31-ديسمبر-2020

ما لا خلاف فيه هو أنّٰ المسار الديمقراطي يعرف تعثّٰرًا حقيقيًا تفاقم بعد انتخابات 2019 (فرانك برفال/Getty)

 

لم يعد هناك ما يتهدّد الديمقراطية، جملة تتردّد على ألسنة بعض القيادات الحزبية والنخبة السياسية وصنّٰاع الرأي في المشهد السياسي التونسي. ولهذا ما يؤيّده. ولكن الذي لا خلاف فيه هو أنّٰ المسار الديمقراطي يعرف تعثّٰرًا حقيقيًا تفاقم بعد انتخابات 2019. فلم يُستكمل بناء النظام الجديد ومؤسساته الديمقراطية وفي مقدمتها المحكمة الدستورية. مثلما لم يتسنّ تجديد ما أُرسي من هيئات تعديلية ودستورية وقد أنهك بعضَها الشغوراتُ التي لم تُسَدّ، وبعضُها الآخر خالطه الفساد ووسواس الأيديولوجيا. وفي مستوى الجوار، عرفت الأسابيع الأخيرة مستجدات مهمة في كل من المغرب والجزائر وليبيا يبدو بعضُها في غير صالح الديمقراطية ومسارها في تونس وفي بلاد المغرب العربي.

تطورات مثيرة

شدّدنا في مناسبات سابقة على الأسباب التي سمحت بتواصل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس. وقد كنّا أشرنا، في أكثر من سياق، إلى أنها كانت ثلاثة: إجماعًا على مفهوم الدولة، ولقاءً بين قوى الاعتدال من القديم والجديد بتنازلات متبادلة لبناء الديمقراطية، ومؤسسةً أمنية وعسكرية خارج الرهانات السياسية ملتزمة بأمن البلاد ومؤسساتها وحماية الاختيار الشعبي ونتائجه السياسة.

يقف الرئيس قيس سعيّد بتفويضه الشعبي التاريخي غير المسبوق وفيًّا لتصوّر شكلاني يقطع مع الديمقراطيّة التمثيليّة ومنظومتها الحزبية

وقد عبّرت انتخابات 2014 عن هذا التوجه العام أحسن تعبير، غير أن انتخابات 2019 التي بدت وكأنّها جولة سياسية لفائدة "الجديد" أفصحت، بعد مضي عام عليها، عن متغيرات لم تكن في الحسبان. أهمّها بروز قوّتين تناهضان المسار الديمقراطي. فمن ناحية، يقف الرئيس قيس سعيّد بتفويضه الشعبي التاريخي غير المسبوق، وفيًّا لتصوّر شكلاني يقطع مع الديمقراطيّة التمثيليّة ومنظومتها الحزبية. ومن ناحية أخرى، تبرز عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر غير معترفة بالثورة والدستور والديمقراطيّة. ولا يخرج برنامجها عن استعادة نظام الاستبداد وغلق قوس الثورة. مما أوجد فرزًا جديدًا على قاعدة الموقف من الديمقراطيّة، وساعد على بروز ثلاثة عناوين في قراءة المشهد الحزبي والبرلماني: ديمقراطيّة وشعبويّة وفاشيّة. وصارت هذه الثلاثيّة من معجم التحليل السياسي في مقاربة الانتقال الديمقراطي.

كشفت انتخابات 2019 عن اتجاه جديد تمثّل في الانتقاض التدريجي للشروط التي مكّنت الانتقال الديمقراطي من التواصل. وبدا واضحًا اضمحلال أحد مكوّني التوافق (حزب نداء تونس) وضعف مكوّنه الثاني (حركة النهضة) وتطوّر أزمته الداخليّة. إلى جانب صعود قوى جذريّة في طرفي المشهد السياسي (ائتلاف الكرامة، الدستوري الحر) واحتداد التجاذبات السياسية والمعارك الهووية، وارتفاع أصوات بعض "الديمقراطيين" بدعوة رئيس الجمهوريّة إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور وإنزال الجيش والمؤسسة الأمنيّة واحتجاز الفاسدين وتسليمهم إلى القضاء. ويمثّل هذا الاتجاه الجديد مؤشّرًا خطيرًا في مسيرة الانتقال الديمقراطي وتواصلها لا يُنتبَه إليه بالجديّة المطلوبة. ويزداد خطره مع جوار إقليمي متقلّب يعرف هذه الأيّام مستجدّات لا يمكن درء تداعياتها على المشهد السياسي. 

تبرز عبير موسي، خلال العام الأخير، غير معترفة بالثورة والدستور والديمقراطيّة ولا يخرج برنامجها عن استعادة نظام الاستبداد وغلق قوس الثورة

اقرأ/ي أيضًا: 2020.. حصاد عام استثنائي وانتظارات واسعة في تونس

دعوات إلى الحوار

لم تعرف البلاد مبادرات سياسيّة ودعوات إلى الحوار بالعدد الذي عرفته هذه الأيّام. وقد صدرت عن جهات حزبيّة ومنظّمات اجتماعيّة وشخصيّات سياسيّة. غير أنّه لم يبق، بعد شهر على هذه المبادرات، من أثر يذكر إلاّ لمبادرة اتحاد الشغل التي توجّه بها إلى رئيس الجمهوريّة، وقد اشتملت على قسمين سياسي واقتصادي اجتماعي ودعوة إلى تدشين إصلاحات فيهما.

وقد مثّل رئيس الجمهوريّة متكأً لبعض الأحزاب البرلمانيّة. وأحد ثوابتها في التقدير وبناء الموقف السياسي. وكانت فكرة "حكومة الرئيس" منطلقاً لمحاولة متدرّجة منها في الاستفادة من رصيد الرجل الانتخابي والاستثمار فيه حزبيًّا وسياسيًا. وبقدر ما حصلت هذه الأحزاب على ما أرادته منه فإنّها "ساعدته" على الانجرار إلى حلبة التجاذب السياسي، فأفقدت رئاسة الجمهوريّة دورها التحكيمي. وجعلت منها، في بعض السياقات، جزءًا من المشكل. وحرمت المشهد السياسي من سلطة أخلاقيّة معدّلِة. 

نذكّر بأنّ الدعوات إلى الحوار ارتبطت في سنوات الانتقال العشر بالأزمة. ومثّل الحوار الوطني محطّة مهمّة في العمليّة السياسيّة. ومعه كان الخروج من التأسيس إلى الانتقال الديمقراطي. غير أنّ جلّ الدعوات السابقة إلى الحوار كانت تعكس علاقة الطبقة السياسيّة بالثقافة الديمقراطيّة. إذ كانت في عمقها دعوة إلى تغيير قواعد اللعبة. والانطلاق من نقطة الصفر ومن ميزان قوى محايث لميزان القوى الذي أفصح عنه الاختيار الشعبي الحر وعلى حسابه.

جلّ الدعوات السابقة إلى الحوار كانت تعكس علاقة الطبقة السياسيّة بالثقافة الديمقراطيّة إذ كانت في عمقها دعوة إلى تغيير قواعد اللعبة

وعلى هذا الأساس، قاست عديد القوى دعوات الحوار اليوم على الحوار الوطني في 2013 وملابساته. وكان لهذا القياس ما يبرّره من تصاعد الاحتجاجات. فقد عرفت البلاد بعد إمضاء الحكومة على اتفاق الكامور، موجة واسعة من الاحتجاجات والاعتصامات أغرت أمين عام حزب العمّال بالدعوة إلى ثورة جديدة تطيح بالنظام الجديد. مثلما أغرت جهات سياسيّة ونقابيّة بتصعيد خطابها ظنّا منها أنّ الحركة المطلبيّة الاحتجاجيّة بتوسّعها المطّرد قد تنفتح على احتمالات قصوى.

ولكن ما يمكن ملاحظته بجلاء أنّ الاحتجاجات صنفان يميّز بينهما العلاقة بالديمقراطيّة ومسارها. فمن هذه الاحتجاجات ما كان بمرجعيّة الديمقراطية. ومنها ما كان مناسبة للطعن فيها وفي عمليّة الانتقال وأسس النظام السياسي. ويمكن ملاحظة هذا الفارق في خطاب المحتجّين والمعتصمين وشعاراتهم، وفي طبيعة المطالب نفسها.

وكان لهذا التمييز بين نوعي الاحتجاج أثر بيّن على مستقبل الحوار. وأنّه إذا تمّ التسليم بمرجعيّة الديمقراطّيّة ومسارها في موضوع الحوار فإنّ إطاره الطبيعي أن تكون مؤسسات الدولة الثلاث. وفي هذا السياق يأتي توجّه اتحاد الشغل بمبادرته إلى مجلس النواب، بعد تجاهلها لفترة من قبل رئيس الجمهوريّة.

اقرأ/ي أيضًا: 10 سنوات "ربيع عربي": تقييمات ألمانية لمآلات الثورة التونسية

مستجدّات إقليميّة

وضع تونس المحليّ محاط بسياق إقليمي متحرّك. وقد أصبحت منطقة المغرب العربي نقطة استقطاب مهمّة. ويبدو أنّ ما عرفته ليبيا منذ 2015 في ارتباط بالتحولات في الشرق الأوسط والملف السوري تحديدًا باعتباره نقطة تركّز عندها صراع محاور يتّجه إلى إعادة إنتاج نفسه بعد جولة امتدّت من اليمن مرورًا بالعراق ورُسوّا عند بلاد الشام. وهو صراع بصدد تحويل محوره إلى بلاد المغرب العربي. وتأكّد هذا التوجّه بعد الاتفاق الصهيوني الإماراتي الذي يقود الثورة المضادّة لتأسيس الديمقراطيّة.

فالديمقراطيّة تمثّل اليوم تهديدًا وجوديًّا للاستبداد والاحتلال. وتعدّ الإطاحة بأطروحة الربيع العبري تحولًا عميقًا في الصراع. ومن هنا يأتي نقل محور الصراع إلى المغرب العربي فـ"مغرب عربي ديمقراطي" فكرةٌ بدأت تجمع شروط قيامها بثبات. وفي هذا السياق يأتي اتفاق التطبيع ومقايضته بمغربيّة الصحراء ردّة فعل على التوجّه الديمقراطي في المنطقة.

يأتي اتفاق التطبيع في المغرب ومقايضته بمغربيّة الصحراء ردّة فعل على التوجّه الديمقراطي في المنطقة

ولا يخفى ما حرّكته خطوة التطبيع في علاقة بملف الصحراء الغربيّة من توترات كامنة بين المغرب والجزائر. ومع ذلك فإنّ مغربيّة الصحراء لا تبرّر الاتفاق المبرم مع الكيان الصهيوني. فضلاً عن كون الاعتراف لم يأْتِ من جهة أممية وإنّما من رئيس أمريكي يغادر البيت الأبيض متلكّئًا في العشرين من جانفي/يناير من سنة 2021.

ومن جهة أخرى، فإنّ مشكل الصحراء وليد الحرب الباردة وتوازناتها. ولم يكن من مبرّر لزرع مثل هذا الكيان سوى طبيعة نظام الاستبداد العربي وتبعيّته لصراع الغرب الاستعماري بين حِلْفَيْ الإمبريالية اللذين يُخضعان العالم "النيتو" و"وراسو". فيكون اعتبار البوليزاريو رأس حربة لقوّة تقدّميّة في مواجهة النظام المخزني في المغرب أقرب إلى النكتة السمجة.

ولا يمكن أن نغفل عمّا يعرفه الحكم في الجزائر هذه الأيّام من حركيّة غير معهودة تستهدف الوضع الجديد الذي أسسه الرئيس بوتفليقة. وهو الذي أتت به المخابرات العسكريّة مثل غيره بعد 92 ليكون واجهة لما كان يسمّيه الجزائريون "حزب فرنسا". ولكنّه نجح، بعد صراع مرير، في جعل هذا الجهاز الذي قاد العشريّة السوداء وتحكّم بالسلطة والثروة تابعًا لمؤسسة رئاسة الجمهوريّة. وكان لهذا التحوّل العميق في السلطة في الجزائر تأثير إيجابي على تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وفي قدرتها على محاربة الإرهاب والنجاح في كسره. ويعدّ هذا التحوّل إلى جانب أزمة السلطة (مرض بوتفليقة وترشّحه إلى عهدة خامسة) من الأسباب التي مهّدت للحراك الشعبي.   

تواصل الكورونا، وعودة بعض رموز عشريّة التسعينات الدمويّة والاتجاه إلى تسوية ملفات عديد العسكريين منهم مقابل التضييق على أتباع القايد صالح، يأتي ضمن تسويات جديدة داخل السلطة والجيش. وهي تسويات لن تكون في صالح الحراك الديمقراطي. وقد تُمكّن السلطة من تجاوز أزمتها وانقساماتها السابقة في مواجهة الحراك الشعبي. وكل ذلك يقلّل من حظوظ إصلاحات سياسيّة وحياة ديمقراطيّة.

يأتي تواصل الكورونا وعودة بعض رموز عشريّة التسعينات الدمويّة والاتجاه إلى تسوية ملفات عديد العسكريين منهم ضمن تسويات جديدة داخل السلطة والجيش في الجزائر

أما في ليبيا، فإنّ مخرجات حوار الحلّ السياسي غير الباتّة، والتردّد في تطبيق ما اتضح منها، وعودة خليفة حفتر إلى تحرشه المسلّح وتحرّكه في محيط مدينة سرت، وتهديده باستئناف القتال، كلّ تلك عوامل غير مريحة بالنسبة إلى مسار الانتقال في تونس.

ويأتي التدخّل التركي في الأيّام القليلة الماضية، وانضمام مصر إلى المشاركة في ترتيبات الحل السياسي ونفض اليد عن حفتر ومن راهن عليه، كتحول مهم في التحالفات والترتيبات وخطوة حاسمة على طريق الحل السياسي وتدشين مسار انتقالي تحتاجه ليبيا.

اقرأ/ي أيضًا:  الديمقراطيّة والتطبيع في بلاد المغرب العربي

مِنْ "مَنْ نحن؟" إلى "ماذا بوسعنا أنْ نفعِل؟"

الوضع المحلّي محكوم بالتجاذب السياسيّ في مسار ديمقراطي متعثّر، وعنوان تعثّره يظهر في مستويين: 

في عدم استكمال بناء مؤسسات النظام الجديد وعلى رأسها المحكمة الدستوريّة. وإنّ غيابها كان يمكن أن يكون سببًا كافيً لانهيار التجربة كلّها. وفي العجز عن الإصلاحات المطلوبة وعن إنفاذ سياسات وصرف الميزانيات في الجهات وتنزيل ما يبرمج من مشاريع. 

وبالرغم من أنّه لا خلاف في كون الانتقال الاقتصادي مشروط نظريًّا بنجاح الانتقال السياسي وتمامه، فإنّ واقع الممارسة يمنح إمكانيّة الموازاة بين المسارين. والخروج من المرحليّة الحديّة التي لا تخلّف غير انتظار ساذج وإرجاء مضرّ لأنّ صبر الناس وقدرة الأبنية القديمة التي لم تجدّد على الاستمرار محدودة. وقد يعقبه انهيار شامل، إذا لم يفتح للأزمة أفق نحو الفعل وتجاوز الأزمة ولا يكون هذا بالحوار العقيم والمفوّت حول "من نحن؟؟" وإنّما بالإجابة عن سؤال ملحّ "ماذا بوسعنا أن نفعل؟؟".

من المهم الخروج من المرحليّة الحديّة التي لا تخلّف غير انتظار ساذج وإرجاء مضرّ لأنّ صبر الناس وقدرة الأبنية القديمة التي لم تجدّد على الاستمرار محدودة وقد يعقب انهيار شامل، إذا لم يفتح أفق نحو الفعل

ولقد أبانت دعوات الحوار وملابساتها، وما انتهت إليه من فتور، عن أنّ المواضيع الهوويّة ومدنيّة الدولة وطبيعة النظام السياسي وحقوق المرأة والمساواة باتت من الماضي. وكأنّ مسار بناء الديمقراطيّة قد جبّ أغلبها، وبات المطلوب هو الاجتهاد في بناء تصورات بنيتي الاقتصاد والتنمية وتقدّم البرامج والخطط الكبرى لبناء البلد.   

أشرنا إلى تحوّلات مهمّة في المشهد السياسي في تونس وما رافقه من تطوّرات إقليمية. وعمدنا إلى التركيز على ما ليس في صالح الانتقال الديمقراطي، دون أن نغفل الإيجابي منها ومنه تطورات الساعات الأخيرة في ليبيا. ذلك أنّ ما يواجه بناء الديمقراطيّة من صعوبات ولا سيما ما أشرنا إليه من تحولات محليّة يدفع إلى ترتيبات جديدة وعمل سياسي واسع لحماية المسار ودعم شروط استمراره. فمغرب عربي ديمقراطي خطوة مهمّة في سبيل بناء الديمقراطيّة والمواطنة الكريمة في المجال العربي. فالديمقراطيّة بناء هذا المجال لكيانه السياسي على غرار المجالين الجارين التركي والإيراني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اقتصاد تونس سنة 2020.. أرقام مفزعة تحتاج إنعاشًا سريعًا

10 أحداث منتظرة عام 2021 في تونس