلين عن المجتمع المدني وعن مؤسّسات أخرى إضافة إلى الصحفيين والمثقفين من جهة ثانية.
إن من مظاهر أزمة الديمقراطية التمثيلية هو استحواذ النخب السياسية الصرفة (أو المحترفة) على هذا المجال العمومي واستبعاد الفاعلين الآخرين. قد يكون سبب ذلك استبدال النقاش في الشؤون العامة المختلفة والمتنوعة بالنقاش في الشأن السياسي أو استبدال القضايا السياسية بالقضايا السياسوية. هكذا تحوّلت الميديا من فضاء للنقاش العام إلى حلبة يتصارع فيها السياسيون في قضايا التنافس مع السلطة.
تحوّلت الميديا من فضاء للنقاش العام إلى حلبة يتصارع فيها السياسيون في قضايا التنافس مع السلطة
لقد كادت البرامج الإخبارية الحوارية في الخمس السنوات الأخيرة أن تتحوّل إلى برامج تطرح فيها فقط الصراعات السياسيوية كالصراع بين النداء والنهضة قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية بل انتخابات 2014، ثم الأزمات المختلفة التي عرفها حزب نداء تونس مرورًا بالأزمة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووصولًا إلى الأزمة التي عرفتها الجبهة الشعبية.
2- مشهدة السياسة
لقد كان الاستقطاب السياسي والإيديولوجي حول الدستور والانتخابات الرئاسية والتشريعية 2014 موضوعًا أساسيًا للنقاش العام. وساهمت الميديا والصحافة في تغذية هذا الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي بشكل صريح خاصة الميديا التلفزيونية والإذاعية عبر برامج الحوارات التي كانت تحتضن المناظرات والمواجهات بين الفاعلين السياسيين.
فالاستقطاب الإيديولوجي والسياس كان مادة هامة لتنظيم المناظرات والمواجهات الدرامية والصدامية لإثارة المشاعر. فتحوّلت المناظرات السياسية إلى نوع برامجي تتقن الميديا تنظيمه بانتقاء الضيوف المتصادمين، مما كان يسمح للميديا بالحصول على نسب عالية من المشاهدة في إطار الصراع والمنافسة على الموارد الإعلانية وأدى كل هذا إلى مشهدة السياسية "la spectacularisation de la politique" الذي كان التلفزيون مجاله الرئيسي.
3- انقطاع الميديا عن الحياة الاجتماعية
إن الميديا بارتباطها بالمصادر المؤسسة وضمور الصحافة الميدانية أي صحافة الريبورتاج والتحقيق التي تنقل وقائع الحياة الاجتماعية اليومية، انقطعت عن عوالم الناس فأضحت مرآة للعالم السياسي الضيق "microcosme politique" أو "محترفي السياسة" أو لحياة المؤسسات (عبر تغطية الندوات الصحفية والمؤتمرات والأنشطة المؤسسة المختلفة).
وعلى هذا النحو، انقطعت الصحافة عن العوالم اليومية للناس بسبب التزام الصحفيين لغرفة الأخبار. هكذا لا يرى التونسيون أنفسهم وعوالمهم اليومية ومشاكلهم في الشاشات، باستثناء البرامج الاجتماعية الفضائحية التي تستعرض الحياة الخاصة للناس. وعلى هذا النحو، لم تكن الميديا تؤدّي وظيفة تمثيل للحياة العامة.
4- الاصطفاف السياسي والإيديولوجي
لقد عرفت الحياة السياسية والمجال العمومي صراعات كثيرة ومتعددة حول مسائل سياسية وفكرية وثقافية هوياتية بين من جهة أولى التيار الإسلامي (حركة النهضة) والتيارات التي تسم نفسها بالتيارات "الحداثية" أو "الديمقراطية" وأحيانًا أخرى بين التيارات "الثورية" أو "قوى الثورة" وبين قوى "النظام القديم". ويمكن أن نتحدث عن أنواع أخرى من الاستقطاب أقل حدة على غرار الصراع بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة منذ 2016 والذي كان من نتائجه أيضا أنواعًا من "الاصطفاف".
لا بد لنا من قراءة نتائج الانتخابات بشكل شامل يتجاوز مستوى التصويت العقابي ولفظ منظومة الحكم أو "السيستام"
ولا شك أن صحفيين بل مؤسسات أيضًا انخرطت في هذا الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي وفي هذه الصراعات والأيديولوجية السياسية العديدة. وأظهرت الانتخابات الرئاسية كيف أن قنوات تلفزيونية عديدة خدمت بعض المترشحين على حساب آخرين. ولا شك أيضًا أن هذا الاصطفاف أفسد كثيرًا صورة الصحافة وقلّص من مصداقيتها من قدرتها على أن تكون مصدرًا للأخبار والآراء خاصة لدى الشباب.
5- تلاحم الميديا والسيستام
كانت الصحافة والميديا لعقود طويلة أي منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة مرتبطة بالسلطة السياسية وتابعة لها تأتمر بأوامره تنظيميًا وسياسيًا. ثم تحولت هذه العلاقة بعد الثورة وانهيار النظام السابق وتغيرت العلاقة بصفة متدرّدة ليتحرر الصحفيون تدريجيًا من هذه علاقة التبعية ليحظوا وبصفة متدرّجة أيضًا بقدر من الاستقلالية فتحولت الميديا إلى حلبة ينظم فيها الصحفيون النقاش السياسي ويقومون بواسطتها بتغطية الحياة السياسية وأحداثها وينقلونها للمواطنين.
تحولت البرامج الحوارية الإخبارية اليومية إلى الفضاء الرئيسي للنقاش العام حيث يتداول السياسيون والكرونيكور في قضايا الشأن العام. ويتنافس السياسيون للحضور في هذه الفضاءات وللظهور فيها لأنهم يحتاجون إلى الظهور في الميديا لتأمين وجودهم في المجال السياسي وخاصة في الميديا السمعية البصرية. أما الميديا ومديرو هذه البرامج فإنهم أيضًا يحتاجون إلى السياسيين لأن السياسة بالنسبة إليهم تكاد تكون الموضوع الوحيد الجدير بأن يكون موضوعًا للنقاش.
يمكن أن نتحدث هكذا عن تلاحم بين النخبة السياسية من جهة التي تحتاج إلى وساطة الميديا السمعية البصرية على وجه الخصوص (أو بالتحديد إلى وساطة المنشط والكرونيكور) ومن جهة أخرى فإن هؤلاء أي المنشط-الصحفي والكرونيكور يحتاج إلى السياسيين لتأكيد شرعيته باعتباره مسيّر النقاش العام ومنظمه بل أيضًا من له سلطة على السياسي على نحو ما بما أنه هو الذي يمتلك القدرة على ظهورهم في الميديا وفي المجال العمومي: إنها شراكة استراتيجية بين النخبتين تعكس على نحو ما إعادة تشكل العلاقة بين حقل الميديا من جهة وحقل السياسة من جهة أخرى وتجعل من المشروع أيضًا الحديث عن نخبة سياسية-ميدياتيكية "élite politco-médiatique" تتبادل المنافع.
6- محدودية القدرة على مراقبة السلطة السياسية
إذا كانت العلاقة بين نخبة الميديا (وليس فقط الصحفية بالمعنى التقليدي لأن ليس كل الكرونيكور صحفيين) وبين النخبة السياسية بهذا الشكل يصبح من المشروع أن نتساءل عن قدرات الصحافة على مراقبة السلطة السياسية وهي من الغايات الكبرى التي من المفترض أن تقوم الميديا والصحافة بتحقيقيها في الأنظمة الديمقراطية والتي تجسدت فيما تُسمّى بـ"صحافة الرقابة" (Watch Dog journalim).
لا شك أن هذا النوع من الصحافة كان محدودًا جدًا بل يمكن القولإأن التحقيقات الاستقصائية التي تناولت الدوائر السياسية (على غرار أوراق بنما) كانت نادرة جدًا. ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب منها محدودية قدرات الصحفيين على التحقيق والاستقصاء والصحافة الميدانية بسبب محدودية الموارد المتوفرة لديهم وخاصة الوقت وانغماسهم في الإنتاج الإخباري اليومي.
الخلاصة
لا بد لنا من قراءة نتائج الانتخابات بشكل شامل يتجاوز مستوى التصويت العقابي ولفظ منظومة الحكم أو "السيستام" لأن الأمر يتعلق بأزمة الديمقراطية التونسية نفسها التي تكاد تتحول إلى ديمقراطية شكلية بسبب عجزها عن تعزيز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية. ولا شك أن للميديا مسؤولية جسيمة في أزمة "التمثيل السياسي" لأنها لم تكن قادرة دائمًا على أداء أدوراها كحارسة للديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا:
بعد نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية.. حركة النهضة إلى أين؟
تقدير موقف: الانتخابات الرئاسية في تونس.. قراءة في نتائج الدور الأول