28-فبراير-2020

لم تستنطق السينما التونسية بعد الذاكرة الوطنية (أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

يعطي الذهاب بالذاكرة إلى أعالي الفهم الفلسفي والشعري والفني للحقيقة أوجه لم نكن نعلمها، ويعطي للتاريخ معان مغايرة أشبه بـ"الوجدان الاجتماعي" الذي قد يتحوّل في لحظة إلى سرديات نظرية وبسمات جوهرية قوامها "الملحمية" بنكهة شعرية ورومنسية. وتنهض بمذاكرتها الأجيال فلا هي تحيّد عن مسارتها الرمزيّة ولا هي تجرّ للزّيف والعبث فتحافظ على نقائها الأبديّ ضدّ النسيان.

والذاكرة بمفاهيمها الفيزيائية والسوسيولوجية ودلالاتها الأنثروبولوجية هي جمع جموع وذاكرات متعددة منها ما هو عنيف ومنها ما هو لطيف، منها ماهو مجمّع ومنها ما هو مفرّق، لكنّها في النهاية تتقاطع وتعتمل فيما بينها لتتحوّل إلى جملة من التمثّلات أو ما يسمّى بـ"التركيبات الثقافية للزمن" فتتشكّل الهويّات المرجعيّة للأمم والشعوب.

لم تستنطق السينما التونسية، بمرحلتيها ما قبل الثورة وما بعدها، الذاكرة بشكل عام والذاكرة القريبة بشكل خاص، وتحولّها إلى ملاحم وسرديّات كبرى تخترق كل الأزمنة وتحارب النسيان

وتعتبر المراحل الزمنية القريبة أو ما يطلق عليه بـ"الذاكرة الوطنية" واحدة من الذاكرات التي تستهوي الفنانين والمبدعين التونسيين من كتّاب وشعراء للاشتغال على مكوناتها، وباتت تغريهم أكثر فأكثر مع سريان مناخات الحريّة بفضل الثورة التونسية، وكلّ ذلك من أجل تثبيت أطرها واستخراج معانيها الذهبية وحمايتها من التلف والنسيان.

ولعلّ السينمائيين التونسيين هم الشريحة الفنيّة الأكثر انجذابًا إلى دوائر الذاكرة الوطنية، فانشغلوا بها وأنتجوا عدّة أعمال سينمائية روائية خلّدت لمراحل كفاح التونسيين ضدّ المستعمر الفرنسي نذكر منها أعمال المخرج الراحل عمر الخليفي وهي "الفجر" (1966)، والمتمرّد (1968) والفلاّقة (1970)، وأفلام أخرى على غرار "أمّ عباس" (1969) لعلي عبد الوهاب، و"رسائل من سجنان" (1973) لعبد اللطيف بن عمّار و"السّفراء" (1975) للناصر الكتاري وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| أحمد القاسمي: سينمائيون يعرقلون النقد الأكاديمي والفيلم الوثائقي مشوّه

وقد وسم النقد السينمائي التونسي والعالمي هذه الأعمال الفنية، رغم الحرفيّة العالية للمخرجين، بأنها مغرقة في الرّوائية ومنحازة للنص التاريخي الرسمي أو ما أرادت السلطة البورقيبية حينها إبرازه والاشتغال عليه من تقديمها لشخصيات بعينها وتواريخ محددة وجغرافيا دون غيرها. إذ لم تبحث هذه الأفلام في العمق الرمزي للذاكرة الوطنية ولم تتسم بالموضوعية التي يقوم عليها التاريخ وتقتضيها قيم الفن ومبادئه.

أمّا بعد الثورة ورغم الحريات المطلقة لأهل الثقافة والفنّ وللسينمائيين على وجه الخصوص، بدت الأعمال السينمائية المنتجة في التسع سنوات الأخيرة ميّالة لنهج "السينما الوثائقية" التي حاولت هي الأخرى العودة للذاكرة الوطنية عبر أحداث وشخصيات تونسية سياسية ونقابية وثقافية منتقاة من مسارات بعينها. ولنا أن نذكر في هذا الخصوص أفلام مثل "أحمد التليلي ذاكرة الديمقراطية" (2019) للمخرج عبد الله شامخ، و"الأزهر الشرايطي أسد عرباطة" (2020) للمخرج عبد العزيز حفظاوي، و"عالبار" (2020) للمخرج سامي التليلي، وهي أعمال وسمها أيضًا النقد الثقافي والسينمائي التونسي بالانحياز السياسي والأيديولوجي والجهوي.

وأُتهمت بعض هذه المحاولات السينمائية الجديدة بعد الثورة بتصحيحها لمسارات التاريخ وإعادة كتابة مراحل بعينها في حين أن ذلك هو من مشمولات المؤرّخين المختصّين، وحتى أساتذة التاريخ الذين أدلوا بدلوهم في هذه الأعمال السينمائية الوثائقية لم يبذلوا ذاك الجهد الموضوعي بل انحازوا وانساقوا وراء ما أراده المنتجون والجهات الداعمة لتلك الأشرطة. ولذلك جاءت تلك الأعمال الفنية عرجاء ولم تثمّن الذاكرة الوطنية في ذاتها بل زيّفت بعض الحقائق وطمست أخرى في قصديّة مريبة ولغايات تشويهية وانتقامية.

تحتاج تونس إلى الخروج من دوائر "التلوّث التاريخي" الذي يضرّ بالذاكرة الوطنية التي يجب أن تعالج معرفيًا وعلميًا قبل الالتقاء بشتى الفنون ومنها السينما

اقرأ/ي أيضًا: الدعوات لإعادة كتابة التاريخ: إنصاف للحقيقة أم تصفية لحسابات سياسية؟

وإلى اليوم عدا المطالبات الرسمية لتصحيح الذاكرة الوطنية التي قامت بها هيئة الحقيقة والكرامة التي ترأستها الحقوقية سهام بن سدرين، لم تبرز في تونس مطالب وطنية علمية نابعة من الجامعة أومن مخابر البحث المختصة في الذاكرة أو من ائتلافات مدنية تطالب عبر مشاريع وإستراتيجيات واضحة من أجل إعادة كتابة مختلف مراحل الذاكرة الوطنية القريبة وخاصة السياسي منها لأن ذلك يغني البقية عن مقاصد التحريف والتزييف.

فلم تستنطق السينما التونسية، بمرحلتيها ما قبل الثورة وما بعدها، الذاكرة بشكل عام والذاكرة القريبة على بشكل خاص، وتحولّها الى ملاحم وسرديّات كبرى تخترق كل الأزمنة وتحارب النسيان. لقد بقيت هذه السينما مدهوشة أمام التّاريخ ولم تقوى على مجاراة نسق ألاعيبه وسطوة من خطّ أسطره الأولى ذلك أنها لم تتسلّح بمقتضيات الفن وجنون الفنّان المحمول على التخييل في مواجهة حقيقة الذاكرة وزيف التاريخ.               

وهكذا تتحوّل الذّاكرة إلى أرض ملغومة أو ما يشبه المتاهة التي لا نهاية لها عندما تحاول الفنون الإبداعية الاشتغال على روحها الملحمية وتحويلها إلى أعمال خالدة وتفشل في ذلك لأنها لم تفهم "التركيبة الثقافية للزمن" ولم تسطع إعادة إنتاجه.

تحتاج تونس إلى الخروج من دوائر "التلوّث التاريخي" الذي يضرّ بالذاكرة الوطنية التي يجب أن تعالج معرفيًا وعلميًا قبل الالتقاء بشتى الفنون ومنها السينما. كما أن أهل الفنّ مطالبين بالحذر والتريث والاستئناس الوجوبي بآراء المؤرخين والمختصّين وهم يقفون على أرض التاريخ لتناول مرحلة أو الجلوس إلى شخصيّة علم، وكلّ ذلك من أجل النأي بالذاكرة التونسية عن مخاطر التجاذب الأيديولوجي والحقد السياسي والنعرات الجهوية كما شاهدنا ذلك في أغلب الأفلام السينمائية التونسية التي تناولت مثل تلك المواضيع.

  

اقرأ/ي أيضًا:

9 أفلام تونسية في قائمة أفضل 100 فيلم عربي.. ماهي؟

الأعمال الفنية التاريخية: تحريف للتاريخ أو وسيلة لتعميمه؟