04-نوفمبر-2019

يعود الفيلم إلى أوج فترة حكم بن علي

 

"كثر الهمّ يضحّك"، هي كلمات من التراث الشفوي تونسي، تستعمل في اللحظات التي يكون فيها التراجيدي عاتيًا وقاسيًا فتتم مقاومته والتصدّي له بالكوميدي في تماسّ ساحر وعجيب. وضمن الدلالات العامة لهذا المقول الشفوي أنجز المخرج التونسي وليد الطايع شريطه الروائي الأول "فتّريّة" بعد انتظار فاق العشر سنوات.

الشريط الروائي "فترية" ولمدّة 80 دقيقة عاد بنا إلى سنة 2004 وتونس في أوج فترة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي

"فتّريّة" أُختير للمشاركة في فعاليات الدورة الثلاثين لأيّام قرطاج السينمائية ضمن قسم "نظرة على السينما التونسية". وقد شاهده جمهور غفير غصّت به قاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة مساء الجمعة 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.

الشريط الروائي ولمدّة 80 دقيقة عاد بنا إلى سنة 2004 وتونس في أوج فترة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وفي أوج القبضة الأمنية الماسكة بكل شيء والجاثمة على كل شيء. في تلك السنة كانت تونس منشغلة بتنظيمها للقمة العربية وبترتيباتها واستقبال الوفود العربية، وتتباهى باستقبالها لقمّة مجتمع المعلومات في السنة الموالية.

اقرأ/ي أيضًا: "الرجل الذي أصبح متحفًا".. حينما تحتفي السينما بالتشكيلي علي عيسى

المخرج وليد الطايع

ووسط هذه الانشغالات السياسية الكبرى للنظام و"لصانع التغيير المبارك"، تقدّم كاميرا وليد الطايع صورة مغايرة تمامًا عن تونس الشعب، صورة مجتمع لا يبالي تمامًا بالقمم وخطب القادة العرب الممجوجة والمكرورة، مجتمع منشغل باليومي حدّ الإرهاق، مجتمع يحارب "على الخبزة " حربًا لا هوادة فيها.

لكن هذا التقديم لتلك الصورة المتباينة عمّا تسوّقه السياسة النوفمبرية لم يكن بطريقة مباشرة شبيهة بالعمل الوثائقي، بل اختار الطايع وببساطة نماذج من المجتمع التونسي وحاك بينها صلات روائية عفوية وبأسلوب يعتمد بالأساس على الكوميديا والسخرية أو "الضّمار التونسي" اللامبالي بالواقع السياسي المتردّي في ذاك الزمن.

نجح المخرج وليد الطايع في خيار الكوميديا السوداء في شريطه "فتّريّة "

أبطال الشريط، صالحة (الممثلة ريم الحمروني )، وحمّادي (الممثل جمال المداني) وعمّار (الممثل عيسى حراث)، يمثلون عامة الناس، البسطاء من الأحياء الشعبية. يقدمون حياة المواطن التونسي الحقيقية وغير المزيّفة، عكس ما كان يروّج له الإعلام في تلك الفترة أو ما كان يعرف تهكّمًا بـ"تونس البطاقة البريديّة"، فترحل عين المتفرج مع مشاهد بيع الخمر خلسة ورواج المخدّرات والعنف والتسلّط الأمني والبيروقراطية المقيتة التي تبيد روح المواطن البسيط والنّفاق الاجتماعي.

لكن كل هذا يأتي مغلّفًا بالضحك والنكات والطرافة. إنها الكوميديا السوداء في أبهى تجلياتها والتي قلّما نجد لها نجاحا في السينما التونسية باستثناء بعض أعمال المخرجين إبراهيم لطيف ونجيب بلقاضي. لقد نجح المخرج وليد الطايع في خيار الكوميديا السوداء في شريطه "فتّريّة " حيث استطاع عبر هذا الأسلوب الصعب تمرير رسائل  قوية ونقدية ومعريّة بل وكاشفة لعدّة حقائق من الواقع السياسي والاجتماعي التونسي قبل الثورة مثل سريان ثقافة التمجيد وما كان يعرف الانسجام السياسي والسطوة الأمنية لكل مؤسسات الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: "فتح الله تي في".. ساعة الحقيقة بتوقيت جبل الجلود

فريق عمل فيلم "فترية"

 

تقنيًا وعلى مستوى الكاستينغ بدا وليد الطايع موفّقًا في اختيار ممثلين كلّهم من ذوي الخبرة المسرحية، وذلك ينمّ على وعي المخرج بأن النفس الكوميدي السينمائي يتطلّب الكثير من الحركات المسرحية أو ما يسمى بـ"الإفراط في الأداء".

أما على مستوى حركة الكاميرا واختيار المشاهد، فكانت كاميرا الطايع واضحة التركيز على المشاهد القريبة والمشاهد القريبة جدًا والمعروفة بإبرازها لحركات الممثلين على مستوى الوجه واليدين، وهو ما يساعد على تبيان نهج الكوميديا الساخرة المقصود في الشريط.

اختيار كلمة "فتّريّة" عنوانًا للشريط بدا جذّابًا للجمهور التونسي

اختيار كلمة "فتّريّة " عنوانًا للشريط بدا جذّابًا للجمهور التونسي لأن كلمة "فتّريّة" هي من أصيل المقول اليومي التونسي والأكثر تداولًا بين الناس وتستعمل خاصة إذا اختلطت الأمور وتداخلت الوضعيات وخرجت عن الأمور عن السيطرة وباتت الحلول بعيدة. وفي نفس الوقت فإن اختيار هذا العنوان جدّ معبّر عن الوضع التونسي إبان الحكم النوفمبري إذا كان التونسيون يعيشون "فتّريّة " سياسية بكل ما تحمله الكلمة من دلالات.

ما يحسب لهذا الفيلم أنه أول عمل سينمائي روائي اختار حقبة زمنية قريبة وخصبة وثرية بالأحداث والغموض والتردّي السياسي وغياب الحريّات، ويمكن لها أن تكون خزّانًا لأعمال فنّية وأدبية وتوثيقية، وبذلك يساهم الفن في كشف الحقيقة دونما زيف أو تحوير.

نجح المخرج وليد الطايع في خيار الكوميديا السوداء في شريطه "فتّريّة "

 

اقرأ/ي أيضًا:

يوسف بن يوسف.. ساحر الأضواء و"الكادرات" الخلاّبة

"قيرّة" للفاضل الجزيري: إسقاط غير محكم لـ"ثورة صاحب الحمار" على الواقع