07-يونيو-2019

إن السلطة بلا تلفزيون هي في نظر السياسيين سلطة ناقصة ومعاقة (Getty)

 

لا يمرّ يوم دون أن نسمع اتهامات توجه إلى أطراف عديدة وتحذيرات من استخدام الميديا بشكل عام والتلفزيون على وجه خاص للتلاعب بالانتخابات المقبلة، إذ تتهم باستمرار بعض التيارات السياسية الحكومة بأنها تسعى إلى السيطرة على الميديا والتلفزيون على وجه الخصوص لتوظيفها لمصالحها الانتخابية وخدمة صورتها، فيما تتهم الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري نبيل القروي بتطويع قناته الخاصة لمطامحه السياسية الشخصية خاصة بعد إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية. ويحيل الجدل حول التلفزيون إلى رهان التنافس على السلطة السياسية بواسطة الميديا أو بالوسائل الجديدة أي الاتصال والتسويق وكل أساليب التأثير فيما يسمّى "الرأي العام" وفي نوايا تصويت التونسيين وفي آرائهم السياسية.

سعى الإطار التشريعي الجديد وخاصة المرسوم 116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري حماية التلفزيون من إستراتيجيات التلاعب عبر الإعلاء من شأن التعددية وترسيخها كمبدأ من المبادئ المرجعية التي يقوم عليها المشهد التلفزيوني. كما تضمن كراسات الشروط عدة آليات لحماية التلفزيون الخاص من استراتيجية التلاعب به من طرف مالكيه. وقد يستغرب البعض من هذه الفكرة، أليس التلفزيون الخاص الحاصل على الإجازة القانونية ملكًا حلالًا لصاحبه يفعل ما يشاء؟

إن التلفزيون مؤسسة اقتصادية ليست ككل المؤسسات الأخرى لأنها ذات علاقة بالسياسة وحقوق الغير (أي سمعتهم) وبالتنشئة الاجتماعية وبحماية المواطنين كمستهلكين من مخاطر الإشهار الزائف. وتجعل كل هذه الأسباب من التلفزيون مؤسسة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في الوقت ذاته مما يستوجب تعديلها أي إخضاعها إلى مبادئ ومعايير تحقق التوازن بين مصالح الجمهور والمجتمع من جهة والمصالح الاقتصادية للمؤسسة من جهة أخرى دون أن ينال هذا التوازن من حرية مؤسسات الميديا.

إن التلفزيون مؤسسة اقتصادية ليست ككل المؤسسات الأخرى لأنها ذات علاقة بالسياسة وحقوق الغير (أي سمعتهم) وبالتنشئة الاجتماعية وبحماية المواطنين كمستهلكين من مخاطر الإشهار الزائف

اقرأ/ي أيضًا: ما العمل ليكون لنا التلفزيون الذي نستحق؟

ومن الآليات الصارمة التي وضعتها كراسات الشروط منع الإشهار السياسي في الإذاعة والتلفزيون، إذ نص الفصل 51 أنه "يحجر على القناة التلفزية الحاصلة على إجازة بث برامج أو إعلانات أو ومضات إشهار لفائدة حزب سياسي أو قائمات مترشحين مقابل أو مجانًا كما لا يمكن تبني البرامج من قبل الأحزاب السياسية".

لقد تعاظمت حاجة الأحزاب والقوى السياسية إلى أساليب الاتصال والتسويق في سياق عزوف التونسيين عن السياسة والشأن العام واختصار السياسة في أساليب التنافس على السلطة وإدارتها واستبعاد المواطنين بشكل أو بآخر. ولعلّ تعدّد أشكال الصراع على التلفزيون يمثل مؤشرًا على طبيعة الانتقال الديمقراطي وأعطابه وأمراضه. فعزوف التونسيين عن الحياة السياسية حوّلهم، على نحو ما، من مواطنين إلى مستهلكين أو زبائن. وعلى هذا النحو، فإن أزمة الانتقال الديمقراطي هي أزمة الديمقراطية بما أنها سلطة (cratos) الناس (demos) بأنواع أخرى من السلطات الخفية أو الظاهرة لعل أهمّها سلطة الاتصال والتسويق أو سلطة الميديا بشكل عام. 

في السياقات الراهنة، عندما تمرض الديمقراطية أي عندما يتراجع أدوار الناس كمواطنين مشاركين فاعلين في الحياة السياسي،  يتعاظم دور المنظومات التي تسعى إلى الحصول على ولاء المواطنين عبر تقنيات التأثير والاتصال والتسويق. ويعتبر الفيلسوف الفرنسي  بارنارد ستيغلار (Bernard Stiegler) أن الديمقراطية يطاردها باستمرار شبح ما يسميه "التيلقراطية" (Télécratie) أي تلك المنظومات التي تتيح إدارة الناس عن بعد (Télé) والسيطرة على إرادتهم بتقنيات خفية.

 

 

ألف بارنارد ستيغلار كتابًا بعنوان "التيلقراطية ضد الديمقراطية"

إذ يسعى السياسيون والقوى الاقتصادية إلى امتلاك التكنولوجيات "التيلوقراطية" وخاصة التلفزيون لتحويل المواطنين إلى حشود يحكمها التلفزيون والميديا الرقمية بشكل عام والتحكم في "الرأي العام" عبر آليات الاتصال والتسويق عن بعد بل إن ستيغلار يعتقد أن هذه المنظومات حولت "الرأي العام" إلى حشود خاضعة إلى إستراتيجيات التسويق والاتصال، حشود منفعلة  أو جموع من الناظرين إلى المشهد السياسي.

جينيالوجيا سلطة التلفزيون الجديدة؟

كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أول من طمح إلى إدارة عقول التونسيين عن بعد بواسطة التلفزيون، إذ كان يرى في تجهيز التونسيين بالتلفاز أمرًا إستراتيجيًا بالنسبة لحكمه ولسلطته . "من يوم أن أصبحت الدولة تحت مسؤوليتي وتحملت أعباء أمانتها الكبرى صار من الصعب علىّ أن أتصل مباشرة بكل الأفراد.. وهاهي أجهزة التلفزة أتاحت الفرصة لجميع المواطنين كي يستمعوا إليَ ويروني في الوقت ذاته وكأنني في بيوتهم أتدارس معهم شؤونهم ومشاكلهم.. على أن هذا يستوجب أن يكون لكل عائلة جهاز وذلك ما جعلنا حريصين على تخفيف تكاليفه حتى صارت اليوم دون المائة دينار." (من خطاب بورقيبة يوم 31 ماي/آيار 1966 - التلفزة نقطة تحوّل).

هكذا أدرك الرئيس الراحل منذ الستينيات أن التلفزيون تكنولوجيا سياسية بامتياز. وقد تربّت النخب السياسية منذ ذلك الوقت على أن التلفزيون أداة أساسية لممارسة السلطة يجب الحفاظ عليها وحراساتها بقوات الأمن. والتلفزيون، من هذا المنظور، تكنولوجيا أساسية من تكنولوجيات "التيلوقراطية" كما يعرّفها ستيغلار.

وتتجسد "التيلوقراطية" في سلطة التلفزيون الجديدة في سياق الانتقال السياسي، فالتلفزيون، ورغم تنامي مكانة الميديا الاجتماعية (فيسبوك)، لا يزال يؤدي أدوارًا أساسية في الحياة السياسية بل هو لا يزال يمثل على الأقل في مخيال السياسيين الوسيلة الأحسن والأمثل لإدارة التنافس على السلطة من جهة أولى وللبحث عن ولاء المواطنين من جهة ثانية. وهو ما قد يفسر الاعتقاد في الدور السحري للتلفزيون بما أنه أداة لإدارة العقول عن بعد، وما قد يفسر أيضًا إحجام السياسيين عن إصلاح التلفزيون العمومي وخاصة حوكمته رغم الطابع المستعجل لهذا المطلب منذ 2011 حفاظًا على مصلحة النخب السياسية الجديدة في إمكانية التحكم في التلفزيون بشكل مخاتل. إن السلطة بلا تلفزيون هي في نظر السياسيين سلطة ناقصة ومعاقة لا معنى لها لأنه جزء من بهرج النفوذ. 

 لا يزال يمثل التلفزيون في مخيال السياسيين الوسيلة الأحسن والأمثل لإدارة التنافس على السلطة وللبحث عن ولاء المواطنين 

اقرأ/ي أيضًا: "كيف سننتخب؟": كيف يمكن أن تؤثر الصحافة والميديا في الانتخابات المقبلة؟ (4/4)

شهدت العلاقة العضوية بين السياسة والتلفزيون، التي لا تمثل خصوصية تونسية، تحولات ذات بال لابد من الانتباه إليها. وقد يكون التحول الرئيسي الذي يستحق التفكير هو العلاقة الجديدة التي أضحت تربط التلفزيون بالسلطة السياسية وهي علاقة لم تعد قائمة على التبعية الكاملة. وعلى هذا النحو، فإنه لا يجب أن ننظر إلى ترشح مؤسس قناة "نسمة" (أو مديرها الفعلي حسب  منتقديه) إلى الانتخابات الرئاسية من زاوية تطويع مؤسسة تلفزيونية وتوظيفها إلى مطامح شخصية فقط كما يعتقد كثيرون لأن الأمر أعمق من ذلك، فهو ليس الشخصية الإعلامية الأولى التي تنخرط في العمل السياسي. توجد أمثلة كثيرة تبيّن هذا التداخل بين عالمي السياسة والتلفزيون على غرار باعث قناة "حنبعل" الذي ترشح للانتخابات الرئاسية، ومالك قناة "الجنوبية" الذي أسّس حزب "حركة التونسي للحرية والكرامة"، وأيضًا أحد مالكي قناة "التاسعة" الذي انخرط في حزب تحيا تونس إضافة إلى محمد الهاشمي الحامدي صاحب قناة "المستقلة".

تبين كل هذه الأمثلة أن التلفزيون يريد أن يصبح سلطة تكاد تكون مستقلة بذاتها (أي أنها ليست في خدمة السلطة السياسية) غير خاضعة بالضرورة إلى منطق السلطة السياسية كما كان الأمر لفترة طويلة، وكأن الأمر يتعلق بانقلاب ما في العلاقة بين المؤسسيتين. وثمة مشهد يمكن أن يجسّد هذا التحول في علاقة التلفزيون بالسياسة، إذ كان باعث قناة حنبعل يستقبل السياسيين الجدد في الأشهرالأولى التالية لسقوط النظام القديم في مكتبه وفق طقوس يظهر فيها وكأنه صاحب الجاه والسلطة.

التلفزيون واقتصاد السلطة الجديد

ترتبط التحولات بين السياسة والتلفزيون أو صعود سلطة التلفزيون بعملية الانتقال السياسي الذي يؤدي إلى نتائج متنوعة ومتعددة على أنظمة السلطة في الدولة والمجتمع. ينحسر نفوذ السلطات القديمة وتظهر سلطات جديدة إما بواسطة القوانين المستحدثة أو بواسطة لعبة القوى الجديدة، فقد أصبح المعارضون يمسكون بالسلطة التي كان تلاحقهم، كما بات يتمتع بالنفوذ من كان هامشيًا. هكذا انتقلنا من نظام يحتكر فيه رجل واحد أو حزب واحد كل السلطات إلى نظام مختلف تتوزع فيه السلطات إلى حدّ يشعر فيه التونسيون بالفوضى بسبب تحلل السلطة المركزة القوية إلى سلط متعددة، مما قد يفسر الحنين إلى الزعيم القوي الحازم الماسك بزمام الأمور.

 تمثل الميديا والتلفزيون على وجه الخصوص مجالًا من المجالات التي يتجسد فيها منطق إعادة تشكل السلطة ومواردها وآليات النفاذ إليها

لا تتشظى السلطة المركزية إلى سلطات فقط بل تفقد أيضًا قدسيتها، وهكذا أصبح التنافس على منصب الرئيس ممكنًا للجميع ويطمح إليه كل من يعتبر نفسه قائدًا ممكنًا للتونسيين حتى ولو كان يعلم أنه يمكن أن يثير سخريتهم.

في هذا السياق بالذات، تمثل الميديا والتلفزيون على وجه الخصوص مجالًا من المجالات التي يتجسد فيها منطق إعادة تشكل السلطة ومواردها وآليات النفاذ إليها وامتلاكها. فقد كانت الميديا (والصحافة) تابعة للسلطة السياسية التي تحكمت فيها طيلة خمسين سنة، وكان التلفزيون مؤسسة من مؤسسات الدولة الإيديولوجية بتعبير الفيلسوف الفرنسي لوي آلتوسير.

بشّرت الثورة بسلطة الصحافة الجديدة كما في كل الديمقراطيات الأصيلة، حينما تصبح الصحافة سلطة رابعة تراقب كل السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية والقضائية باعتبارها تمثل الناس و"الرأي العام". هكذا رفع الصحفيون في الأشهر الأولى بعد الثورة شعار "الصحافة سلطة رابعة" تماهيًا مع هذا المخيال الكوني للصحافة باعتبارها سلطة وتأكيدًا على الأدوار الجديدة للصحفيين كحراس الديمقراطية "Watchdog"، وذلك عبر صحافة تراقب السلطة السياسية، وتحقق في قضايا الشأن العام كاشفة للفساد ولما يريد السياسيون إخفاؤه، وتستقصي وتكون أمينة على حق الناس في الحقيقة وفي المعرفة.

لم يستطع الصحفيون التونسيون تأسيس هذه السلطة الرابعة أو تأمين شروط ديمومتها بل إنهم وجدوا أنفسه، بشكل أو بآخر، يعملون طواعية أو بالإكراه في منظومات "تيلوقراطية" وظيفتها الأساسية إدارة الصراع على السلطة أو تحويلها إلى أدوات للحصول على السلطة. 

تأثيرات التلفزيون على الحياة السياسية

أضحت العلاقة بين السياسة والتلفزيون معقدة ومتحوّلة إذ يبحث السياسيعن السيطرة على التلفزيون بطرق خفية ومستترة وبتحالفات معقدة  لتحويله إلى وسيلة من وسائل إدارة السلطة وكسب ولاء التونسيين. وهكذا سعت القوى السياسية الجديدة منذ سنة 2011 للسيطرة على الميديا بوسائل جديدة وبأشكال مختلفة مستترة عبر أنواع متعددة من التأثيرات والنفوذ: تعيينات في الميديا العمومية، وتمويل مباشر، والدعم (أو الضغط ) غير المباشر عبر الإشهار عدا عن إنشاء قنوات تلفزيونية جديدة وبديلة.

لكن علاقة التلفزيون بالسياسة لا يمكن اختزالها في هذا المستوى فقط أي في تأثير السياسة في التلفزيون وفي إستراتيجيات الاستحواذ عليه، لأن العكس أيضًا لا يقل أهمية. فالتلفزيون يحمل نتائج وخيمة على الحياة السياسية لأنه يحولها إلى مشهد، فالنواب يصممون خطاباتهم وفق مقتضيات المشهد التلفزيوني حتى أنهم يكاد يتحولون إلى "نجوم تلفزيونية"، كما أن العديد من النواب يحددون حضورهم في المجلس بالنقل التلفزيوني ويعتبرون الظهور في الشاشة عبر الخطابة تطويرًا هامًا لصورتهم.

لقد أصبح التلفزيون يمثل إكراهًا حقيقيًا للحياة السياسية، فكل ما لا يظهر في التلفزيون يبدو وكأنه غير موجود. ولهذا يبحث السياسيون عن الظهور التلفزيوني وكأنه شرط البقاء على قيد الحياة سياسيًا.

تبين كل المؤشرات إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون مسرحًا لاختبار كل أساليب "التيلوقراطية" القائمة على التحكم في إرادة التونسيين عن بعد بواسطة تقنيات الاتصال المخاتلة 

من جهة أخرى، يحتاج التلفزيون للسياسيين لتغذية برامجه وحتى يقوم بدوره في المجال السياسي، وكانت هذه الحاجة قوية جدًا خاصة بين 2011 و2014. وكانت البرامج تصمم على أنها مواجهة مباشرة بين غريمين يتصارعان، فاصطبغت السياسية الديمقراطية الجديدة بمنطق التلفزيون، فالسياسي الجديد بليغ ويجيد فن الخطابة على عكس التكنوقراط، حتى كادت السياسة أن تُختصر في إتقان فن البلاغة وتكتيكات المواجهة الرمزية في الأستوديو-الحلبة أما أنظار التونسيين. هكذا يمكن القول أن السياسة أصبحت تُمارس في التلفزيون بلغته وبمنطق بما أنها تحولت إلى مشهد.

تبين كل المؤشرات إلى أن الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة ستكون مسرحًا لاختبار كل أساليب "التيلوقراطية" القائمة على التحكم في إرادة التونسيين عن بعد بواسطة تقنيات الاتصال المخاتلة وإيهامهم في الوقت ذاته بأنهم يشاركون في المغامرة الديمقراطية.   

يمثل التلفزيون في الديمقراطية التونسية الناشئة عنصرًا محوريًا بما أنه جزء من منظومة السلطة بالمعنى الواسع لهذه الكلمة أي آلية يستخدمها الفاعلون السياسيون بشكل عام للتنافس على السلطة (أو كل أنواع السلطات) وإدارتها. وعلى هذا النحو، كان التلفزيون منذ تأسيسه عام 1966 إلى سقوط النظام السابق آلية من آليات "المجتمع الانضباطيّ"، فيما تحول بعد 2011 إلى وسيلة في خدمة إستراتيجيات التحكم في التونسيين (عن بعد) بشكل مخاتل ومستتر وفق أساليب التسويق والاتصال السياسي المتنوعة، وهو ما قد يكون مؤشرًا على أن الديمقراطية التونسية الناشئة قد تكون تحوّلت إلى ديمقراطية شكلية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟

الصحافة التونسية أمام امتحان "الشعبوية"