مثلت النتائج الأولية للدور الأول للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها التي أعلنت عنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في ندوة صحفية بعد ظهر الثلاثاء 17 سبتمبر/ أيلول 2019، أو تلك التي توقعتها عمليات استطلاعات رأي قامت بها مؤسسات وعرضت في بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، مفاجأة لمختلف الفاعليات السياسية والرأي العام المهتم بالشأن السياسي، إلى درجة أن البعض أطلق عليها تسمية "زلزال" فيما خيّر البعض التندر وإطلاق لقب "اللطخة عليها".
وعلى الرغم من استطلاعات الرأي التي كان تصدر خلال الأشهر الأخيرة جاءت مطابقة لنتائج الانتخابات الرئاسية إلى درجة كبيرة، يبدو أن الأحزاب والشخصيات السياسية لم تتفاعل معها بالشكل المطلوب أو على الأقل خيّرت تجاهلها والاكتفاء بإقناع نفسها ومناصريها أن هذه الأرقام بعيدة عن الواقع.
43,2 في المائة ممن صوتوا لنبيل القروي من أصحاب المستوى الثانوي
اقرأ/ي أيضًا: هل تنجُو نتائج الانتخابات الرئاسيّة من التشكيك والتخوين والمواقف الاحتجاجيّة؟
ولكن الشارع التونسي أثبت في هذا الاستحقاق الانتخابي أن كلمته يجب أن تُسمع وأن يكون لها صدى وأنه مازال يمتلك القدرة على قلب الطاولة وإحداث ثورة على المنظومة القائمة، حتى دون أن يتطلّب منه الأمر النزول إلى الشوارع والتصادم مع السلطات، إذ جاءت ثورته هذه المرة ناعمة هادئة وعبرت عبر صناديق الاقتراع.
فحصول المترشح المستقل وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد على المرتبة الأولى من حيث الأصوات المصرّح بها بنسبة 18,4 في المائة (أي ما يعادل 620711 ناخبًا من جملة أكثر من 3 ملايين ناخب)، يليه مرشح حزب قلب تونس ومؤسس القناة التلفزية الخاصة "نسمة" نبيل القروي بنسبة 15,6 في المائة (أي 525517 ناخبًا)، أقوى تعبيرة تؤكد رفض الشعب التونسي للمنظومة القائمة وظاهرة تستحق الوقوف عندها لدراستها.
بروز هذين المترشحين اللذين تصدّرا نوايا التصويت في استطلاعات الرأي التي كانت تصدر بشكل دوري، منذ شهر جانفي/ كانون الثاني 2019 على الأقل، يبرز بشكل جلي فشل المنظومة الحالية، بشقّيها الحاكم والمعارض، في إقناع المواطنين وفي تلبية تطلعاتهم وانتظاراتهم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ليبرز إثر ذلك تيار يوصف بـ"الشعبوي" استطاع استقطاب هؤلاء المواطنين بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية. والمقصود بالشعبوية في هذا الإطار هو القطع مع النخبة التقليدية وخطابها مقابل تقديم خطاب مبسّط غالبًا ما يكون عاطفيًا.
فنبيل القروي، رجل الأعمال وصاحب قناة نسمة، والذي تحوم حوله عدة شبهات فساد، استغلّ على مدى سنوات منبره الإعلامي وعمله الجمعياتي ليقوم بأعمال خيرية ويتنقل إلى أماكن أهملتها الدولة والسلطة، ونقلها مباشرة على قناته التلفزية في وقت الذروة، ليكتسب بالتالي تعاطفًا جماهيريًا كبيرًا بسبب توزيعه بعض الأغذية والإعانات للعائلات التي تعيش تحت خط الفقر.
وعلى الرغم من أن نبيل القروي كان أحد مؤسسي حركة نداء تونس وساهم بشكل كبير في وصول مؤسس النداء الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وحزبه إلى سدّة الحكم في انتخابات 2014، إلا أن الفئات المهمشة والفقيرة تراه خارجًا عن سرب النظام ويدًا ستقدّم لهم يد المساعدة وتنقذهم من الفقر المدقع الذي يعيشون فيه منذ عقود.
وقد اعتمد نبيل القروي على هذا الخطاب في حملته الانتخابية، والتي لم يقم بها بنفسه نظرًا لتواجده في السجن، فكان القضاء على هذه الآفة أبرز وعوده الانتخابية دون أن يقدّم آليات حقيقية وفعلية يمكن تطبيقها لحلّ هذا الإشكال العويص. إلا أن هذا الخطاب وصوره المتداولة مع عدد من كبار السن في المناطق المنسيّة من الجمهورية مكّناه من الحصول على شعبية وجماهيرية واسعة خصوصًا لدى فئة الكهول والمسنّين وخصوصًا من غير المتحصّلين على تعليم أو الذين غادروا مقاعد الدراسة في سن مبكرة.
فلعلّ ما ساهم في مضاعفة جماهيرية نبيل القروي، واقعة سجنه يوم 23 أوت 2019، أي تقريبًا قبل أسبوع من انطلاق الحملة الانتخابية
وبحسب أرقام لاستطلاع رأي قامت به مؤسسة "إمرود"، والذي كانت نتائجه متقاربة إلى درجة كبيرة مع النتائج الأولية الرسمية، فإن نسبة المصوتين للقروي لدى الفئة العمرية التي تتجاوز الـ36 عامًا تبلغ 59,4 في المائة، مقابل 23 في المائة بالنسبة لمن تتراوح أعمارهم بين 26 و35 سنة و17,6 في المائة بالنسبة لمن هم بين 18 و25 في المائة.
كما أن 13,8 في المائة ممن صوتوا لنبيل القروي من الأميين، و34,1 في المائة منهم مستوى ابتدائي، و43,2 في المائة مستوى ثانوي أما نسبة أصحاب المستوى الجامعي الذين صوتوا له فلم تتجاوز 8,9 في المائة. وعلاوة على ذلك، فـ37,5 في المائة ممن صوتوا للقروي ينتمون للعائلات التي يقلّ دخلها الشهري عن 400 دينار، و33,3 في المائة بين من يتراوح دخلهم بين 400 و800 دينار.
ولئن استطاع نبيل القروي اللعب على وتر العائلات محدودة الدخل والفقيرة، فلعلّ ما ساهم في مضاعفة جماهيريته، واقعة سجنه يوم 23 أوت/ آب 2019، أي تقريبًا قبل أسبوع من انطلاق الحملة الانتخابية، ليتضاعف بذلك التعاطف الشعبي معه ويكتسب حاضنة شعبية مكونة من الفئات المفقرة، خصوصًا مع الحملة الإعلامية التي قامت بها قناة نسمة دفاعًا عنه واتهام رئيس الحكومة ومنافسه في السباق الرئاسي يوسف الشاهد بالتورط في إيقافه لمنعه من الفوز.
في المقابل، كان حصول أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد على الصدارة المفاجأة الكبرى لهذا الاستحقاق الانتخابي، فالرجل لم يُعرف له انتماء سياسي سابق كما لم يشغل أي منصب في الدولة رغم أنه قد عُرض عليه ذلك إبان الثورة.
ونجم قيس سعيّد بدأ في السطوع بعد الثورة حيث كانت له مساهمات فعالة خلال النقاشات التي صاحبت كتابة دستور الجمهورية الثانية خصوصًا في المنابر الإعلامية، وكان يمتاز عن غيره من المحلّلين بطرح يدعو صراحة إلى القطع مع مركزية الدولة مباشرة من خلال وترسيخ مبدأ "حكم الشعب للشعب" من خلال البدء بانتخابات محلية ثم جهوية ثم مركزية (أي برلمانية). وهو خطاب يتمسك به منذ 2011 ولم يغيّره رغم أن آليات تطبيقه تبقى غامضة وصعبة خاصة في ظلّ عدم حصوله على سند سياسي في البرلمان.
من منح صوته لقيس سعيّد رأى فيه السبيل لاستعادة ثورته وقلب الطاولة على كلّ من التف عن الثورة وانتفع بمصالحها
ولعلّ أكثر ما يميّز قيس سعيّد هو استعماله اللغة العربية الفصحى في جميع خطاباته وحواراته، وهو يتمتع بعربية "قحة" وصوت شجي وهادئ لا ينفعل وثقافة واسعة. إلا أن ما أثار الجدل حول تصدّر سعيّد للدور الأول من الانتخابات الرئاسية، هو حملته الانتخابية التي كانت مختلفة عن بقية الحملات.
فقيس سعيّد لم يقم بحملة انتخابية بالمعنى التقليدي للكلمة، حيث لم يكن له ظهور إعلامي مكثف، ولم يصرف الملايين في مواقع التواصل الاجتماعي أو خلال الاجتماعات، بل اعتمد بشكل كبير على عدد كبير من الشباب المتطوعين الذين آمنوا برؤيته وبرنامجه الذي حمل اسم "الشعب يريد". وقد اعتمد سعيّد على استراتيجية القرب في حملته واستمع عن قرب لمشاغل المواطنين في جولاته مستخدمًا سيارته وفنجان قهوة ثمنه زهيد ومصطحبًا العديد من الشباب المتطوع الذي رأى فيه الشخص القادر على تغيير المنظومة القائمة وإعادة روح الثورة، ثورة الشباب التي سطت عليها الأحزاب السياسية دون أن تنظر يومًا إلى مصالح هذا الشباب الذي قدّم صدره العاري أمام رصاص النظام السابق.
فمن منح صوته لقيس سعيّد رأى فيه السبيل لاستعادة ثورته وقلب الطاولة على كلّ من التف عن الثورة وانتفع بمصالحها، وعجز عن تحقيق مطالب الثورة المتمثلة في "الشغل، الحرية والكرامة الوطنية". والمتأمل في الفئة العمرية التي منحت ثقتها لقيس سعيّد سيدرك أنها تمثل الشباب الذي يئس من المنظومة الحزبية فابتعد عن التحزب واختار التعبير عن خياراتها في تمظهرات عدة أخرى آخرها ما أظهرته نتائج الدور الأول من الاستحقاق الرئاسي.
فتتراوح أعمار 33,2 في المائة ممن صوتوا لقيس سعيّد بين 18 و25 سنة، وتبلغ نسبة المصوتين ممن تراوح أعمارهم بين 26 و35 عامًا 36,7 في المائة. و47,9 في المائة من المصوتين لسعيّد من أصحاب المستوى الجامعي.
اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية 2019.. انتخابات بلا نقاش ودون أفكار؟
واللافت في "ظاهرة" قيس سعيّد هو أن أنصاره والمتطوعين في حملته الانتخابية لا يحملون فكرًا أو إيديولوجيا، بل أتوا من أقطاب مختلفة فمنهم المحافظ ومنهم اليساري ومنهم اليساري الراديكالي، وذلك على عكس ما يتهمه به خصومه من كونه مسنودًا من قبل حركة النهضة. فقيس سعيّد لا يقدّم طرحًا إيديولوجيًا أو هوويًا، بل هو يعتمد في خطابه على القطع مع مركزية الدولة، وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية واللامركزية، كما يتطرّق إلى مسألة السيادة الوطنية، وهو خطاب يستهوي الكثير ممن يرفضون ما يعتبرونه استعمارًا فرنسيًا حديثًا لتونس. ولعلّ الأهم من كلّ ذلك أن قيس سعيّد بعيد تمامًا عن المنظومة السياسية الحالية وكلّ ما يشوبها من علاقات مشبوهة بلوبيات الفساد، وهو يوصف، لا من قبل أنصاره فقط، بل من جلّ أفراد الشعب، بـ"النظيف"، أي أن له صفة "الطهارة" والبعد عن لوبيات الفساد التي باتت تسيطر على الحياة العامة وبعض وسائل الإعلام.
أكدت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية فشل ما يسمى بـ"العائلة الوسطية الديمقراطية الحديثة"
ولكن مرور كلّ من قيس سعيّد ونبيل القروي إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ليس وحده ما يلفت النظر، فالنتائج التي تم الإعلان عنها تظهر تراجعًا كبيرًا لشعبية الأحزاب التقليدية، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة، وباختلاف انتماءاتها الإيديولوجية والفكرية، مقابل صعود شخصيات مستقلة وأحزاب جديدة.
وعلى الرغم من عدم فوزهم، بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أن بعض المترشحين أحدثوا مفاجأة كبرى على غرار المترشح المستقل الصافي سعيد الذي تحصل على 7,1 في المائة من الأصوات المصرّح بها (أي 239951 ناخب) والمرشح عن ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف (4,4 في المائة) ومرشح حزب الاتحاد الجمهوري لطفي المرايحي 6,6 في المائة).
هذه الشخصيات وصلت إلى المراتب العشرة الأولى (الصافي سعيد في المرتبة السادسة ولطفي المرايحي في المرتبة السابعة وسيف الدين مخلوف في المرتبة الثامنة)، وهي جميعًا لا تنتمي إلى المنظومة الحالية وتمتاز، وفق ما يقدّر مراقبون، بخطاب "شعبوي" يمسّ فئات واسعة من الشعب وتتحدث بلغة تشبهه ويفهمها وتؤكد ضرورة استعادة السيادة التونسية ومقاومة الاستعمار الفرنسي واستغلال الثروات الطبيعية التونسية.
في المقابل، أكدت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية فشل ما يسمى بـ"العائلة الوسطية الديمقراطية الحديثة" وتراجعها بشكل كبير مقارنة بانتخابات 2014 لتكون مكونات هذه العائلة، التي ما فتئت تتشتت وتتفكك بفعل حسابات سياسوية ضيقة، أكبر خاسر من هذه الانتخابات.
فرئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي استخدم حزبه كل الوسائل والإمكانيات للترويج له، ويقول البعض إنه استعمل وسائل الدولة، عجز عن الوصول حتى إلى المرتبة الثالثة وجاء في المركز الخامس بـ7,3 في المائة من الأصوات.
أما أبناء حركة نداء تونس المشتتون في أحزاب مختلفة والمترشحون للاستحقاق ذاته عجزوا حتى على الوصول إلى نسبة 1 في المائة، حيث حصل سعيد العايدي على 0,3 في المائة ومحسن مرزوق على 0,2 في المائة وسلمى اللومي على 0,2 في المائة وناجي جلول 0,2 في المائة.
بدوره لم ينجح مرشح حزب البديل التونسي مهدي جمعة في إقناع الناخبين حيث لم يتحصل إلا على 1,8 في المائة من الأصوات، رغم أن حملته اعتمدت بشكل كبير على مقولته إنه يمثل "النظام الجديد" في محاولة منه للظهور على أنه لا ينتمي للمنظومة الحالية، إلا أن تجربته السابقة في الحكم وما قدمه من طروحات لم تمسّ فئات واسعة من الناخبين الباحثين عن التجديد خاصة أنها لم تقدّم أمرًا خارجًا عن المألوف أو سياسة جديدة أو حديثًا عن استعادة السيادة الوطنية.
حركة النهضة بدورها تلقت صفعة لم تشهد لها مثيلًا في جميع المواعيد الانتخابية بعد الثورة، حيث لم يحصد مرشحها عبد الفتاح مورو إلا 12,8 في المائة ليحلّ بذلك في المرتبة الثالثة. وتعدّ هذه النتيجة خسارة للحركة مقارنة بنسبة الأصوات التي تحصلت عليها سنة 2014 وهي تعادل تقريبًا نصفها، وهو ما يدلّ على تراجع قدرة النهضة على الإقناع بتمثيلها للثورة التونسية. كما يبدو أن الناخبين حمّلوها، هي أيضًا، مسؤولية الفشل والأوضاع التي آلت إليها البلاد رغم أنها دائمًا ما تصرّ على أنها لم تحكم بمفردها.
حتى أن مرشح حزب الحراك ورئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي لم ينجح في هذا الاستحقاق وتلقى خسارة اعترف بها لاحقًا، وهو الذي دائمًا ما يحرص على تقديم نفسه في مختلف خطاباته على أنه أحد أبناء الثورة.
هذه النتائج تدلّ على عجز اليسار التونسي في إقناع التونسيين ببرامجه ورؤاه وإصلاحاته
في حين حصل المترشح المستقل عبد الكريم الزبيدي على 10,7 في المائة واحتلّ بذلك المركز الرابع، متفوقًا على رئيس الحكومة. وعلى الرغم من الترحيب والشعبية التي لقيها إثر وفاة الباجي قائد السبسي إثر مساهمته في تنظيم جنازته فيبدو أنه لم ينجح في المقابل بإقناع الشباب الغاضب على منظومة الحكم خاصة وأنه قدّم نفسه كامتداد للتيار الذي انتمى إليه الباجي قائد السبسي وحصل على دعم كلّ من حزبي نداء تونس وآفاق تونس.
اليسار التونسي بدوره لم يسلم من هذا الزلزال السياسي، بل جاءت نتائجه مخيّبة للآمال ولم ينجح أي من المترشحين الثلاث عن هذا التيار في الحصول على نسبة تتجاوز الواحد في المائة، إذ تحصل المترشح منجي الرحوي على 0,8 في المائة والمترشح حمة الهمامي على 0,7 في المائة، أما عبيد البريكي فتحصل على 0,2 في المائة، علمًا وأن حمة الهمامي قد تحصّل على 7 في المائة من الأصوات سنة 2014.
هذه النتائج تدلّ على عجز اليسار التونسي في إقناع التونسيين ببرامجه ورؤاه وإصلاحاته التي يراها في ظلّ انغماسه في الصراعات السياسية عوض استغلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لتقديم طروحات تتماشى مع هذا العصر وتقنع فئة الشباب بشكل خاص. كما تؤكد أن اليسار التونسي بقي أسيرًا لخطاب "معارض" لا يطرح بدائل فعلية وحقيقية، وفق مراقبين، ليتراجع صداه مقابل صعود ما يسمى بـ"التيارات الشعبوية".
في المقابل، فإن بعض المترشحين لم يخسروا تمامًا في هذا الاستحقاق، بل كانت خسارتهم نسبية، لعلّ أبرزهم مرشح حزب التيار الديمقراطي محمد عبو الذي حاز على 3,6 في المائة، هو يقدم خطابًا رغم أنه لا يتقاطع مع خطاب قيس سعيّد فقد يلتقي معه في أرضية مشتركة.
مرشحة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي استطاعت بدورها الحصول على 4 في المائة من الأصوات، وهي التي تقدّم خطابًا يعادي المنظومة الحالية ولكنه ينادي بإعادة المنظومة السابقة من خلال طرح تعديل الدستور والعودة إلى النظام الرئاسي.
المثير للانتباه كذلك هو نسبة الإقبال على التصويت المسجّلة، حيث لم يصوّت إلا 3 ملايين و372 ألف و746 ناخب من جملة 7 ملايين و74 و566 ناخب مسجّل، أي بنسبة تعادل 47,6 في المائة، مقابل 64 في المائة سنة 2014. وتعدّ مقاطعة الانتخابات تعبيرة أخرى من التعبيرات التي اختارها الناخبون التونسيون للتعبير عن رفضهم لكلّ المترشحين المتقدمين بل وللمنظومة ككلّ أصل.
هذه الأرقام تعكس في الواقع، وفق المتابعين للشأن التونسي، فشل النخبة السياسية، سواء كانت في الحكم أو المعارضة، في الخروج من برجها العاجي ومخاطبة أبناء الشعب والتأثير فيهم مباشرة، وانغماسها في صراعات سياسية ونقاشات تقوم على الصراخ وخلافات لا تُعرف لها نهاية. كما بدا "اقتسام الكعكة" بين مختلف المكونات التي حكمت البلاد أهم من الاستحقاقات التي دفعت بالشعب إلى الخروج إلى الشوارع والمناداة بإسقاط النظام بين ديسمبر/ كانون الأول 2010 وجانفي/ كانون الثاني 2011، وهو ما دفع بهذا الشعب إلى الابتعاد تدريجيًا عن الطبقة السياسية قبل أن يفقد ثقته نهائيًا بها.
وهو في هذا المجال لم يفرّق بين أطراف حاكمة ومعارضة، خاصة أنه بالنسبة له، مجرّد وصول أحزاب المعارضة للبرلمان يعني أنهم باتوا جزءًا من السلطة، وهو يرى أنهم لم يقوموا بدورهم داخل المؤسسة التشريعية التي أصبحت في المخيال الشعبي "كاراكوزًا" يجتمع داخله ممثلو الأحزاب للصراخ والنقاش دون أداء أي عمل حقيقي.
وهذه النتائج تجعل النخبة السياسية مدعوّة اليوم للاستفاقة "لطخة" الزلزال السياسي لدراسة نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية والعمل على تداركها ومغادرة أبراجها العاجية والاقتراب من الشعب الذي بدا جليًا أنهم فهم الديمقراطية بشكل جيد بل وأتقن ممارستها بشكل قلب معه كل الانتظارات والتوقعات والحسابات، مستخدمًا في ذلك ثورة الصناديق.
وقد يتعيّن على هذه النخبة أن تتعلّم الديمقراطية من هذا الشعب عوض أن تشتمه أو أن تسخر من خياراته وأن تعمل على القيام بمراجعاتها الضرورية لإعادة اكتساب ثقته.
اقرأ/ي أيضًا:
المناظرات الرئاسيّة.. عن الأفكار والبرامج في السباق التونسي
من أبطالها الرياحي والشاهد ومورو والزبيدي.. حمّى الأكاذيب والتكذيبات