26-نوفمبر-2019

يمثل ائتلاف الكرامة مرحلة من "انتظام أدنى" لهذه المكونات المتصفة بـ"الثوريّة" (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

عرف المشهد السياسي في تونس مع نتائج الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة الأخيرة ومع انطلاق المفاوضات حول تشكيل الحكومة استعادة لافتة لمعجم الثورة والتنازع في الصفة الثورية والعلاقة بأهداف الثورة. ورغم عدم انسحاب معجم الثورة من الخطاب السياسي وما جاوره، فإنّ ما عرفه مسار بناء الديمقراطيّة من انكسار في 2014 خفّف من وتيرة هذا الخطاب، وأعاد إلى الواجهة السؤال عن هويّة الانتفاض الاجتماعي وعلاقته بالثورة.

اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية والأحزاب التونسية.. من المساندة إلى المزايدة

من التأسيس إلى الانتقال الديمقراطي

تدرك الطبقة السياسية التقليدية بأنّها لم تكن وراء الثورة، وأنّ سقف نضالها كان لا يتجاوز توسيع الحريات والعفو التشريعي العام، وأنّ الحدث الذي عرفته البلاد انطلاقًا من 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 لا ينتمي إلى المجال السياسي الرسمي الذي استقرّت به عقودًا، وإنما هو مجال سياسي جديد، له حدوده الاجتماعيّة الخاصّة وأسلوبه الجذري في الانتفاض ومعجمه السياسي المستقل. وقد مثّل شعار "عصابة السراق" جملة سياسة فذّة جامعة مانعة عجزت الطبقة السياسية التقليدية عن كتابتها طوال تاريخها النضالي فأضاعت حقبًا من تاريخها السياسي في متاهات تحديد طبيعة النظام وطبيعة المرحلة والتناقض الثانوي والتناقض الرئيسي وبناء التحالفات.

كان انتفاض الهامش الجذري ثغرة في طريق التغيير المسدود، غير أنّها تلقّفت "الحدث الثوري" في المجال السياسي الرسمي وأعادت إنتاجه من خلال مفهومها القديم للثورة، وصراعاتها الإيديولوجية المستحكمة، فكانت الثغرة التي عاد منها القديم بقوّة إلى المشهد.

بقي المشهد السياسي متوترًا بين تأسيس مجهض وانتقال ديمقراطي لا يبلغ غاياته. وهو ما طرح بجديّة إعادة رسم الحدود بين القديم والجديد. فكان الخروج من فرز على قاعدة الثورة وأهدافها إلى فرز على قاعدة استكمال بناء النظام السياسي الجديد، وهي المهمة التي لم تستكمل بفعل حدة التجاذب السياسي، فما بُني من هيئات تعديلية لم يسلم من الهشاشة، وبقي ما لم يستكمل منها (المحكمة االدستورية) فراغًا دستوريًا قد يهدد مستقبل التجربة في منعطفات الانتقال المتعدّدة.

وقد كانت انتخابات 2014 صورة من هذا التوتر، فعرفت منظومة الحكم ازدواجية في مستوى الحكم والمعارضة، فمثلما كان الحكم برأسين (النهضة والنداء) كانت المعارضة بين وظيفيّةٍ لا تُخفي استقواءها بالقديم وعضويّة (المكون الديمقراطي الاجتماعي) لا تقدر على إقامة التوازن المطلوب في انتقال ديمقراطي مهدّد من الداخل والخارج.

بقي المشهد السياسي متوترًا بين تأسيس مجهض وانتقال ديمقراطي لا يبلغ غاياته وهو ما طرح بجديّة إعادة رسم الحدود بين القديم والجديد

في هذا السياق، يمكن تبينّ مضمون مستحدث للثورية مداره على استكمال المسار الديمقراطي، فظهر في الخطاب السياسي مصطلح الحوار الوطني والتوافق، بديلًا عن التأسيس وتحقيق أهداف الثورة، رغم ما بين المصطلحين (الحوار، التوافق) من تنافر مرجعي، فالحوار الوطني كان عنوان الجهات التي عملت على إجهاض التأسيس، في حين كان التوافق عنوان حركة النهضة التي وصلت بين معركتها الوجوديّة واستكمال بناء المنظومة الديمقراطيّة، في سياق تقدّم للثورة المضادّة في المجال العربي (مصر).

وإلى جانب حقيقة الانقسام الاجتماعي، أبانت انتخابات 2014 وخاصّة الرئاسية منها عن انقسام المجتمع بتجاور نمطين ونموذجين. تواصل المسار الديمقراطي يعني تنازلًا من الجهتين في نقطة التقاء تحت سقف المنظومة الديمقراطية. غير أنّ ما عرفه نداء تونس الواجهةُ السياسية للقديم من انشقاقات وصراعات داخل أجهزة الدولة وبأدواتها، وفشل سياسة التوافق في مجابهة الأزمة المالية الاقتصادية المتفاقمة واستشراء الفساد وتعطّل الأداء الحكومي، ضاعف من حدّة الأزمة ومن المخاطر المهددة للمسار.

في هذا السياق عاد خطاب الثورة، وتميّز بكونه نقدًا مزدوجًا بقدر ما يستهدف المنظومة يتوجه إلى حركة النهضة باعتبارها شريكًا في الحكم. بل ويتخذ النقد الموجه إليها منحى جذريًا فيه إدانة لتوافقها مع القديم وتواطؤها معه في أكثر من مستوى (قانون المصالحة الاقتصاديّة). في حين تتحَجّج هي بأنّ من أجبروها على وضع يدها في يد القديم بعد أن مثلوا غطاء عودته في اعتصام الرحيل والحوار الوطني وفوزه بانتخابات 2014 يدينون توافقها معه في معركتها الوجودية التي تعتبرها جزءًا من معركة بناء الديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: هل أوقعت هذه العناصر حركة النهضة في المحظور؟

ظهور مكونات سياسية جديدة

أصبح الانتقال الديمقراطي في تونس مجالًا خصبًا للملاحظة واستخلاص ما يمكن أن يرقى إلى منزلة القانون، وأهمّ ما يميّزه سجال القديم والجديد، فمثلما كانت انتخابات 2011 التأسيسية انتصارًا للجديد، بعد حوالي سنة تصدّر فيها القديم برموزه المشهد ولم يشفع له تبنيه الثورة ونطقه بلسانها، كانت انتخابات 2014 عودة قوية له تمكّن بواسطتها من اعتلاء الرئاسات الثلاث.

أمّا انتخابات 2019، فقد كانت في مجملها عودةً للجديد، مع تأكيد الملاحظة على عدم استقرار الحدود بين القديم والجديد، فهو مستوى مهم يمكن أن نرصد عنده ما عرفته صفة "الثورية" من تحولات في مضامينها وفي من يعبّر عنها.

ومثّلت نتائج الانتخابات الرئاسية ردّة فعل، ليس على القديم، وإنما على المشهد برمته، أي على عمليّة الانتقال الديمقرطي بأسرها، فأعادت الاعتبار للقيمة والأخلاق، بعد أن حوّلتها سياقات الانتقال إلى حسابات ومناورات وتنازلات، فضلًا عن تنبيهها إلى أن عملية الانتقال نفسها تجري في المجال السياسي الرسمي غاضة الطرف عن المجال السياسي الجديد (الهامش) الذي بقي على حاله، وتقترح منهجًا مغايرًا في توحيد البلاد وإعادة بناء الدولة.

وسّع ائتلاف الكرامة من دائرة "الحوار السياسي" ليجعل الاتحاد العام التونسي للشغل وفرنسا من ضمنها، بعد أن كاد الخوض في شأنهما يُسحب من الحياة السياسية، ويعتبر الائتلاف منحاه هذا جزءًا من الموقف الثوري

قُرئت الانتخابات التشريعيّة على أنها، بمعنى من المعاني، تفويض لـ"الصفّ الثوري". فكان بروز ملاحظ للأحزاب التي كانت في صفّ المعارضة (التيار الديمقراطي، حركة الشعب)، وظهور مكون جديد ملفت للنظر هو ائتلاف الكرامة، وهو في تقديرنا، ظاهرة لم يُتوقّف عندها مليًّا.

هو ظاهرة جديدة صاعدة نشأت في سياق الاستحقاق الانتخابي الأخير. وقبل هذا كانت "مادّة الائتلاف" موزّعة على تحركات مناسباتيّة تنتهي عند وقفة احتجاج أمام المسرح البلدي، منها حملة "وينو البترول". فائتلاف الكرامة مثّل مرحلة من "انتظام أدنى" لهذه المكونات المتصفة بـ"الثوريّة"، في سياق الاستحقاق الانتخابي الأخير، فكان له مرشّح في الانتخابات الرئاسية .

يمكن الحديث حينئذ عن اختراق سياسي جدي للمشهد السياسي وعن بروز مكون جديد في ما ينسب إلى الصف الثوري. هو اختراق من جهتين: من جهة علاقته بحركة النهضة، فهو عند خصومه أداة من أدواتها، ومن جهة علاقته بحزبي التيار والشعب. فالحزبان وجدا في حركة النهضة بخساراتها الأخلاقية والسياسية المتتالية "نقطة مرجعية" تقاس إليها ثوريتهم ويتحدّد بها موقفهم من "الصف الثوري" الذي يبدو عندهما "خليطًا غير منسجم"، ولكن ظهور ائتلاف الكرامة يشوش وظيفة هذه "النقطة المرجعية"، ذلك أنّ الائتلاف الذي يعتبر نفسه "حالة وعي"، وهو عند خصومه "حالة توتّر"، قد وسّع من دائرة "الحوار السياسي" ليجعل الاتحاد العام التونسي للشغل وفرنسا من ضمنها، بعد أن كاد الخوض في شأنهما يُسحب من الحياة السياسية. ويعتبر الائتلاف منحاه هذا جزءًا من السيادة والموقف الثوري.

ومثّل تشكيل الحكومة مناسبة لصراع إرادات سياسية تتنازع صفة الثورية، سواء في علاقتها بمكونات القديم ومنها حزبا قلب تونس والدستوري الحر، وبدرجة أقل حزب تحيا تونس، أو في علاقتها بالنهضة وبمبدأ المشاركة في الحكومة المكلّفة بتشكيلها.

لن تكون الديمقراطيّة التمثيلية سدرة منتهى تحط عندها التجربة وإنّما الآفاق مفتوح على انتظام أكثر أفقية ومن ثم أكثر عدلًا

يأتي ائتلاف الكرامة في مرحلة من مراحل الانتقال الديمقراطي مهمة تشير إلى أنّ حركة النهضة على مشارف إنجاز مهمتها التاريخية باعتبارها أهمّ شروط تأسيس الديمقراطية، وأن وجودها رهين هذا التأسيس. فيكون استواء الديمقراطية مرتبطًا باضمحلالها، لتحل في هوية سياسية أخرى، وعلى هذا مؤشرات من نتائجها الانتخابيّة منذ 2011.

وهذا الاتجاه العام غير مفصول عن ظهور ائتلاف الكرامة وموقعه في المشهد السياسي، فهو يحتلّ مساحة من مجال النهضة باستعادته "روح التأسيس" ومن مجالات الأحزاب المجاورة بمرجعيته الديمقراطية وباتجاهه الاجتماعي غير المؤسس نحو الهامش. والظاهرة مرشحة للتوسع في أكثر من اتجاه، رغم ما يعلق بها من شوائب.

جدل التأسيس/الانتقال الديمقراطي مازال خاصية المشهد من خلال خطاب الأحزاب السياسي وخاصة الأحزاب المحسوبة على الصف الثوري، فهي في علاقتها بمكونات القديم تتوتر بين منطق الثورة بما هو رفض للقديم واعتباره موضوعًا للمحاسبة، وهذا أمر ارتفعت شروطه ومنطق الانتقال الديمقراطي بما هو منافسة للقديم على قاعدة الاختيار الشعبي الحر. هذا التوتر هو الذي يصبغ "صفة الثورية" بالهشاشة وبضعف المصداقية.

هل تكون الثورية في استكمال المسار الديمقراطي وبناء مؤسسات فاعلة قادرة مع الوقت على مقاومة الفساد وتنمية البلاد وتجريد مستوى العيش، فتكون السلطة المسنودة باختيار شعبي قادرة على بناء علاقات إيجابية بالشركاء التقليديين بمقاربة وطنية تحفظ البلاد وذلك معنى من معاني السيادة؟ لن تكون الديمقراطيّة التمثيلية سدرة منتهى تحط عندها التجربة وإنّما الآفاق مفتوح على انتظام أكثر أفقية ومن ثم أكثر عدلًا،  تلك هي رسالة الانتخابات الرئاسية وفي ذلك معنى آخر لصفة "الثورية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحبيب الجملي مكلفًا بتشكيل الحكومة.. الرهانات والصعوبات

صيغة الحكم في تونس: تقاطعات السياسيّ والحزبيّ والشخصيّ