لم تكن نتائج الدّور الأوّل للانتخابات الرئاسية زلزالًا إلاّ بقدر استهانة النّخب الإعلامية والسياسية بتوقّعات متداولة حول صعود مُرشّحين من خارج صناديق الأحزاب وأجهزة الدّولة وأمنيات المتابعين التقليديّين للشّأن التونسيّ داخل البلاد وخارجها. فبين قائل باستحالة صعود من لم تكن وراءه "ماكينة" أو جهاز يحشد قبل يوم الاقتراع وأثناءه، وبين متيقّن في انعدام حظوظ من لم تكن وراءه موازين قوى المال والأعمال ومطمئنّ إلى سُهولة الحيلولة دون صعود من يبدو أنّ الحكومة لم تكن راضية عن وجوده كمرشّح فسهّلت أو عملت على إيداعه السّجن، بين كلّ هذا وذاك ضاعت المُعطيات والصّورة اللهمّ بعض التحذيرات من زلزال قادم.
هذا الزلزال السياسيّ يحمل في الواقع عددًا كبيرًا من الرسائل وهو حظيرة لأكثر من أسئلة حول المجتمع في تونس
اقرأ/ي أيضًا: هل تنجُو نتائج الانتخابات الرئاسيّة من التشكيك والتخوين والمواقف الاحتجاجيّة؟
وفي كلّ الأحوال فقد انهارت التصوّرات السائدة والحسابات الشّائعة حول دور السفارات والنّخب لتتأكّد إمكانيّة إسقاط كلّ حساباتها وآمالها عبر الصّندوق، وإلى حدّ كبير يمكن الجزم بأنّ النتائج قد حقّقت لعموم التونسيّين فخرًا مفاجأة بكونهم أحرارًا في قرارهم وما من قوى تستطيع تغيير مجرى إرادتهم. لقد أطاحت هذه الانتخابات بالمعوّلين على تأطير اللعبة الديمقراطيّة في تونس حزبيًّا وتنميطها على شاكلة مراحل ازدهار النظام الديمقراطيّة التمثيليّ في الغرب.
هذا الزلزال السياسيّ يحمل في الواقع عددًا كبيرًا من الرسائل وهو حظيرة لأكثر من أسئلة حول المجتمع في تونس، ولا يتعلّق ذلك فقط بالفائزين في الدّور الأوّل فقط وإنّما بالنتائج وتفصيلاتها وترتيب المرشّحين وتقاطع ما حقّقوه مع الفئات العمريّة والجهات وغيرها. بيد أنّنا في هذا المقال ستركّز على ما نعتبره رسائل أوليّة رئيسية.
فإذا كانت نتائج الدور الأوّل هزيمة للسّياسة، قبل الثورة وبعدها، وللأحزاب وللتنظيمات وموازين القوى وللبرامج أيًّا تكن وجاهتها المُفترضة، فمن المُنتصر؟ وكيف يمكن فهم ظاهرتي قيس سعيّد ونبيل القروي؟
ثمّة أوّلًا عنصر رئيسيّ في فهم هذا الزّلزال ويتمثّل في أنّ التجربة التونسيّة تعيش عصرها على النّحو الأمثل وأنّها لا تجترّ التجارب الديمقراطية الكلاسيكيّة من حيث بناء أحزاب كبيرة تتداول على السّلطة. وهي بهذا المعنى وصلت إلى الشيخوخة مع بقيّة الديمقراطيات الغربيّة العريقة في وقت قياسيّ. وكما شهدت فرنسا صعود ماكرون من خارج الحزبين الكبيرين، ووصل ترامب إلى سدّة الرئاسة وبولزونارو في البرازيل وبوريس جونسون في بريطانيا، كذلك صعّد المزاج الشعبيّ التونسيّ شخصيّتين من خارج المؤسّسات ولا تتمتّعان برضاهما، حتّى وإن اعتبرنا نبيل القروي ابنًا شرعيًّا وعاقًّا – إلى حدّ ما – لها. فالتجربة التونسيّة بنت عصرها والتونسيّون بأكثر من معنى اختصروا مسافات القرن العشرين نحو الأزمات الهيكليّة للمنظومات الدولتيّة الديمقراطيّة.
لا نميل إلى اعتبار جدّي في فهم ظاهرة قيس سعيّد لسبب بسيط وهو أنّ حملته لم تقم البتّة على أيّ فكرة أو برنامج إلاّ بصفة ثانويّة وإنّما تمحورت حملته حول شخصيّته ومصداقيّته
اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية 2019.. انتخابات بلا نقاش ودون أفكار؟
وعليه فإنّ فهم نتائج الانتخابات التونسيّة يجدر أن يندرج ضمن فهم أوسع وأكثر تواضعًا لأزمات كونيّة أوسع تتعلّق بالدّولة والديمقراطيّة والحداثة والأخلاق، وهي ولئن بدت أسئلة فلسفيّة إلاّ أنّها شديدة الارتباط بما يعرفه التّونسيّون من تحوّلات عميقة عبّرت عنها هاته الانتخابات.
ومنذ إعلان النّتائج بدأ عديد المتابعين بمحاولة اقتفاء الآثار الفكريّة لقيس سعيّد وللمحيطين به، وثمّة من ذهب بعيدًا في تحليل نصوص بعضهم على غرار رضا المكّي (زعيم يساري سابق معروف برضا لينين)، بيد أنّا لا نميل إلى اعتبار جدّي في فهم ظاهرة قيس سعيّد لسبب بسيط وهو أنّ حملته لم تقم البتّة على أيّ فكرة أو برنامج إلاّ بصفة ثانويّة، وإنّما تمحورت حملته حول شخصيّته ومصداقيّته وما يعتبره النّاس قيمة أخلاقيّة علميّة، لا بالمعنى البيروقراطيّ وبمعاني الرتبة الأكاديمية فحسب وإنّما بمعاني النزاهة والقيمة الأخلاقيّة للمعرفة. ولا شكّ أنّ إحدى معالم هاته القيمة الأخلاقيّة هي خصال مميّزة للصلاح على غرار التواضع، وأسبقيّة الصمت على الكلام واستقامة في اللغة الفصحى لا تشوبها الدارجة إلاّ نادرًا. ونحن فيما أبداه عدد مهمّ من التونسيين من ثقة في قيس سعيّد إزاء ولاء ذي عمق أخلاقيّ وثقة لا علاقة لها إلاّ قليلًا بالعقل والأفكار والبرامج إن وجدت وأيًّا تكن.
وفي حالة نبيل القروي الذي يتّهمه البعض بالفساد، فنحن إزاء سرديّة شعبيّة لا تهتمّ ولا تريد أن تهتمّ أصلًا بما راج من تسريبات وغيرها ممّا يمكن أن يهزّ صورة أخلاقيّة معيّنة. فنبيل القروي في تصوّرات ناخبيه ومُعظمهم ممّن لم يُتح لهم حظّ كبير من التّعليم، هو من انتبه لمآسيهم وسهّل مساعدتهم وتضامن معهم لا طمعًا في أصواتهم كما يروّج خصومه وإنّما من مُنطلق الإحساس بالمحنة وهي في هذه الحالة محنة فقدان ابنه. فنبيل القروي هو أيضا الأب المفجوع في ابنه والذي رزقه الخالق بتوأم، ولدين، تعويضًا له على ابتلائه في "خليل" وإكرامًا له على قبوله بالابتلاء وانطلاقه في فعل الخيرات على إثرها: إنّها بكلّ المعاني صورة أقرب ما تكون إلى ما يرتسم في الوعي الجمعيّ من صور الأولياء الصالحين في الثقافة الشعبيّة.
إنّ الزلزال التونسيّ هو في الواقع بحث عن المعنى في متاهة الدّولة والسّياسة التي تغلغلت في كلّ نواحي الحياة الخاصة والعامّة
في الواقع يمكن افتراض أنّ التونسيّين في اختيارهم لقيس سعيّد ونبيل القروي، يتجاوزون التمييز المُفترض في عالم السياسة والدولة الحديثتين بين الحقيقة العقليّة والواقعيّة من جهة، والقيمة بمعناها الأخلاقيّ من جهة أخرى، ليقفزوا على الأولى انحيازًا للثانية. وبمعاني أخرى يمكن القول إنّ التونسيّين يتجاوزون مركزيّة العقل والمنطق والبرامج التي تفترضها السّياسة الحديثة دون الوقوع في فخّ الولاءات الجهويّة أو العائليّة أو الهووية بصفة أعمّ. والديمقراطيّة التونسيّة تطرح سؤال الأخلاق والسّياسة الحديثة من مُنطلق إعادة اعتبار للمركزيّة الأخلاقيّة والتي لا يجدر خلطها مع العاطفيّة أو الانطباعيّة.
ومن زاوية فكريّة، ثمّة الكثير ممّا يمكن تعلّمه أو الاستناد إليه في تحليل هذه المركزيّة الأخلاقيّة التي تُعلي ما ينبغي أن يكون على ما هو كائن في تصوّرات تايلور حول الأخلاق وعلويّة ما يعتبره أخلاقًا حقيقيّة Substansiveethics في مقابل ما أنشأته الحداثة من أخلاق إجرائيّة أي تلك الأخلاق التي نبرّرها عقليًّا بطريقة حرة ومستقلّة قد تصل إلى الانقلاب التامّ على القيمة – ما ينبغي أن يكون – في تصوّرات نيتشه. وربّما وجد التونسيّون على غرار غيرهم في بقيّة أنحاء العالم أنّ السياسيّين التونسيّين قد أسرفوا غرقًا فيما هو كائن حقيقة وواقعًا وما يرتبط به من التبرير والتفسير وحسابات الواقع وموازين القوى على حساب القيمة في عالم ترتبط أزمته الديمقراطية بأزمة أخلاقيّة عميقة.
إنّ الزلزال التونسيّ هو في الواقع بحث عن المعنى في متاهة الدّولة والسّياسة التي تغلغلت في كلّ نواحي الحياة الخاصة والعامّة، وفي غضون هذه المتاهة بدا أنّ الإفلاس الأخلاقيّ للفعل السياسيّ وللدّولة مدوّيًا. لكن هل يمكن استعادة مركزيّة الأخلاق من داخل الفعل السياسيّ والدّولة على النّحو الذي يتطلّع إليه النّاس؟ هل يمكن للدّولة وللفعل السياسيّ أيًا يكن شكله مركزيًا أو لا مركزيًّا أن يكون أخلاقيًّا في نطاق ما هو كائن؟ ذلك هو التحدّي الرئيسيّ لمن يُعلّق التونسيّون عليه آمالهم.
اقرأ/ي أيضًا:
المناظرات الرئاسيّة.. عن الأفكار والبرامج في السباق التونسي
من أبطالها الرياحي والشاهد ومورو والزبيدي.. حمّى الأكاذيب والتكذيبات