15-أكتوبر-2020

الثورات هي من سنن الحركات الاجتماعية في التاريخ (Antoine Gyori/AGP)

فكرة صناعة الثورات قديمة صاحبت أهمّ المنعطفات في التاريخ المعاصر وأحداثه الكبرى، والثورات وحركات التغيير الاجتماعي من أهمّها. فلم تسلم الثورة الفرنسيّة والبولشيفيّة والإيرانيّة من هذا الضرب من نماذج التفسير المؤسس على مفهوم المؤامرة. ومازال حدث 11 سبتمبر يجود بقراءة عجائبيّة بين الفينة والأخرى. ولم تشذّ عن هذا ثورة المجال العربي المنطلقة من تونس.

غير أنّ شاغلنا ليس فكرة المؤامرة ومنوالها التفسيري، بقدرما هو سعي منّا إلى التركيز، في هذا الحيّز المحدود، على السياق الذي عاد فيه الحديث عن "الربيع العبري" في المشهد الإعلامي في تونس. وهو سياق متعلّق بمرحلة مهمّة من مسار بناء الديمقراطيّة، وتوضّح القوى الفاعلة الأساسيّة فيه. 

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تتصدّر تونس مناهضة التطبيع في موجته الجديدة؟

دعاوى قديمة

ما ذُكر من كلام مُسنَد إلى وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السابقة هيلاري كلنتون منذ سنوات عن الربيع العربي يُستعاد هذه الأيّام رغم انكشاف الكذبة، فقد عاد كثيرون إلى الإحالات في أصلها باللغة الإنقليزية وبأرقام الصفحات المزعومة من الكتاب، ولا أثر لما نُسب إلى هيلاري كلينتون واعتبارها الربيع صنيعة الإدارة الأمريكيّة. وفي الترجمة العربيّة التي قد لا يعتدّ بها لا نعثر في الفصل الخمس على أكثر من إشارات تطوّر الأحداث المفاجئ. واستنتاج أنّ للثورة التونسيّة طاقةَ عدوى في المجال العربي.

انتفاضات الجموع لا يمكن أن تصنع في غُرف المخابرات، إنّها صورة من سُنن الحركات الاجتماعيّة عبر التاريخ

لم نكن في حاجة البتّة إلى العودة إلى الكتاب، فانتفاضات الجموع لا يمكن أن تصنع في غُرف المخابرات، إنّها صورة من سُنن الحركات الاجتماعيّة عبر التاريخ. فالدوائر الاستخباراتيّة قد تنجح في الاستفادة من سياق من سياقات الانتفاض حين ينجح في تحقيق أهدافه بكسر الاستبداد، وقد تُوفّق حتّى إلى توجيهه بسبب قوّة شبكاتها ونفوذها الإعلامي والمالي واللوجستي، ولكن لا يمكنها بحال من الأحوال أن تصنعها، فللظواهر قوانينها الخارجة عن إرادة الأفراد وإن ساهموا فيها.    

وتأتي مثل هذه السرديات المستهلكة بأكثر إصرارًا من قبل من ينتسبون إلى "الفهم العلمي" للظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة ( كلمة صارت تحشّم اليوم). ولكنّهم يشتركون في إثارتها، عند كلّ محطّة، مع لوبيّات المصالح القديمة التي تخسر منزلتها مع الوقت، رغم نجاحها في إجهاض تجربة التأسيس، وتمكّنها من الإثخان في جسد الانتقال الديمقراطي.  

كما أنّها لا تُخفي، في مثل هذه الدعاوى، لقاءها مع أعداء الديمقراطيّة من الاتجاه الخليجي المتصهين بقيادة "فروخ" الإمارات حتّى بعد الاتفاق الإماراتي الصهيوني الذي يكشف تزعّم دولة الاحتلال للثورة المضادّة منذ 2011 واستراتيجيّتها في قلب الثورة إلى حرب أهليّة ومنع بناء الديمقراطيّة. وهذا كفيل بإسقاط فِرْيَة "الربيع العبري".

اليوم هناك عودة إلى النغمة نفسها حول ما قيل عن نشر رسائل من البريد الإلكتروني للوزيرة الديمقراطيّة نفسها. وهناك مسارعة إلى انتقاء ما يناسب الإعلام النوفمبري.

فهم لا يتحدّثون عن موقف فرنسا الرسمي من الثورة في تونس منذ يوم 12 جانفي/كانون الثاني 2011، وعلى لسان وزيرة خارجيّتها يومها ميشال أليو ماري. ولا يستحضرون مؤامرات فرنسا على مسار بناء الديمقراطيّة وقد بلغت حدّ تنظيم عمليّات اغتيال خارج البلاد باعتراف فرنسوا هولوند رئيس فرنسا السابق، وتزامن ما ذكره مع عمليتيْ الاغتيال في 2013 في تونس. ولا يمكن أن نرى من أوفياء فرنسا في بلادنا ولو إشارة عابرة إلى مثل هذا حتّى ممّن هم "أولياء دم" الشهيدين من أحزاب وشخصيّات سياسيّة. وينخرطون في اتهام لا يتوقّف وبلا دليل لشركاء لهم لا يتنصّلون من مسؤوليّتهم السياسيّة  لتمثيلهم السلطة والدولة زمن الجريمة.

الثورة وشروطها المحليّة   

الثورة صنعها الأحرار، وقد هبّوا من الهامش بعد أن عجزت الطبقة السياسيّة التقليديّة ووجها المعارض عن الفعل. وكسروا الاستبداد وفرضوا الاختيار الشعبي الحر.

والذي لا يختلف فيه اثنان أنّه ليس بإمكان أيّ كان أن يحكم ما لم يختره الشعب. صار هذا حقيقة بعد انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. ويستمرّ اليوم فيما يعرف بالانتقال الديمقراطي. فالاختيار الشعبي الحر هو من أوصل المرزوقي والسبسي سعيّد إلى رئاسة الجمهوريّة وهو من أوصل بن جعفر والناصر والغنوشي إلى المؤسسة التشريعيّة. سيتحدّث البعض عن تأثير في نتائج الانتخابات. وهذا واقع بدرجات متفاوتة، ولكنّه تأثير لا يطول الورقة بعد وضعها في الصندوق.

يكشف الاتفاق الإماراتي الصهيوني تزعّم دولة الاحتلال للثورة المضادّة منذ 2011 واستراتيجيّتها في قلب الثورة إلى حرب أهليّة ومنع بناء الديمقراطيّة

ولهذا الاختيار الشعبي الحر أثر على علاقة البلاد بما حولها سواء بالملفّ الليبي أو بسائر مصالح تونس الإقليميّة المتوسطيّة والدوليّة. فالعلاقة بفرنسا لم تتغيّر في ظاهرها ولكنّها تتغيّر بتناسب مع التقدّم في بناء الديمقراطيّة. والفرق بين علاقة تونس بفرنسا زمن الاستبداد وفي زمن الثورة أنّ بن علي قارب علاقته بفرنسا من موقع التابع ونُقاربُها اليوم بإرثها التبعي من موقع المصلحة الوطنيّة حتّى وإن لم نحقّق من مصلحة بلادنا ما كان يمنح لبن علي لمصلحته. ففرنسا التي كانت سوّقت صورة بن علي التلميذ النجيب في أروقة صندوق النقد الدولي تعرف أنّها لم تجد هذه الصورة مع من انتخبهم الشعب التونسي، بما في ذلك من تعبرهم منها وإليها وعملت في 2014 على مساعدتهم للعودة القويّة.

وفي هذا السياق، نفهم أيضًا العلاقة بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وغيرها من القوى الفاعلة في محيطنا. ومن المفارقات أنّ كثيرًا ممن كانوا في مشهدنا السياسي صدى للثورة المضادّة المتصهينة في المجال العربي، يضجّون بكلّ علاقة بالولايات المتحدة الأمريكيّة اليوم، فيظهرون على يسار جيفارا في مناهضة الإمبرياليّة وهم يدركون أنّهم يعادون كلّ محاولة لمساحة سيادة جديدة تنفتح مع كلّ خطوة تقدّم على طريق بناء الديمقراطيّة. فلا سيادة خارج البناء الديمقراطي والمواطنة الكريمة والاختيار الشعبي الحر. فالسيادة ليست خطابًا ، السيادة عمل دؤوب على طريق تأسيس الاختيار الشعبي الحر.  

مرجعيّة الديمقراطيّة ومسار بنائها  

الولايات المتّحدة إمبرياليّة وبالخطاب ما بعد حداثي هي استكبار عالمي، وهي قوّة عالميّة تكاد تغطّي قواعدها العسكريّة وشركاتها متعدّدة الجنسيّات المعمورة. وبرغم عمّا تعرفه اليوم هذه القوّة من انحسار على صلة بانكسار عرفه تيّار العولمة أمام نزعات شعبويّة صاعد،  فإنّ منطقتنا لم تخرج بعد عن هذا النفوذ المتقاطع مع هيمنة قوى دوليّة ونظام عالمي كان نتيجة لميزان قوى سياسي واستراتيجي سليل الحرب العالميّة الثانية. فكيف تكون العلاقة مع هذه القوّة ذات النفوذ العالمي؟

اقرأ/ي أيضًا: تونس في المؤشر العربي 2020/2019.. قراءة الأرقام وحصد المفارقات

تتحدّد العلاقة بها على ضوء بعدين أساسيين المصلحة الوطنيّة وشروط بناء الديمقراطية. ويمثّل بناء الديمقراطيّة والتقدّم فيه في السياق التونسي ـ قياسًا إلى وزن بلادنا في مجال المصالح والجيو ـ استراتيجيا ـ الثابتَ الوطني في العلاقة بالفاعلين إقليميًا ودوليًا. ولهذا السبب لا يمكن أن نكون في الصراع الليبي إلاّ إلى جانب الطرف الذي يعمل على الحل السياسي وبناء الديمقراطيّة والجهات الإقليميّة المتدخّلة التي تدعمه. كما لا يمكن أن يكون البناء الديمقراطي والاختيار الشعبي الحر مقابلًا لا لسلاح ولا لأمن ولا لغذاء. فالمصالح مقابل المصالح. والجهة التي تمثّل الاختيار الشعبي المشبع بالشرعيّة لا يمكن مقايضة المصلحة بالحريّة، وأن عازتها القوّة الماديّة على تثبيت كلّ قناعاتها.   

مرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها أهمّ ثابت في ضبط السياسية الخارجيّة والديبلوماسيّة التونسيّة. وكلّما توضّحت هذه الحقيقة وترسّخت خبا كثيرٌ من دعاوى تقاليد الثوابت الديبلوماسيّة وأكاذيب الحياد الإيجابي.

ولذلك يمثّل الاستثمار في الحريّة والسعي إلى تأسيسها في أبنية سياسيّة وتصريفها في قوّة اقتصاديّة ونظم معرفيّة هدفًا استراتيجيًا وغاية تجري إليها كلّ تجربة في الانتظام السياسي تجتهد في إقامة المعادلة المفقودة بين القوّة والقيمة. إذ القوّة دون قيمة عمياء، والقيمة دون قوّة جوفاء. هي المعادلة بين القوّة الماديّة والقوّة الرمزيّة. وهل تقوم الثورة إلاّ عندما تحوّل الدولة الأخلاق (القيمة) إلى قانون (يمثل صورة القوّة).

تحوّلات كبرى في الأفق

على المستوى العربي، يمثّل تزعّم الكيان الصهيوني للثورة المضادّة بتمويل البداوة العربيّة الناكصة سقوطًا عمليًا لسردية "الربيع العبري". ويضيء جانبا آخر مهمًا من تحوّلات في المحاور والقوى الدوليّة مستقبل مجالنا العربي ومحيطنا المتوسّطي. فالولايات المتّحدة المنسحبة تدريجيًا إلى مجالها التاريخي بالمحيط الأطلسي تترك فراغًا في المتوسّط بدأ ملؤه بمن بادر إلى الفراغ وله أدوات ملْئِه.

وفي هذا السياق، نفهم الدورين الروسي والتركي في المتوسّط فهما أقرب إلى أن يكونا "متعهّد إليهما". فالولايات المتّحدة لن تبحث عن حليف استراتيجي في المنطقة مثلما كان شأنها في منتصف ستينيّات القرن الماضي مع الكيان الصهيوني.

يمثّل تزعّم الكيان الصهيوني للثورة المضادّة بتمويل البداوة العربيّة الناكصة سقوطًا عمليًا لسردية "الربيع العبري"

"أمريكا التي كانت تُزعج بالتدخّل في كلّ شيء، صارت مزعجة برفع يدها عن كلّ شيء" بعبارة الصحفي توماس فريدمان. وهو الذي كتب بعموده بصحيفة "نيويورك تايمز" في نهاية شهر أغسطس الفارط متسائلًا: هل تنتهي ديمقراطيّة أمريكا بانتخابات 2020؟ متنبّئا بحرب أهليّة كأنّ بعضًا من شروطها قائمة. فتصريحات ترامب حول مدى التزامه بنتائج الانتخابات غير مسبوقة، ومحاولة اختطاف الحاكمة الديمقراطيّة لولاية ميشيغان من قبل جماعة يمينيّة متطرّفة، وقبلهما حادثة جورج فلويد، كلّها مؤشرات على احتراب أهلي وبداية نهاية تجربة أعرق ديمقراطيّة حديثة لا يمكن أن تُؤتى إلاّ من داخلها.

وكأنّنا أمام ديمقراطيّة تأفل لتفسح المجال بعد عقود أمام ديمقراطيّة جديدة وهوية انتظام بديلة لن تتوضّح إضافتها إلاّ مع التجربة والتحوّلات المجتمعية وما الربيع العربي إلاّ قادح لهذه المسيرة المضنية. وعند هذا الأفق يتضاءل النموذج التفسيري التآمري ليُسَلّم بوجود مرحلة جديدة يعرفها العالم للانتقال السياسي نحو ديمقراطيّة أنجع أو لعلّه انتظام سياسي لا نتبيّن الآن ملامحه كاملة، ويبقى لنا شرف تدشينه. ومن المهم تسجيل فارق نوعي بين سياق التجربة الأولى وسياق التجربة هذه هو النقلة المهمّة في علاقة السياسية بالسوق، كانت في الأولى السوق مشروطة بالسياسة (الأيديولوجيا)، وفي الثانية السياسة مشروطة بالسوق. وفي ذلك خروج من الحرب العالميّة الثانية ونتائجها السياسيّة والاستراتيجيّة التي استنفذت أغراضها السياسية والأخلاقيّة إلى عالم جديد لا علامة واضحة عليه إلى حدّ الآن.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة النظام السياسي أم أزمة القوى الديمقراطيّة؟

‏‏ما وراء الجدل حول آيا صوفيا.. رؤى تونسية متباينة حول تركيا