08-يوليو-2019

الثقافة بمفهومها الحضاري محل نقاش فلسفي وفكري وصراع وتناحر بين الأمم (صورة تقريبية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

مقال رأي

 

في ستينيات القرن العشرين، عندما احتدم النقاش حول نشأة الاتحاد الأوروبي، لم يرق للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتابع عن كثب ما كان يحدث في القارة العجوز كلام الجنرال ديغول الذي دافع بشدة عن الاستثناء الثقافي، معتبرًا أن رأس المال الحقيقي لكل أمة أو شعب هو رصيده الثقافي.

لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد "مشروع مارشال" الضخم الذي أعاد الحياة لأوروبا بعد دمارات الحرب العالمية الثانية، تستعد لبسط نفوذها الثقافي على أوروبا ومن ثمة الذهاب لأمركة العالم بواسطة تيمات الكوكاكولا والهامبرغر وموسيقى هيب هوب ورياضة كرة السلة وغيرها.

لقد باتت السياسات الخارجية للعديد من البلدان وفي إطار تطوير أدائها تقوم على ما اصطلح بتسميته بـ"الدبلوماسية الثقافية"

ومنذ تلك الحادثة والثقافة بمفهومها الحضاري محل نقاش فلسفي وفكري وصراع وتناحر بين الثقافات والأمم وتوظيف سياسي واقتصادي. الثقافة سلاح نووي ناعم وأحيانًا يكون لا مرئيًا. لقد كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عندما يناقش ملفات مستعصية مع بعض قادة العالم يتسلّح بالحديث عن أول حجر جلبه الإنسان من القمر موجود على طاولة الضيوف داخل مكتبه وقد أهدته "ناسا" للبيت الأبيض ويطلب من ضيفه لمسه ويفرط في القول إن هذا الحجر الرمادي هو ملك للبشرية جمعاء. وعندما يحتدم النقاش أكثر فأكثر يشير إلى ساكسوفونه الفضي ويقول إن "الموسيقى هي اللغة الأم للإنسانية فلنذهب إلى كلمة سواء"، إنها الثقافة تفتح طريقًا في البحر تمامًا كعصا موسى.

لقد باتت السياسات الخارجية للعديد من البلدان وفي إطار تطوير أدائها تقوم على ما اصطلح بتسميته بـ"الدبلوماسية الثقافية" أو "النهج الجديد في العلاقات الدولية" بعيدًا عن دبلوماسية ربطات العنق الكيّسة واللطيفة التي ترعى مصالح البلدان دون الخروج عن العرف الدبلوماسي المقيد بالبروتوكولات والإيتيكات.

الدبلوماسية الثقافية تعتمد بالأساس على جاذبية الثقافة والفنون والآداب والمخزون التراثي والحضاري وعلى شخصيات اعتبارية في الرياضة والغناء والشعر والمسرح والسينما والرسم والرقص. فالكاتب المغربي محمد شكري، صاحب "الخبز الحافي"، هو معلم من معالم مدينة طنجة ورمز من رموزها وهو تقريبًا الكاتب الوحيد الذي تطبع صورته على أدلة السياحة. هذا النوع من الدبلوماسية بات طريقة جديدة لمزيد دعم فرص التعاون والاستثمار الاقتصادي والترويج للوجهات السياحية وتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدان والأمم.

الدبلوماسية الثقافية تعتمد بالأساس على جاذبية الثقافة والفنون والآداب والمخزون التراثي والحضاري وعلى شخصيات اعتبارية

وتونس باعتبارها بلدًا مفتوحًا على البحر فإنها تجد نفسها تثاقفية وتواصلية بالضرورة، وإذا قلبنا بعض صفحات من تاريخها السياسي وعلاقاتها الخارجية فإننا لا محالة سوف نقف على عراقة دبلوماسيتها وخاصة في عهد الحكم الحسيني الذي دام ثلاثة قرون من الزمن والتي منها استلهمت دولة الاستقلال ما كان يسميه الرئيس الحبيب بورقيبة بدبلوماسية السلم والسلام ودبلوماسية العلوم والمعارف. 

لكن هل استفادت تونس من تاريخها الدبلوماسي ومن رصيدها الحضاري والثقافي والتراثي حتى تتوخى وبشكل واضح نهج الدبلوماسية الثقافية من خلال استراتيجية وطنية واضحة بعيدًا عن المبادرات العابرة التي تنبثق من هنا وهناك؟

في ستينيات القرن العشرين وعندما اختارت تونس طريق السياحة أساسًا لاقتصادها الناشئ، اعتمدت على جملة من أساليب الترويج والجذب السياحي منها ما كان يسمى بـ"الأسابيع الثقافية". وكانت سفاراتنا في العالم تتفانى في تنظيم هذه الأسابيع الجاذبة للسياحة، وفعلًا حققت مراميها وباتت تونس وجهة سياحية مرموقة إلى اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: تونس ومجتمع الخطر...

هذا المثال هو دليل صارخ على نجاعة وصفة الثقافة في تجسير العلاقات الخارجية وربط الصلات الاقتصادية والتجارية. وهذا الأمر هو ما تم الانتباه إليه مؤخرًا من قبل الساسة الجدد الذين حكموا تونس بعد الثورة، إذ ما انفكت بعض الحكومات في أخذ أمر الثقافة ببعض الجدية في مستوى التشريعات وفي مستوى الإنشاء والتوظيف. لكن الحديث عن الدبلوماسية الثقافية طفى منذ أسابيع ضمن ندوة نظمها مركز تونس الدولي للسياسات الثقافية يوم 22 جوان/ حزيران 2019 بالتعاون مع الجمعية التونسية لقدماء السفراء والقناصل.

وخلال هذه الندوة تحدث التونسيون بصراحة عن سبل تفعيل الدبلوماسية الثقافية عبر مزيد العناية بالحياة الثقافية التونسية وإبراز وصيانة الرصيد الثقافي المادي واللامادي والتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية من أجل هيكلة القطاع الثقافي والتراثي وإدراج علاماته ضمن قائمات التراث الإنساني والدور البارز الذي يجب أن تلعبه وزارة الشؤون الخارجية في توظيف الإرث الثقافي والحضاري التونسي.

وفي اعتقادي أن لقاء وزيري الشؤون الخارجية والشؤون الثقافية الحاليين خلال الندوة المذكورة لم يتجاوز التشخيص والأدوار التي حاولت القيام بها كل وزارة على حده فيما يتعلق بالدبلوماسية الثقافية، إذ لم يحددا روزنامة مواعيد واضحة تنتهي برسم خطة عمل طويلة المدى ضمن رؤية مشتركة تكون إحدى هواجس الحكومة الحالية في مستوى العلاقات الخارجية التونسية.

الدبلوماسية الثقافية تتطلب رؤية مشتركة طويلة النفس بين العديد من الوزارات والمؤسسات الوطنية، بل وعيًا مجتمعيًا بأهمية المسألة في ظل تزاحم اقتصادي وتجاري دولي

إن الدبلوماسية الثقافية تتطلب رؤية مشتركة طويلة النفس بين العديد من الوزارات والمؤسسات الوطنية، بل وعيًا مجتمعيًا بأهمية المسألة في ظل تزاحم اقتصادي وتجاري دولي، ويكون منطلقها تكوين الدبلوماسيين التونسيين من أجل منحهم قدرات جديدة فنية وتواصلية ومعرفية تجعلهم قادرين على تثمين التراث والحضارة والثقافة التونسية والتفكير في بعث مراكز ثقافية تونسية حيث توجد المصالح التونسية وإعداد منصات الكترونية تونسية تسوّق للوجهة التونسية سياحيًا واستثماريًا وتجاريًا عبر إغراءات ثقافية كالزيارات الافتراضية للمتاحف التونسية والمواقع والمعالم والصور الجذابة للمخزون الإيكولوجيى، إلى جانب التعويل على الجالية التونسية بالخارج في معاضدة مجهود الدولة في توخيها نهج الثقافة من أجل جذب الاستثمار.

وكما سوقنا سابقًا لقفص سيدي بوسعيد والمشموم فإنه حري بنا الآن تعزيز هذه العلامات الثقافية بتيمات جديدة مستلهمة من التاريخ الثقافي الطويل.

إن تونس لا يزال ينتظرها الجهد المكثف والاستراتيجي من أجل بناء نهجها الجديد في علاقاتها الدولية وهو الدبلوماسية الثقافية خاصة وأن الحياة السياسية التونسية يشوبها عدم الاستقرار في ظل ديمقراطيتها الناشئة. لكن يبقى الرصيد الثقافي والحضاري هو كنز تونس الأبدي وجسرها الذهبي نحو العالم، " فالثقافة تبقى عندما يفنى كل شيء". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

بنت "السبعطاش" أصابتها حجرة سقراط

لا فرق بيننا.. كلنا أحمد أحمد!