01-يناير-2021

قراءة لمقاربة السياسة الخارجية الألمانية في تونس، أولوياتها وأهدافها (تييري ترونل/ Getty)



تعد تونس أحد أهم الدول العربية التي تحظى باهتمام خاص وشديد من قبل الخارجية الألمانية منذ اندلاع الثورة التونسية وانطلاق ما يسمى بالربيع العربي. فقد قامت جمهورية ألمانيا الاتحادية بتعزيز نشاطها الدبلوماسي ومشاركتها السياسية في تونس وضاعفت درجة حضورها بعد سقوط نظام بن علي. 

على المستوى السياسي عبرت وزارة الخارجية الألمانية عن دعمها للانتقال السياسي وذلك عبر تعزيز العلاقات الثنائية على المستوى الرسمي عبر القنوات الدبلوماسية بتبادل الزيارات الرسمية أو على مستوى المجتمع المدني، إذ تنشط مختلف مراكز الأبحاث الوقفية الخاصة بالأحزاب الألمانية في تونس وتقدم دعمًا هامًا بالتمويل والتدريب والمرافقة لجمعيات المجتمع المدني التونسي والأحزاب التونسية والمنظمات الوطنية التونسية (اتحاد الشغل، منظمة الأعراف، عمادة المحامين...). 

تعود العلاقات الألمانية التونسية إلى خمسينات القرن الماضي مع استقلال تونس من الاحتلال الفرنسي المباشر. لكنها كانت علاقات تعاون ثنائية تتميز بالارتخاء ومحصورة في تبادل للسفارات والبعثات الدبلوماسية والزيارات البروتوكولية

رغم أهمية ومحورية الدور الألماني في تونس إلا أنه لم يوفَّ حقه من الدراسة والبحث. فيما تتمثل مقاربة السياسة الخارجية الألمانية في تونس وماهي أولويتها؟ كيف تتحرك عناصر الدبلوماسية الألمانية في تونس؟ ما الذي يحرك الألمان وماهي أهداف سياستهم الخارجية في تونس؟ وكيف يرى الخبراء، الساسة والدبلوماسيون الألمان طبيعة الدور الألماني في تونس؟

I. الإطار العام للسياسة الخارجية الألمانية وملامحها الرئيسية في تونس:

تقوم السياسة الخارجية الألمانية على جملة من المرتكزات الأساسية، فحسب وزارة الخارجية الألمانية، "العمل السياسي الخارجي الألماني يرتكز على سلسلة من الثوابت والمبادئ الأساسية: أوروبا والشراكة عبر الأطلسية والالتزام الدولي من أجل السلام والأمن ودعم الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان وكذلك بذل الجهد من أجل عولمة عادلة ومستدامة ونظام دولي عادل ومحكم".

 وللوصول لتحقيق هاته المبادئ الأساسية تعتمد الدبلوماسية الألمانية على أسلوب الضغط الناعم ومبدأ تعدد الأطراف. والمقصود بالضغط الناعم في سياق العلاقات الدولية هو استعمال النفوذ الثقافي والحضاري والاقتصادي للاحتواء والإقناع دون اللجوء للضغط بأساليب عنيفة مثل التلويح بالقوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية. 

ويجدر بالذكر أن ألمانيا تعتمد على سلاح الضغط الناعم وتضمنه داخل عقيدتها الجيوسياسية. فحسب مكتب الاستشارات الاستراتيجية بورتلاند، تحتل ألمانيا المراتب الثانية أو الثالثة في سلم الدول الأكثر استعمالًا للضغط الناعم.

أما فيما يخص الدور الألماني في تونس فيمكن تقسيمه زمنيًا إلى فترتين؛ ما قبل الثورة التونسية وما بعدها.

تعود العلاقات الألمانية التونسية إلى خمسينات القرن الماضي مع استقلال تونس من الاحتلال الفرنسي المباشر. لكنها كانت علاقات تعاون ثنائية تتميز بالارتخاء ومحصورة في تبادل للسفارات والبعثات الدبلوماسية والزيارات البروتوكولية. 

مع منتصف ستينات القرن الماضي وبداية موجة هجرة العملة من تونس والتحاق فئة الطلبة في مرحلة متقدمة مع تسعينات القرن الماضي وانفتاح الاقتصاد التونسي مع تجربة الهادي نويرة في السبعينات تطورت العلاقة بين ألمانيا وتونس في المجال الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي. فقد تحولت تونس وجهة رئيسية للسياح الألمان وخاصة من الطبقة المتوسطة والفقيرة، كما أن جملة القوانين التي سنها المشرع التونسي في المجال الاقتصادي مكنت الشركات الألمانية من الاستقرار في تونس والتمتع بامتيازات جبائية. 

اقرأ/ي أيضًا: تونس: تحوّلات محلية وإقليمية وصعوبات في مسار بناء الديمقراطية

تواصل الدور الألماني في تونس لكنه كان محدودًا وعاش تحت سطوة الدور الفرنسي الذي كان متنفذًا خلال حقبة الرئيسين بورقيبة وبن علي.

مع اندلاع الثورة التونسية، تفاجأت القوى الغربية بالحدث الديسمبري واختلف تعاطي العواصم الغربية مع مجريات الأحداث في تونس. فبينما صمتت واشطن بداية الأمر وراقبت من بعيد تطور مجريات الأمور، سارعت باريس على لسان وزيرة خارجيتها إلى الوقوف إلى جانب بن علي حليفها التقليدي. 

اللافت للنظر كان الموقف الألماني الذي تميز بأخذ زمام المبادرة. بالعودة إلى موقع وزارة الخارجية الألمانية وبالاستعانة بكلمة "تونس" ككلمة مفتاح وبتركيز البحث في الفترة المتراوحة بين 1 ديسمبر/كانون الأول 2010 و31 جانفي/يناير 2011، وجدنا أن أول موقت رسمي في شكل بيان إعلامي كان يوم 11 جانفي/يناير 2011 على لسان سكرتير الدولة التابع لوزارة الخارجية فرنير هويار (Werner Hoyer) الذي أعرب عن "قلقه" من تطورات الوضع في تونس ودعا الأطراف للتهدئة والحوار كما أضاف أن الخارجية الألمانية دعت الهيئة الأمنية والسياسية للاتحاد الأوروبي للانعقاد لدراسة التطورات في تونس. 

وأكد هويار أن على الشريك التونسي الالتزام باحترام حقوق الإنسان والحريات.

مباشرة إثر سقوط نظام بن علي، شهد النشاط الدبلوماسي الألماني في تونس ازدهارًا ملحوظًا. فقد زار وزير الخارجية الألماني تونس في منتصف شهر فيفري 2011، وعبر عن وقوف بلاده وراء الانتقال الديمقراطي ودعمها المادي والمعنوي لتجربة تونس الجديدة

 يوم 13 جانفي/يناير 2011 زادت نبرة حدة الدبلوماسية الألمانية تجاه نظام بن علي وذلك في بيان على لسان وزير الخارجية الألماني السابق فاسترفالة (Guido Westerwelle). فقد ربط الوزير تقارب تونس مع الاتحاد الأوروبي بشرط احترام حقوق الإنسان والحريات.

مباشرة إثر سقوط نظام بن علي، شهد النشاط الدبلوماسي الألماني في تونس ازدهارًا ملحوظًا. فقد زار وزير الخارجية الألماني تونس في منتصف شهر فيفري/فبراير 2011، وعبر عن وقوف بلاده وراء الانتقال الديمقراطي ودعمها المادي والمعنوي لتجربة تونس الجديدة. وهي أول زيارة لمسؤول خارجي مهم لتونس بعد الأحداث.

على مستوى المجتمع المدني والأحزاب سارعت مختلف أذرع الأحزاب الألمانية الجمعياتية الوقفية للانتصاب في تونس وفتح فروع فيها. كما قامت جمعيات ألمانية معروفة أخرى في مجالات الرقابة بالتدريب والتكوين والمساعدة في إنشاء جمعيات تونسية مشابهة (البوصلة وأنا يقظ).

من الجانب الرسمي، دخلت ألمانيا في شراكات مع الجانب التونسي في عدة ميادين مثل ملف العدالة الانتقالية واللامركزية والتعاون الاقتصادي والميدان الأمني والعسكري. ومع الوقت تزايدت أهمية دور السفير الألماني في تونس وأصبح لاعبًا رئيسيًا وراعيًا وحكمًا بين الفرقاء السياسيين في تونس.  

بناء على ما سبق وبالعودة إلى الملامح الرئيسية للسياسة الخارجية الألمانية نرى أن الدبلوماسية الألمانية لم تخرج عن عقيدتها في تعاملها مع الملف التونسي بعد الثورة؛ تضمين الملف التونسي داخل ملفات السياسة الخارجية الأوروبية والتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، الضغط الناعم واستعمال الملف الاقتصادي لفرض حضروها ورؤاها.

في عالم العلاقات الدولية وتضارب المصالح لا يتحرك أي فاعل رئيسي دون وجود أجندة وأسباب تتمثل أساسًا في الحفاظ على المصالح الحيوية للدولة وتسجيل مكاسب جديدة. ولتحقيق ذلك تسعى الدبلوماسية الألمانية في تونس إلى تحقيق جملة من الأهداف بالاعتماد على جملة من الوسائل. 

فما الذي يحرك الألمان؟ وماهي أهداف سياستهم الخارجية في تونس؟

II. أهداف السياسة الخارجية الألمانية في تونس:

  • دمقرطة تونس:

تعتبر الدبلوماسية الألمانية تونس نموذجًا للانتقال الديمقراطي و"مخبر تجارب". نجاح الديمقراطية في تونس والانتقال السياسي سيفتح الباب أمام الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي وانفتاح السوق التونسية. 

عاشت ألمانيا الفدرالية تجربة مماثلة مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية سابقًا) ولها خبرة ومعرفة في مشاكل الانتقال الديمقراطي وإرث تفكيك منظومة الاستبداد والفساد.

انفجار الأوضاع في تونس دفع السياسة الخارجية الألمانية إلى التفكير في طريقة استباقية ووقائية خوفًا من تفاقم الأوضاع في تونس وتعفنها مما يؤدي إلى موجة هجرة أو لجوء واسعة من تونس في حال استمرت المواجهات

تونس ديمقراطية بمجتمع مدني قوي ومؤسسات سياسية مستقلة ومتينة ستفتح الباب أمام الشريك الألماني لمزيد التأثير الناعم وفرض أفكاره وثقافته. كما أن التعامل الدبلوماسي والسياسي مع نظام ديمقراطي أسهل وأقل تكلفة من التعامل مع الأنظمة الاستبدادية المغلقة، الاستقرار السياسي والاقتصادي مرتبط بالأشخاص والزعماء لا بالمؤسسات. 

  • الحفاظ على المصالح الاقتصادية الألمانية:

تعتبر ألمانيا ثالث شريك اقتصادي ومستثمر أجنبي في تونس بعد كل من فرنسا وإيطاليا. ينشط في تونس قرابة 260 شركة ألمانية بما قدره 60.000 موطن شغل واستثمار قدره 350 مليون أورو.

إضافة إلى ذلك فإن أغلب الشركات الألمانية الكبرى المصنعة للسيارات لها في تونس نيابات كما أن بعض الشركات الموزعة لقطع الغيار في قطاع صناعة السيارات متواجدة في تونس (Leoni، Dräxlmaier،Marquardt ). في أواخر سنوات نظام بن علي بدأ التفكير في ألمانيا في استيراد الطاقة الشمسية من تونس وشمال إفريقيا وبدأ العمل على تأسيس مشروع ما يسمى بـ Desertec. انقطع المشروع مع انطلاق أحداث الثورات العربية لكن الألمان مازالوا يراهنون على المشروع. 

اقرأ/ي أيضًا: الديمقراطيّة والتطبيع في بلاد المغرب العربي

لألمانيا مصالح اقتصادية في تونس مهمة بالرغم من صغر السوق التونسية وعدم امتلاكها لموارد طبيعية مهمة. لكن تونس سوق لمنتجات ألمانية والدولة التونسية وعديد الشركات الوطنية حرفاء لعديد الشركات الألمانية في مجالات الاتصالات والطاقة وغيره.

  • احتواء ظاهرة الهجرة السرية:

حين نتحدث عن علاقة بين دولة عربية شمال إفريقية وبين دولة مثل ألمانيا بحجمها وموقعها الريادي داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، لا يمكن إغفال ملف الهجرة غير النظامية.

ترصد دول شمال البحر الأبيض المتوسط حدودها البحرية بتوجس دائم وتراقب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول شمال إفريقيا. 

تعاني تونس من مشاكل البطالة وتدني مستوى العيش وضعف المقدرة الشرائية وارتفاع البطالة بين صفوف الشباب. وهي شروط موضوعية لتفكير العديد من التونسيين خاصة من فئة الشباب في الهجرة للدول الأوروبية وخاصة ألمانيا. 

انفجار الأوضاع في تونس دفع السياسة الخارجية الألمانية إلى التفكير في طريقة استباقية ووقائية خوفًا من تفاقم الأوضاع في تونس وتعفنها مما يؤدي إلى موجة هجرة أو لجوء واسعة من تونس في حال استمرت المواجهات وتطورت إلى حالة فوضى وحرب أهلية مماثلة للحالة السورية. 

عالجت الدبلوماسية الألمانية ملف الهجرة بتشجيع استثمار الشركات الألمانية في تونس ومنح الطلبة التونسيين منح دراسة في ألمانيا أو عبر استيعاب الكفاءات التونسية في مجالات الهندسة والمعلوماتية أو في المجال الطبي. بالإضافة إلى ذلك قدمت ألمانيا عديد المنح والقروض وقامت بشطب ديون لفائدة تونس من أجل تحويل العديد منها لمشاريع. 

  • محاربة الإرهاب و"التطرف الديني"

مع سقوط بن علي وانفتاح المجتمع التونسي تجاه مختلف التيارات الفكرية، شهدت تونس انفجارًا على مستوى النشاط الجمعياتي والمبادرات الأهلية. فانطلقت التيارات السلفية في النشاط والدعوة. أوائل سنوات الانتقال الديمقراطي تميزت بفوضى كبيرة فيما يخص نشاط المجموعات السلفية وخاصة ذات الخطاب العنيف. شهدت تونس مع ارتخاء الذراع الأمنية عديد العمليات الإرهابية. 

خطر الإرهاب وأولوية محاربته يقع في أعلى سلم أولويات الأمن القومي الألماني والأوروبي. الخوف من سقوط تونس في دوامة إرهاب وتحولها لدولة مصدرة له جعل الألمان يتحركون سياسيًا واقتصاديًا بدعم الدولة ومؤسساتها لمحاربته

خطر الإرهاب وأولوية محاربته يقع في أعلى سلم أولويات الأمن القومي الألماني والأوروبي. الخوف من سقوط تونس في دوامة إرهاب وتحولها لدولة مصدرة له جعل الألمان يتحركون سياسيًا واقتصاديًا بدعم الدولة ومؤسساتها لمحاربته وعلى مستوى المجتمع المدني من أجل احتواء ظاهرة التطرف الديني عبر التحرك في صفوف الشباب والقيام بشراكات مع جمعيات التونسية قصد التثقيف ودعم قيم المواطنة ومبادئ العيش المشترك والتعددية.

  •  الدبلوماسية الألمانية في تونس، بوابة خلفية للمصالح الإسرائيلية في تونس؟

يانس بلوتنار، اندرياس راينكه وبيتر بروغل ثلاث دبلوماسيين ألمان، القاسم المشترك بينهم حتمًا هو تناوبهم على منصب سفير ألمانيا في تونس. لكنه ليس القاسم المشترك الوحيد. ثلاثتهم اشتغلوا في إسرائيل في مهام مختلفة ولهم علم ودراية وخبرة بملف الصراع العربي الإسرائيلي. بينما اشتغل الأول في الدائرة السياسية لسفارة ألمانيا في تل أبيب، اشتغل الثاني في نفس السفارة بالإضافة إلى كونه كان مسؤول ملف السلام في الشرق الأوسط ومدير مكتب التنسيق الألماني مع السلطة الفلسطينية برام الله. أما السفير الحالي فقد كان رئيس الدائرة السياسية في سفارة ألمانيا في إسرائيل.

بداية عام 2014 أبرمت ألمانيا مع إسرائيل إتفاقية تمثل بموجبها البعثات الدبلوماسية الألمانية مصالح المواطنين الإسرائيليين في الدول التي لا تمتلك فيها إسرائيل تمثيلًا دبلوماسيًا.   

لكنه من غير الواضح ما إذا كان السفير الألماني يلعب دور القناة السرية لصالح المصالح الإسرائيلية أو إن كانت الدبلوماسية الألمانية تلعب دورًا خفيًا عبر قنواتها الرسمية أو عبر جمعياتها من أجل تشجيع الفاعلين السياسيين في تونس على التطبيع أو ثنيهم عن أي خطوات في اتجاه تجريم التطبيع أو غيره.

III. عناصر الدبلوماسية الألمانية في تونس:

للوصول لأهدافها والحفاظ على مصالح بلادها وحلفائها، تعتمد الدبلوماسية الألمانية على جملة من الوسائل والأدوات للتأثير في السياسة الداخلية التونسية وتوجهيها.

  • التأثير المباشر عبر القنوات الدبلوماسية:

نشطت القنوات الدبلوماسية الرسمية الألمانية بعد الثورة في تونس بصفة ملحوظة. تعاظم دور السفير الألماني كما سبق وذكرنا. بالإضافة إلى ذلك استقبلت ألمانيا رؤساء الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بالإضافة إلى الرئيسين المنصف المرزوقي والباجي القايد السبسي. 

لعب السفير الألماني السيد يانس بلوتنار (Jens Plötner) دورًا مهمًا ومتقدمًا أثناء أزمة 2013 ودخول البلاد في حالة انسداد سياسي بعد اغتيال الناشط السياسي شكري بلعيد. 

اقرأ/ي أيضًا: الأمّة والدولة في صراع الثقافات: من آيات شيطانيّة إلى رسوم شارلي إيبدو

وساهم في الدفع بالمفاوضات بين مكلف الفرقاء التي توجت بتشكيل حكومة كفاءات بقيادة المهدي جمعة. من الطريف أن وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك تناقلت صورة للسفير مع المهدي جمعة قبل تعيينه في مطعم شعبي لوجبات اللحم المشوي فما وصف بـ "دبلوماسية المشاوي".

بالإضافة إلى ذلك تعددت لقاءات السفير الألماني والمسؤولين الألمان الوافدين على تونس مع كبار الأحزاب التونسية خاصة الحاكمة منها على غرار حركة النهضة وحزب نداء تونس الذي كان محاولة لتجميع شتات اليسار وقوى التجمع السابق لمنافسة الحزب الإسلامي.

خارجيًا، لعبت ألمانيا دورًا إيجابيًا وذلك بتشجيع حلفائها وشركائها والمنظمات الدولية والمانحين من أجل دعم تونس وتجربة الانتقال الديمقراطي فيها.

الجدير بالذكر هو أن ألمانيا من الدول الغربية القلائل التي اقتربت بشكل كبير من حزب حركة النهضة، فقد صرح وزير الخارجية الألماني السابق غيدو فسترفاله أن حركة النهضة هي "النسخة التونسية الإسلامية للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني" فيما رآه البعض تطمينًا ألمانيًا للغرب. كما أن الكثير من المراقبين يرون أن ألمانيا هي راعي من رعاة النهضة داخليًا وخارجيًا.

  • الضغط الناعم عبر المجتمع المدني:

لن نبالغ كثيرًا إن قلنا إن المجتمع المدني التونسي صناعة ألمانية أمريكية بامتياز. منذ العام الأول للانتقال الديمقراطي سارعت مختلف جمعيات الأحزاب الألمانية الوقفية للانتصاب في تونس بالإضافة لوجود منظمات ألمانية مهمة أخرى تنشط منذ عهد بن علي مثل المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ)، معهد غوته، الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي (DAAD)، الحجرة التونسية الألمانية للصناعة والتجارة (AHK)...

ايزابيل فيرنفالس (محللة ألمانية مختصة في الشأن التونسي): يعتبر استقرار وازدهار تونس مهمَّيْن بالنسبة لألمانيا خاصة أنهما يؤديان إلى انخفاض موجات الهجرة للشمال

الملاحظ لنشاط الجمعيات الألمانية في تونس يستنتج أن هناك تقسيمًا واضحًا للأدوار وتكاملًا بينها. فكل جمعية تركز عملها في مجال معين وهذا ينطبق أيضًا على جمعيات الأحزاب الألمانية.

فبينما يركز مركز كونراد أداناور الوقفي (التابع للاتحاد الديمقراطي المسيحي) على التعامل مع الأحزاب اليمينية ومنظمة الأعراف مثلًا، يركز مركز فريدريش إيبارت الوقفي (التابع للحزب الاجتماعي الديمقراطي) على التعامل مع اتحاد الشغل والقوى اليسارية. مركز هاينريش بول الوقفي (التابع للخضر) يركز على قضايا المرأة والجندرة والأقليات كما أنه يمول جمعيات مراقبة الانتخابات وجمعيات الرقابة البرلمانية (البوصلة). مركز روزا لكسينبورغ الوقفي (التابع لحزب اليسار التقليدي) قريب من أحزاب أقصى اليسار في تونس. أما مركز فريدريش ناومان الوقفي (التابع للحزب الديمقراطي الليبرالي) يحاول من جانبه التعريف بالأفكار الليبرالية.

بالنسبة لجمعيات الرقابة المعروفة في ألمانيا مثل منظمة الشفافية الدولية فقد ساهمت في تكوين وتمويل وإنشاء جمعية تونسية مماثلة هي جمعية "أنا يقظ". أما بشأن جمعية "البوصلة" فقد تلقت التدريب والتمويل من جمعية رقابة برلمانية ألمانية هي Abgeordnetenwatch. كما أنها تتلقى تمويلًا من السفارة الألمانية.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تتصدّر تونس مناهضة التطبيع في موجته الجديدة؟

بالنسبة للأحزاب التونسية، فقد عقدت سنة 2015 حركة النهضة مع مركز هانز زايدل الوقفي (التابع للاتحاد الاجتماعي المسيحي) ورشة عمل حول "تطوير الأحزاب المحافظة" ودراسة تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية بحضور رئيس الحركة راشد الغنوشي. ومن جهة أخرى فقد تلقى نداء تونس تدريبًا على إدارة الحملات الانتخابية من قبل مركز كونراد ادناور الوقفي. هنا نلحظ تكامل عمل الجمعيات الألمانية فبينما يدرب الأول النهضة يدرب الثاني غريمها.

  • الدعم الاقتصادي:

الدعم السياسي للديمقراطية الناشئة في تونس تبعه دعم مالي واقتصادي مهم من قبل الألمان.

كانت ألمانيا على سبيل المثال أول دولة أوروبية بادرت بتقديم قروض لتونس بعد 14 جانفي/يناير (قرض أول بقيمة 35 مليون أورو وقرض ثان يقدر بـ 32 مليون أورو)، كما قامت ألمانيا بتحويل ديون تونس لديها، والمقدرة بـ 60 مليون أورو، إلى استثمارات في مشاريع حيوية في تونس.

بالإضافة إلى ذلك وبمناسبة قمة مجموعة العشرين سنة 2017 أعلنت ألمانيا عن دعمها لتونس بمبلغ قيمته 300 مليون أورو.

سنة 2020 أقدم البنك الألماني للتنمية على إقراض تونس مبلغًا قيمته 150 مليون أورو لدعم القطاع العمومي.

IV. السياسة الخارجية الألمانية في تونس: صداقة مجانية أم ضغط ناعم؟ 

بعد عرض المقاربة الألمانية للسياسة الخارجية، دوافعها ووسائلها، من وجهة نظرنا، سنحاول هنا الإجابة عن سؤال ما إن كانت محركات الدور الألماني في تونس الصداقة المجانية فقط أم أن الأمر لا يتعدى ضغطًا ناعمًا خدمةً لمصالح البلاد الاستراتيجية. سنحاول الإجابة عن هذا السؤال بالاعتماد على وجهة نظر كل من المحللة الألمانية المعروفة ايزابيل فيرنفالس (Isabelle Werenfels)، الخبيرة بالشأن التونسي وشؤون شمال إفريقيا في مركز الدراسات الأمنية والسياسية الدولية الألماني (Deutschen Instituts für Internationale Politik und  Sicherheit)  وفرانز ماغت (Franz Maget) السياسي الألماني التابع للحزب الاشتراكي الديمقراطي والملحق الاجتماعي السابق في سفارة ألمانيا بتونس بين 2016 و2018.

حسب رأي الدكتورة فيرنفالس فإن السياسة الخارجية الألمانية تحركها قيم ومصالح في نفس الوقت. في الغالب ترجح كفة المصالح. بالنسبة للحالة التونسية تركيبة وتوليفة من المصالح والقيم. نجاح الانتقال الديمقراطي في تونس هو حسب المحللة مهم لوزارة الخارجية الألمانية. في نفس الوقت يعتبر استقرار وازدهار تونس مهمَّيْن لألمانيا خاصة أنهما يؤديان إلى انخفاض موجات الهجرة للشمال. كما تتفق الدكتورة فيرنفالس في كون أن ألمانيا بعد الثورة كانت مبادرة واستفادت من الصورة السلبية لفرنسا في أذهان الناس.

فرانز ماغت (سياسي ألماني تابع للحزب الاشتراكي الديمقراطي): 

بالنسبة لفرانز ماغت فإنه يرى التالي:إن تعاون ألمانيا الإنمائي هو شكل من أشكال "القوة الناعمة"، فمن خلال البرامج المشتركة والدعم المالي، يهدف إلى مساعدة البلدان الشريكة لنا على تحقيق الأهداف المرجوة

كانت ألمانيا أيضًا قوة استعمارية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1918). ومع ذلك، لم تكن هناك مستعمرات ألمانية في شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط. لذلك، على عكس فرنسا وبريطانيا العظمى، لا نسعى لتحقيق أي أهداف جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إلا أن وجود دول شمال إفريقيا على مقربة جغرافية من الاتحاد الأوروبي، يجعل استقرار تونس السياسي وتكثيف الروابط الاقتصادية أمريْن مهمّيْن.

لذلك فإن الدعم والتعاون الخاصين مع تونس لهما أيضًا دوافع جيوسياسية. نحن نرى تونس على أنها الدولة الوحيدة في شمال إفريقيا التي حدث فيها تحول نحو الديمقراطية إلى حد كبير. نريد أن نستمر في مواكبة هذا المسار بشكل مكثف، من خلال توفير الدعم المتنوع لمنظمات المجتمع المدني. مؤسساتنا ملتزمة هنا بشكل خاص لأنها تتمتع بأفضل ظروف العمل وأكثرها حرية. 

هذا ليس "كرمًا"، ولكن الوصول لمجتمع ديمقراطي هو أيضًا من مصلحتنا الخاصة. التعاون مع الحكومات الاستبدادية مثل مصر أكثر صعوبة وإشكالية لنا لأسباب عديدة. 

تعتبر السياسة الخارجية الألمانية نفسها مقيدة بالقيم وليست ذات توجه عسكري. سياستنا الخارجية لا تريد التدخل عسكريًا، بل تحاول المساهمة في حل النزاعات كـ"وسيط نزيه" في النزاعات (مثل ليبيا). 

إن تعاوننا الإنمائي هو شكل من أشكال "القوة الناعمة". من خلال البرامج المشتركة والدعم المالي، يهدف إلى مساعدة البلدان الشريكة لنا على تحقيق الأهداف المرجوة. تتم مناقشة البرامج المشتركة والبت فيها في مفاوضات حكومية مشتركة. إذا كانت تونس تريد برامج في مجال إدارة المياه أو سياسة الطاقة، فنحن ندعمها. وبالمثل، عندما يتعلق الأمر بدعم البرلمان أو النهوض بالمرأة أو تحسين ظروف الاستثمار أو تأمين الحدود.

 

اقرأ/ي أيضًا:

10 سنوات "ربيع عربي": تقييمات ألمانية لمآلات الثورة التونسية

هل يمكن صناعة الثورة والحركات الاجتماعيّة مخابراتيًا؟