16-يناير-2021

لا يزال روّاد قاعة الكازينو بجندوبة يضجّون بذكريات عاشوها منذ الصغر(إيمان السكوحي/ ألترا تونس)

 

"سرقت من أجل السينما فسرقتني السينما" قالها يومًا صديق لي بأنفة حالم وقلب طفل صغير حين استرجع بداية مشواره مع السينما. وقتها لم يكن يملك ثمن تذكرة لحضور فيلم داخل قاعة "سينما الكازينو" ، فكان يتحايل مع أخيه الأصغر من أجل استنساخ تذكرة الخمسيمائة ملّيم لمشاهدة العرض. دخول القاعة وبريق الشاشة العملاقة أبهرته وألهمته ليكون اليوم مخرجًا على خطى العمالقة.

لكنّه تحسّر وقتها على حال هذه القاعة، فبعد أن كانت نبض شارع النخيل بمدينة جندوبة، أصبحت اليوم مقبرة أحلام آلاف العاشقين للفنّ السابع. فتتراءى لك بناية متهالكة الجدران، لكنّها صامدة بمقاومة المدافعين عن حقّ "سوق الأربعاء" في سينما عالي البنيان.

بعد أن كانت "الكازينو" نبض شارع النخيل بمدينة جندوبة، أصبحت اليوم مقبرة أحلام آلاف العاشقين للفنّ السابع. فتتراءى لك بناية متهالكة الجدران، لكنّها صامدة بمقاومة المدافعين عن حقّ "سوق الأربعاء" في سينما عالي البنيان

ماهو تاريخ قاعة الكازينو؟ وماهي حيثيات إغلاقها؟ وكيف لمدينة النصف مليون ساكن أن تحرم من الشاشة العملاقة؟

أسئلة تجيب عنها "الترا تونس" في هذا التقرير.

"الكازينو" ذاكرة تأبى النسيان

للجسد ذاكرة وللجدران ذاكرة أيضًا تحفظها أرواح أشخاص تعلّقوا بمكان أو معلم أو وطن. وهو حال جلّ روّاد قاعة الكازينو الذين لا يزالون يضجّون بذكريات عاشوها منذ الصغر. على غرار شكري المديوني، الرئيس السابق للجامعة التونسية لنوادي السينما، الذي كان لـ"ألترا تونس" لقاء معه قاسمنا فيه وجعه على ولاية من فرط ما هُمّشت حرمت حتّى من حقّها في الثقافة.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة في الشريط الوثائقي الروائي "غزالة ".. هشاشة ناصعة

"سينما الكازينو هي قصة عائلة بالنسبة لي فوالدي كان مراقب تذاكر في القاعة وأخي الدكتور محمد المديوني هو أول من أسس نادي سينما بجندوبة لذلك لا أستطيع إخفاء انتمائي لهذا المكان الذي يمثّل جزءًا مهمًّا من ذاكرتي ومسيرتي" هكذا تحدّث شكري لـ"ألترا تونس" عن سبب تعلّقه بالقاعة.

تتراءى لك بناية متهالكة الجدران، لكنّها صامدة بمقاومة المدافعين عن الحق في السينما (إيمان السكوحي/الترا تونس)

فمنذ أن كان في السابعة من عمره، كان يلتحق بالقاعة مباشرة بعد أن يكمل يومه الدراسي ليجد "بابا حمّودة" في انتظاره وفي يده "كسكروت بالمرقة" مازال يتلذّذ شكري بمذاقه الشهيّ إلى اليوم. يجلس محدّثنا في A1 وهو أفضل مكان في القاعة لينقطع عن العالم الحقيقي ويطلق العنان لخياله.

قاعة الكازينو لم تكن وجهة المثقّفين فقط، بل كانت وجهة العائلات بمختلف شرائحهم ووضعياتهم الاجتماعيّة فرغم أنّ أهالي المنطقة محافظون إلّا أنهم كانوا منفتحين على العالم من خلال ما يبثّ من أفلام في السينما أو ما تعرضه السيارة المتنقّلة بين الأحياء والأرياف لإذاعة أخبار بورقيبة آنذاك وعرض الأفلام في الهواء الطلق.

ويقول شكري المديوني: "لقد عايشت جميع أنواع الأفلام من الويستارن إلى الأفلام الهندية وخاصة الأفلام المصرية أيام فريد الأطرش وعبد الحليم وسعاد حسني.. وكانت اللحظة المفصلية في مسيرتي هي مناقشتي لمشهد في فيلم "Birds" للمخرج البريطاني هيتشكوك". وقتها كان كل عرض يشفع بنقاش باللغة الفرنسية ورغم صغر سنّ محدّثنا إلّا أنّه شارك بتساؤل جعل الجميع ينبهر لفطنته وما أحسّ به من فخر يومها جعله يؤسّس لمسيرة حافلة على امتداد عقود.

قاعة الكازينو لم تكن وجهة المثقّفين فقط، بل كانت وجهة العائلات بمختلف شرائحهم ووضعياتهم الاجتماعيّة فرغم أنّ أهالي المنطقة محافظون إلّا أنهم كانوا منفتحين على العالم من خلال ما يبثّ من أفلام في السينما

ويؤكد الرئيس السابق لجامعة نوادي السينما أنّ الثقافة دخلت جندوبة عن طريق السينما وأنّ النشاط الثقافي آنذاك كان مقاومًا سواء للرداءة أوالسائد وكان أداة نضال ضد السلطة زمن الدكتاتوريات  فلم يمرّ يوم عرض دون أن يكون هناك شخص يرصد التحرّكات ويكتب التقارير الأمنية على حدّ تعبيره، مضيفًا:" أتذكّر جيدًا بعض الشباب الذين كانوا يشتغلون في الأسواق والذين كان يرسلهم الحزب الدستوري لإثارة البلبلة في القاعة وتعطيل النقاش. ومع الوقت أصبح هؤلاء من أكبر الناشطين في النادي إذ لم يقع زجرهم بل وقع تأطيرهم ".

لهذه الأسباب أغلقت قاعة الكازينو

"Quand on aime la vie on va au cinéma" هي عبارة معلّقة داخل أروقة قاعة سينما الكازينو تشير إلى أنّه عندما نحب الحياة فإنّنا نذهب إلى السينما.

دبّت الحياة داخل هذه القاعة في أواخر الستينات مثلها مثل عديد قاعات السينما التي انتشرت في كامل الولايات  تحت إدارة السابتاك المختصّة في توريد وتوزيع الأفلام.

ولم يكن لأهالي المنطقة وسائل ترفيه غير السينما وكان المتنفّس قاعة عرض تسع أربعمائة شخص وتؤمّن ثلاثة عروض للأفلام على مدار اليوم.

 سينما الكازينو خلق حركية ثقافية وسينمائية كبيرة في جندوبة خاصة وأن الجهة وجهة للتلاميذ والطلبة المقيمين الذين كانوا يحضرون العروض بصفة دورية .

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "فترية".. "كثر الهمّ يضحك"

في أواسط الثمانينات، غيّرت الدولة سياساتها وتخلّت عن قطاع السينما إذ لم تعد تعتبره قطاعًا حيويًا وتركت مجال الاستثمار للخواص. وجاء قرار سياسي بحلّ السابتاك وعوض أن تحال قاعة الكازينو لوزارة الثقافة أحيلت للبلديّة التي قرّرت كراء مقرّها لأحد العملة بالقاعة حسب ما أكّده شكري المديوني لـ"ألترا تونس".

قاعة الكازينو لم تكن وجهة المثقّفين فقط، بل كانت وجهة العائلات بمختلف شرائحهم (إيمان السكوحي/ ألترا تونس)

هذا القرار أثّر سلبًا على نوعيّة الأفلام المعروضة التي أصبحت غايتها تجاريّة وليست تثقيفيّة. ووجد الجمهور نفسه أمام تدنٍّ في مستوى خيارات الفرجة إضافة إلى  انتشار الأفلام "série2-série3" والتي تضمّ مشاهد عنف أو مشاهد إباحيّة. أفلام لم تعد تلبّي الذوق العام لأهالي ورواد القاعة الذين تربّوا على نوعيّة راقية ودسمة من الأفلام.

تزامن هذا مع انهيار قيمة الدينار في أواخر الثمانينات الذي أغرق القطاع في المشاكل بالإضافة إلى دخول وافد جديد وهو شرائط الفيديو التي يقع اكتراؤها و بدأت حينها موجة غلق قاعات السينما من بينها قاعة الكازينو التي أغلقت سنة 1992.

وحسب تقارير صحفيّة فإنّ أكثر من مائة قاعة سينما أغلقت أبوابها منذ الثمانينات فيما تحوّلت قاعات أخرى إلى فضاءات تجارية أو متاجر أو قاعات ألعاب... وبعد أن كان هناك 95 قاعة سينما منتشرة في كامل ولايات الجمهورية عام 1957 فإننا اليوم لا نجد سوى عشر قاعات أغلبها متمركزة في العاصمة بالإضافة إلى قاعات العرض بمدينة الثقافة.

الحقّ في السينما حقّ دستوري

"من لم يشاهد عرضًا أو فلمًا من خلال الشاشة الكبيرة فهو لم يعش حياة لذيذة" هكذا وصف ثامر صالحي (29 سنة- طالب في كلية الحقوق) لـ"ألترا تونس" سحر الفن السابع.

شكري المديوني (الرئيس السابق لجامعة نوادي السينما): الثقافة دخلت جندوبة عن طريق السينما والنشاط الثقافي آنذاك كان مقاومًا سواء للرداءة أوالسائد وكان أداة نضال ضد السلطة زمن الدكتاتوريات

ثامر هو واحد من هواة السينما في جندوبة دخل هذا العالم إبان الثورة التونسية بدافع الفضول في إطار مهرجان نظّمه نادي السينما بجندوبة الذي احتضنه كابن وسحر بالأجواء ومن هناك انطلقت رحلته.

عشقه للسينما غيّر شخصيّته ونظرته للمجتمع وللعلاقات وحتى الإيديولوجيا التي كان يتبناها.

اقرأ/ي أيضًا: "الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

يحدّثنا ثامر عن موقفه من وضعيّة قاعة الكازينو قائلًا:"خلفيتي القانونية تجعلني أقول إن الحق في السينما حق دستوري. فكيف لا تملك مدينة النصف مليون ساكن فضاءً واحدًا مهيّئًا لعرض الأفلام؟ ألا يملكون حقّ التمتع بالفرجة وحقّ مواكبة التطور السينمائي الموجود في العالم أو ما يعرض من أفلام جديدة؟"

ويضيف أنّ التنمية لا تقتصر على الاقتصاد فقط بل يجب أن تشمل الثقافة وأنّ التنمية السينمائية من الروافد المهمّة لتأسيس مجتمع متوازن على حدّ تعبيره.

"إعادة فتح القاعة ستعيد بريق جندوبة وتحوّلها من منطقة معدومة إلى بلاد المثقفين" (إيمان السكوحي/ ألترا تونس)

واستنكر ثامر علاقة الدولة بالثقافة إذ لا يقع الالتفات لهذا القطاع إلا عند وقوع عملية إرهابية رغم أن الثقافة هي الجدار الأول لصدّ العنف والتطرف والإرهاب على حدّ تعبيره.

ويفسّر ثامر الصالحي لـ"ألترا تونس" الإشكال القائم بأنّه تضارب للمصالح بين أجهزة الدولة: البلدية ووزارتا الثقافة وأملاك الدولة، ويتساءل:"هل يتحمل المواطن مسؤولية هذا الصراع؟ فحتى من منطلق التمييز الإيجابي بين الولايات من واجب الدولة أن توفر له قاعة عرض وتحلّ هذا الإشكال خاصة أنه لا يحتاج الكثير من المال فالأرضية موجودة ينقصها فقط ترميم وتطوير".

شباب جندوبة وجد نفسه بين مطرقة الظروف الماديّة الصعبة وسندان دولة تماطل وتتعمّد ترك الأمر على حاله حسب ما أكّده لنا محدّثنا، مضيفًا أنّ شباب جندوبة متعدّد المواهب إلا أنّه لا يملك فضاءً مناسبًا، ولا مؤطرين ولا حتى من يدفعهم لصقل إبداعاتهم، وأولويتهم إيجاد مصروفهم اليومي إذ أنّ أغلبهم من المعطّلين عن العمل، وهكذا تختفي الموهبة وتضيع الأفكار المميّزة.

عشرات قاعات السينما أغلقت أبوابها منذ الثمانينات فيما تحوّلت قاعات أخرى إلى فضاءات تجارية أو متاجر أو قاعات ألعاب. وبعد أن كان هناك 95 قاعة سينما منتشرة في الولايات في 1957 لا نجد اليوم سوى 10 قاعات أغلبها متمركزة في العاصمة 

وحمّل ثامر الدولة مسؤولية هذا الوضع في جندوبة لأنها تغافلت عن دور الثقافة على حدّ تعبيره.

وختم حديثه قائلًا إن إعادة فتح القاعة ستعيد بريق جندوبة وتحوّلها من منطقة مهمشة ومعدومة إلى بلاد المثقفين والسينمائيين و"الناس الّي تحب تجنّح".

إشكال شائك وعالق

أكّد الرئيس السابق للجامعة التونسية لنوادي السينما شكري المديوني  لـ"ألترا تونس" أنّ هناك معركة شائكة حول ملكية قاعة الكازينو حيث أنّه كان سيقع التفويت فيها لتصبح مركزًا تجاريًا إلا أنّ النيابة العمومية أوقفت هذا القرار، بالإضافة إلى إشكال آخر يفسّره المديوني لـ"ألترا تونس" قائلًا:"منذ 2010 هناك مطلب جهوي بإحداث مركز فنون درامية بجندوبة ووقع اقتراح مقرّ قاعة الكازينو لهذا المشروع، ولكن في ذلك تعدٍّ على معلم أثريّ وموروث ثقافي سيقع تشويهه بالإضافة إلى أنّ مساحته لا تتجاوز 600 متر مربع، أي أنه لا يسع حتّى "Théâtre de poche".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "بابا هادي": حياة عرّاب الموسيقى التونسية كما رأتها حفيدته

وشدّد محدّثنا على أنّ وزارة الثقافة هي وزارة سيادية ولكنّ هناك استهتارًا في التعاطي مع الشأن الثقافي وهذا ما ساهم في تجميد الحركة الثقافية في تونس.

 كان سيقع التفويت في "الكازينو" لتصبح مركزًا تجاريًا إلا أنّ النيابة العمومية أوقفت هذا القرار(إيمان السكوحي/ ألترا تونس)

وختم حديثه قائلًا:"الوقت يمرّ والقاعة تتآكل مع الأيام والأمر يحتاج فقط قرارًا سياسيًا لتحال القاعة لوزارة الثقافة فجندوبة هي عاصمة سينمائية وقبلة عشّاق الفن السابع".

ورغم محاولات نادي السينما وجمعية تنمية السينما لاسترجاع القاعة من خلال إرسال عديد المراسلات للوزراء المتعاقبين على وزارة الثقافة ولا مجيب إلى حدّ هذه الساعة.

وفي نفس الإطار تواصل "ألترا تونس" مع المندوب الجهوي الثقافة بجندوبة وليد مسعودي لمعرفة الحلول القانونيّة المتاحة لحلّ هذا الإشكال، وأكّد لنا المندوب أنّ المسألة متعطلة بسبب مطلب المعاوضة من البلدية لوزارة أملاك الدولة للحصول على قطعة أرض مساحتها عشر هكتارات وأنّ هناك إدارة أخرى لها نفس المطلب لذا من الضروري تقسيم القطعة كي تتحصل كل إدارة على منابها.

ثامر صالحي (أحد هواة السينما بجندوبة): إعادة فتح قاعة "الكازينو" ستعيد بريق جندوبة وتحوّلها من منطقة مهمشة ومعدومة إلى بلاد المثقفين والسينمائيين و"الناس الّي تحب تجنّح"

وأفادنا بأنّ اقتراح البلدية في التقسيم الأول خلق إشكالًا، وكان هناك نزاع في فضاء هذه القطعة لذلك وجبت إعادة التقسيم من أجل أن تتم المعاوضة.

وأضاف:" كان هناك محضر تفويت لوزارة الثقافة في 2015 وقد بدأنا في الدراسات اللازمة إلا أن المجلس البلدي الجديد قام بمحضر آخر وأكد أن عملية التفويت لن تتمّ سوى بالمعاوضة".

وأشار إلى أنّ المعاوضة تستغرق وقتًا طويلًا وتستوجب إجراءات معقدة وأنّ وزارة الثقافة مستعدّة لحلّ الإشكال ووفّرت كلّ الإمكانيات إلاّ أن البلدية هي السبب الرئيسي في تعطيل التسوية.

يقول المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ: "لو أُدير العالم بالطريقة التي يُدير بها الطاقم موقع تصوير، سيكون لدينا عالم أفضل وأكثر تقدمًا." فمتى ستعدّل بوصلة مسؤولي ولاية جندوبة لتكون في خدمة سكّان المنطقة ويصبح إشعاع الولاية عالميًّا كما يحلم بها أبناؤها؟.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة

عن السينما التونسية وملاحم الذاكرة الوطنية