29-أبريل-2018

الشريط التقاط جدّي لتفريعة منسيّة من ثقافة الهامش

"الزندالي" كان ولا يزال هامشًا ثقافيًا تونسيًا لا يعرفه إلا قلّة قليلة من الناس، فهو تحويل الغربة السجنية المؤلمة إلى آهات معجونة بشعر وهو ليس بالشعر، إنها صياغة لحنية عفوية لعذابات الذات وتخييل لرهافتها وجمالها المتخفيّ رغم صلابة صاحبها.

هو غناء شبيه بسفر الروح عندما تهدأ الزنزانة من مخاتلة واقعها، هو مناجاة عميقة في لحظات الوحدة لمّا تشتدّ الغربة وتقسو، هو الذات الشاعرة الساكنة فينا التي تريد أن تستنبت لها أجنحة وتحلّق في أعالي سماء الحرية. لذلك نطرب وتهتزّ أفئدتنا لـ"الزندالي" رغم رواسب الألم فيه، وأحيانًا رغم فحش كلماته وصوره وسخريته الصادمة، فنحن ننشد لصدقيته.

"الزندالي" هو تحويل الغربة السجنية المؤلمة إلى آهات ومناجاة عميقة في لحظات الوحدة لمّا تشتدّ الغربة وتقسو

هذا الهامش الثقافي المنسيّ التقى بفنّ "المزود"، الذي راج في ستّينيات وسبعينيات القرن العشرين في الضواحي الشعبيّة للعاصمة التونسية وداخل السجون، وذلك كتعبيرة موسيقية سجنية وكان منتجوه من "البانديّة" (الفتوّات) وهو بدوره، مقصيًا من الحياة الثقافية لأسباب سياسيّة باعتباره هامشًا رديئًا "يقول القاع"، حسب البعض.

جعل هذا الالتقاء من "الزندالي" تفريعة مأساوية من فنّ "المزود"، وإلى حدود سبعينيات القرن الماضي كان "الزندالي" يُغنّى في الجلسات الخمرية في "الحوّم" (الأحياء الشعبية) عندما تشتدّ الذكرى ويداعب الألم الجليس، وأيضًا في حفلات الأعراس في ضواحي المدن بطلب من الحاضرين، حتى أن أغنية "زندالية" مثل "أرضى علينا يا لمّيمة" يرقص المدعوّون على إيقاعها الحزين دون فهم ووعي بأنها "زندالي"، فكأن الهامش الاجتماعي ينتصر للهامش الموسيقي.

الشريط الوثائقي "الزندالي.. نشيد السجون التونسية"

حينما تنفض السينما الغبار عن الهامش الثقافي

هذا الهامش الثّقافي أغفله البحث الجامعي وأيضًا المؤسسات المختصة في تونس والتي من مهامها صيانة التراث المادّي واللّامادّي كموروث حضاري وذاكرة للشعب التونسي، لكن يبدو أن السينما الوثائقية التونسية لم تغفله والتقطته من ثنايا الضّياع والنسيان.

اقرأ/ي أيضًا: السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة

فبعد شريط المخرجة التونسية سنية الشامخي حول فنّ "المزود" والذي ذهب إلى هذا الهامش الموسيقي الحضري وأعاد إليه وجهه المسلوب، وبعد شريط "وجد" للمخرج محمود بن محمود الذي ذهب إلى الهامش الصوفي، هاهو الإعلامي التونسي علاء الدين زعتور يذهب بالكاميرا إلى نفس هذا الهامش لكن من زاوية مختلفة تمامًا، لقد طرق الموسيقى السجنية وأعاد لـ"الزندالي" بريقه وألقه المسلوب، عبر "الزندالي.. نشيد السجون التونسية".

ينمّ هذا الشريط الوثائقي، الذي بثه "التلفزيون العربي" في الآونة الأخيرة، عن جهد بحثي واضح، إذ حاولت المادة التاريخية والكرونولوجية أن تكون محيطة بـ"الزندالي" سواء من ناحية ظهوره كشكل من أشكال التعبير عن الظلم الذي يتعرض له السجين بشكل عام، أو السجناء الثائرين عن الوضع السياسي أو الاجتماعي بشكل خاصّ. وقد أشار الشريط إلى الفترة البياتية إبّان الحكم الحسيني لكنه تعمّق بالنسبة لفترة دولة الاستقلال بشقّيها.

جاء في الشريط الوثائقي أن الزندالي يمكنه أن يُعبر عما كان يحدث في البلاد من حراك سياسي واجتماعي وثقافي

كما قدم الشريط فنّ "الزندالي" من زوايا تعريفية مفاهيمية، وخلص إلى أن "أغاني السجون" تقول غربة الإنسان وأيضًا نستطيع أن نفهم من خلالها ما كان يحدث في البلاد من حراك سياسي واجتماعي وثقافي. وقد أجمع المستجوبون تقريبًا، وعلى اختلافاتهم الأيديولوجية، أن "الزندالي" هو حزن عميق يلهب العاطفة في اتجاه الحسرة والألم.

جلبار نقاش يُغني "الدّيسات" لأول مرة..

جعل الشريط المتفرج في مصافحة مستجدة ونوعيّة مع وجوه سياسية وثقافية معروفة كانت قد عانت السجون التونسية المعروفة بشدتها أيام الحكمين البورقيبي والنوفمبري، وذلك لمواقفها السياسية أو لمعارضتها أنظمة الحكم. إذ يستمع المتفرّج ولأوّل مرة للسجين السياسي السابق جلبار نقّاش، وهو يغني "الزندالي" على وقع الحركة الرابعة في السمفونية التاسعة لبتهوفن، ويتحدث أيضًا عن ظروف أغنية "الدّيسات"، وهي المسّمى بالفرنسية للغرفة رقم 17 بسجن 9 أفريل، والتي جمعت سجناء حركة "آفاق" واليسار التونسي في السبعينيات، ويُعرف بأنها أكبر غرفة عزل بالسجن المذكور.

اقرأ/ي أيضًا: قلع أظافر ورصاصة في الرأس.. عن قصة مقتل نبيل بركاتي

تحدث كذلك السينمائي التونسي النوري بوزيد في هذا الشريط كما لم يتحدث من قبل عن ممارسته للزندلة إبان سجنه، وكتابته للعديد من الأغاني السجنية. وقد قرأ بصوته ولأوّل مرة تقريبًا قصائد سجنيّة منها "زاير قديم" و"الحصان العربي" التي وظفها فيما بعد في شريطه الشهير "صفايح ذهب".

عرض الشريط لأوّل مرة السجين السياسي السابق جلبار نقاش وهو يغني"الزندالي" كما قدّم أيضًا النوري بوزيد وهو يعرض قصائد سجنية بقلمه

كما حاول الشريط أن يقدّم أجمل الأغاني السجنية خلال قرن كامل سواء الأغاني ذات النفس المقاومي أو الأغاني ذات العمق السياسي أو أغاني الشوق والبعاد، مبرزًا ما حفّ بهذه الاغاني من حكايات وقصص تزاوج بين الحقيقة التاريخية الثابتة والمخيال الشعبي. وليس أدل على ذلك من أغنية "يا فاطمة بعد النكد والغصة" التي خلّدها الشيخ العفريت بصوته الذهبي أو أغنية المونولوغيست الشهير صالح الخميسي "في بودفة شبحتنا" أو أيقونة "الزندالي" التونسي "إرضى علينا يا لمّيمة" بصوت صاحبها "المزاودي" صالح الفرزيط، الذي تحدث بإطناب عن التغييب المقصود لأغاني السجن ولفن "المزود" تحديدًا، وكيف أن الحكم البورقيبي أقصى هذا الهامش الثقافي وأعلى من الموسيقى الوترية وخاصة "المالوف التونسي" ذات الأصول الأندلسية. هذه الموسيقى التي غنمت من السياسات الثقافية المتتالية وفسح لها المجال الإعلامي واسعًا، والحال أنّ غالبية التونسيين يحبذون "المزود" في أفراحهم ويرقصون على إيقاعه.

صالح الفرزيط يروي قصة أغنيته الشهيرة "أرضى علينا يا لميمة

استطاع "الزندالي.. نشيد السجون التونسية" أن يكون شريطًا منتصرًا لثقافة الهامش على حساب المركز

ورغم انزياح بعض المستجوبين من السّجناء السياسيين السابقين مثل الطاهر شقروش ومحمد صالح فليس وعمر بودربالة خاصة نحو الحديث عن الهم السياسي الصّرف والتعذيب داخل السجون مبتعدين بذلك ربما عن الفكرة الرئيسية للشريط. لكن استطاع "الزندالي.. نشيد السجون التونسية" أن يكون شريطًا منتصرًا لثقافة الهامش على حساب ثقافة المركز، وهو صراع نجد له صدى في أغلب المجتمعات والحضارات. فرغم ما يتّسم به الهامش الثقافي من عمق فكري وجماليات يحملها في داخله ويدافع عنها، إلا أنه يلقى صدًا مستميتًا من ثقافة المركز التي عادة ما تكون ثقافة السلطة، المهندسة داخل البلاطات والميّالة لصنع جماليات تتسم بالتنميط. ولكن أحزمة الممانعة لثقافة المركز ينهض بها الفنّ الحرّ وهو ما قام به هذا الشريط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

جولة في "الجلاز".. ذاكرة الوطن للنسيان