مقال رأي
لا يمكن للاتحاد العام التونسي للشغل ألاّ يكون محطّ أنظار الداخل والخارج في كلّ ما عرفته تونس في سنوات الانتقال العشر. ولا غرابة فقد ارتبط تاريخ تونس السياسي والاجتماعي منذ منتصف القرن الماضي بتاريخ تأسيس هذه المنظّمة سنة 1946 في منعطف مهمّ من منعطفات الحركة الوطنيّة، وبتجربتها الممتدّة.
ولقد مثّلت إجراءات 25 جويلية الاستثنائيّة المحطّة الأبرز، بعد سقوط نظام بن علي وملابساته، في علاقة الاتحاد بمسار الانتقال إلى الديمقراطيّة وما شهده من تعرّجات مثيرة.
- الموقف من 25 جويلية
كان موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من إجراءات الرئيس سعيّد الاستثنائية الأكثر انتظارًا من قبل الساحة السياسيّة، لما له من أهميّة. فالاتحاد هو الشريك الاجتماعي الأساسي للدولة، إلى درجة اعتُبر معها أنّ مستقبل الحركة التي أقدم عليها قيس سعيّد مرتبط إلى حدّ كبير بهذا الموقف.
بعد انتظار وترقّب لم يكن موقف المركزيّة النقابيّة معارضًا للإجراءات الاستثنائيّة وكان أقرب إلى مساندة مشروطة بضمانات منها التسقيف الزمني للإجراءات الاستثنائيّة حتّى لا تتحوّل إلى حالة دائمة تصادر فيها الحريّات وتهيّئ لعودة الاستبداد والتفرّد بالرأي. وعدّ موقف المساندة المشروطة لصالح الانقلاب، ذلك أنّ معارضة الاتحاد مبدأ الانقلاب كان سيضعف قيس سعيّد وحركته، ويجرّ وراءه جلّ قوى المجتمع المدني وجانبًا مهمًّا من الرأي العام.
كان موقف اتحاد الشغل من إجراءات سعيّد الاستثنائية الأكثر انتظارًا من قبل الساحة السياسية. فهو الشريك الاجتماعي الأساسي للدولة، إلى درجة اعتُبر معها أن مستقبل ما أقدم عليه الرئيس مرتبط إلى حدّ كبير بهذا الموقف
ومع تطوّر الأحداث وأطوار الانقلاب عرف موقف الاتحاد صعودًا ونزولًا دون أن يؤثّر ذلك في أصل الموقف. والاتحاد في كلّ ذلك مشدود إلى توازنات مكتبه التنفيذي وتفاعلات المشهد السياسي والموقف الدولي المراقب. فلقد غلب على القيادات النقابيّة القريبة من حركة الشعب (توجه قومي) والوطنيين الديمقراطيين (توجه ماركسي) مساندة الانقلاب والانتصار له. وهو بالنسبة إليها فرصة للتخلّص من خصم إيديولوجي هو النهضة أقام الحجّة على نفسه بعدم أهليّته طوال عشريّة الانتقال، فضلًا عمّا يُتّهم به من مسؤوليّة سياسيّة فيما كان من اغتيال سياسي.
اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..
وقد كان سياق الأزمة السياسيّة وتجاذباتها الحادة يسّرا عزل النهضة وجعَلا منها، قبل الانقلاب، المسؤول الأساسي عن الأزمة وتداعياتها. وبذلك تكون قد ارتسمت ملامح معادلة لم تكن المركزيّة النقابيّة بعيدة عنها تمثّلت في "شطب النهضة مقابل السكوت عن مصادرة الحريّات". وكانت هذه المعادلة السياسيّة مستساغة شعبيًّا في سياق ترذيل نسقي للديمقراطيّة التي صارت في منابر الإعلام الموجّه ِصنْو الفساد والتفقير ونهب المال العام والعجز عن مجابهة الأزمة.
لم يكن للمركزيّة النقابيّة اعتراض مبدئي على الانقلاب، حتّى بعد أمر 117 بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2021، واعتبره فرصة لإعادة ترتيب المشهد السياسي، وأنّ قيس سعيّد سيمدّ يده للأيادي التي امتدّت إليه ومن بينها يد الاتحاد، لكنّ موقف سعيّد كان الصدّ. وكأنّ سعيّد لم يكن يُدرك أنّ الاتحاد يحتاج إلى نظير حكومي في المفاوضات الاجتماعية، وكان التأخير في تشكيل حكومة مصدر قلق بالغ عنده. وفي هذا الاتجاه أكّد الأمين العام للاتحاد أنّ المنظمة أكبر المتضرّرين بالنظر إلى تعطّل الاستحقاقات الاجتماعيّة في ظلّ غياب حكومة.
- العلاقة بالدولة
بيان الاتحاد الأخير اعتُبر إمضاءً على بياض للانقلاب رغم تذكيره مجدّدًا بأهميّة التسقيف الزمني والخروج من حالة الاستثناء والتشديد على موضوع الحريات والديمقراطيّة. ولم يكن للأمين العام من حضور في هذا البيان غير الإمضاء. لذلك جاءت كلمته في الأسبوع الفارط بمناسبة انعقاد مؤتمر الاتحاد الجهوي بضاحية بن عروس (جنوب العاصمة) لتعيد ترتيب المشهد برمّته.
بدا الطبوبي مؤخرًا كمن يتدارك شيئًا فاته أو يصحّح موقفًا لم يكن يرضى عنه. وبدت كلمته في مؤتمر لاتحاد الشغل ببن عروس ردًّا شبه مباشر على موقف سعيّد من الحوار ومن مجمل الأزمة
بدا الأمين العام للمنظّمة الشغيلة كمن يتدارك شيئًا فاته. أو يصحّح موقفًا لم يكن يرضى عنه ومثّل مؤشرًا على حسم خلاف داخل المكتب التنفيذي للاتّحاد. وبدت كلمة الأمين العام ردًّا شبه مباشر على موقف الرئيس قيس سعيّد من موضوع الحوار، ومن مجمل الأزمة المتفاقمة التي تعصف بالبلاد.
وقد كان رئيس الجمهوريّة أشار في تصريحاته الأخيرة إلى أنّ الحوار لن يكون مع الفاسدين ومع من نهب المال العام ونكّل بالشعب. وهذا كلام كان الرئيس سعيّد ردّده في أكثر من مناسبة قبل 25 جويلية/يوليو 2021، غير أنّ السياق غير السياق، فالرئيس سعيّد يُمسك بموجب الأمر الرئاسي 117 بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2021 بكلّ السلطات في وضع غير مسبوق لم تعرفه السلطة في تونس رغم نزوعها الاستبداديّ مع الزعيم المؤسس بورقيبة وفي منعطفات أخرى مشهودة.
اقرأ/ي أيضًا: الطبوبي: اتحاد الشغل لن يقبل بالعمل وفق "لجان شعبية"! (فيديو)
لكنّ الأهم من كلّ ذلك هو علاقة كلّ من الاتحاد والرئيس سعيّد بالدولة وبمسار بناء الديمقراطيّة. فالاتحاد ولئن كان جزءًا من النظام السياسي الذي قاد دولة الاستقلال، فإنّه قبل بدور المُزكّي لسياسات بن علي في المناولة وخوصصة جزء مهمّ من القطاع العام ومساندته شراكة تونس مع الاتحاد الأوروبي بموجب اتفاقيّة الأليكا سنة 95.
ولئن كان الاتحاد أقرب إلى المنظومة القديمة في صراع القديم والجديد بعد الثورة، فإنّ طبيعته النقابيّة الاجتماعيّة تجعل من سقفه هو سقف الدولة نفسه. فالاتحاد في كلّ الأحوال يقدّم نفسه نظيرًا اجتماعيًّا بدرجة أولى وشريكًا سياسيًّا بدرجة ثانية. وكان هذا حتّى في أشدّ الفترات توتّرًا زمن حكم الترويكا. ومن هذا المنطلق كان أحد أهم أعمدة الحوار الوطني الذي أخرج البلاد من أزمة 2013. في حين يقدّم الرئيس قيس سعيّد نفسه بديلًا عن كلّ الوضع بما في ذلك الدولة، رغم حديثه المكرور عن دوره في حماية الدولة من "الخونة" و"المغامرين" و"العملاء" الذين يستهدفونها من الداخل ويتآمرن عليها من الخارج.
اللقاء بين من يرى في نفسه شريكًا في المشهد السياسي الاجتماعي بعد الثورة ومن يتقدّم على أنّه بديل عن الوضع كلّه يبدو مستحيلًا. لذلك لم يكن ممكنًا أن يقبل الرئيس سعيّد بدعوات الاتحاد المتكرّرة إلى الحوار، قبل 25 جويلية وبعده
فاللقاء بين من يرى في نفسه شريكًا في المشهد السياسي الاجتماعي بعد الثورة ومن يتقدّم على أنّه بديل عن الوضع كلّه يبدو مستحيلًا. لذلك لم يكن ممكنًا أن يقبل الرئيس سعيّد بدعوات الاتحاد المتكرّرة إلى الحوار، قبل 25 جويلية وبعده. فالحوار عند قيس سعيّد سيكون مع الشعب التونسي ومع الشباب. ولا يخفى أنّ الحوار الذي يعنيه ليس سوى الشروع في تنزيل مشروعه المجالسي الذي ينتهي باستفتاء على النظام السياسي الجديد ومرجعيّته الدستوريّة بما يشبه البيعة العامّة.
- متغيّرات مهمّة
متغيّرات مهمّة جدّت بعد مضيّ ثلاثة أشهر على الانقلاب. ومنها توضّح توجّه سعيّد الانقلابي، بعد الأمر 117 الذي جعل السلطات الثلاثة بيده، ولم يعد بإمكانه الحديث عن علاقته بدستور الثورة ومرجعيّته. وكانت المفارقة صارخة عندما أقسم وزراء حكومته أمامه على الالتزام بالدستور والعمل على احترامه.
وفي الجهة المقابلة كانت حركة الشارع المناهض للانقلاب مع مبادرة "مواطنون ضدّ الانقلاب" المواطنيّة معطى جديدًا. وتمكّنت في ثلاث تظاهرات ميدانيّة في شارع الثورة أن تخرق حاجز الصمت الذي خيّم على المشهد السياسي لأكثر من خمسين يومًا، وأن تكسر السرديّة الشعبويّة وأسطورة التفويض الشعبي، وأنّ "الشعب المتخيّل" في متصوّر سعيّد لا مقابل له في الواقع إلاّ مجتمعًا تونسيًا متعدّدًا مدعوًا إلى النجاح في إدارة اختلافه وتنوعه. وأنّه لا أفق لحلّ سياسي خارج مرجعيّة الدستور والديمقراطيّة.
كان التقابل صارخًا بين الشارع الديمقراطي وشارع الانقلاب. وبدا واضحًا أنّ الشارع الديمقراطي يتّسع باطّراد وأنّ من فرّقهم الانتقال الديمقراطي يجمعهم الانقلاب المهدّد لاستمرار الدولة.
كان التقابل صارخًا بين الشارع الديمقراطي وشارع الانقلاب. وبدا واضحًا أنّ الشارع الديمقراطي يتّسع باطّراد وأنّ من فرّقهم الانتقال الديمقراطي يجمعهم الانقلاب المهدّد لاستمرار الدولة
كان لهذا التحوّل في المشهد السياسي ببروز الشارع الديمقراطي رسائل عدّة إلى الداخل والخارج. ولعلّ أهمّ رسالة إلى الطرفين معًا أنّ " الديمقراطية مطلب سياسي" عند قسم مهم من النخبة. وهذا بدوره يمثّل مفارقة أخرى، إذ يبرز هذا المطلب في سياق ترذيل نسقي للديمقراطيّة حتّى غدا الدفاع عنها أعسر من المرافعة عن الشياطين.
تلقّى شركاء تونس رسائل الشارع الديمقراطي بالجديّة المطلوبة وعدّل عندهم جانبًا من تقديراتهم للوضع، وتجلّى هذا في مستوى كثافة الزيارات إلى تونس، وفي مضمون الخطاب الموجّه إلى الرئيس قيس سعيّد ودعوته إلى إنهاء حالة الاستثناء واستعادة الديمقراطيّة ومؤسساتها الممثّلة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف توصّل باحث أمريكي في 2019 إلى أن الرئيس سعيّد سينفرد بالسلطة؟
في الداخل كان التأثير واضحًا، فكانت هناك مراجعات عند من ساندوا الانقلاب.
وإلى جانب خيبتهم من سعيّد واستحالة إشراكهم في الوضع السياسي الجديد كان لاتساع الشارع الديمقراطي بمبادرة مواطنيّة "فوق ـ حزبيّة" تأثيره في دفعهم إلى إعادة تقييم المشهد. وهالهم تفوّق الانقلاب في تجميع خصومه وعزل نفسه. فضلًا عن أنّ بعض الجهات الدوليّة التي لم تكن بعيدة عن دعم الانقلاب بدأت بتعديل موقفها.
في هذا السياق، يأتي موقف الاتحاد على لسان أمينه العام نور الدين الطبوبي. وفي هذا الصدد نكتفي بالإشارة إلى أنّ من أهمّ المشاكل التي اعترضت مسار بناء الديمقراطيّة افتقاد القديم إلى واجهة سياسيّة تمثله وتقيم توازنًا سياسيًا مطلوبًا مع النهضة، مثلما كان عليه نداء تونس. وأنّ العناوين الحزبيّة الصغيرة الخارجة من تجربة نداء تونس بعد انهياره لا يمكنها أن تنهض بمهمّة التوازن السياسي.
المشهد برمّته يتحرّك نحو حوار وطني شامل ينقذ الدولة المختطفة ويفعّل تدريجيًّا المؤسسات الديمقراطيّة المعطّلة وسيكون لاتحاد الشغل دور ريادي إذا التقط اللحظة
في ظلّ هذا الفراغ يفرض دور اتّحاد الشغل نفسه ويدفع به إلى الأدوار السياسيّة. ولو قبل سعيّد بالشراكة مع الاتحاد وروافده لنجح الانقلاب في إعادة بناء المشهد كما يريده خصوم المسار الديمقراطي من شركاء تونس التقليديين وحلفائهم في الداخل.
لذلك يبرز الاتحاد وحركة النهضة قوّتين لعلهما الرافعة السياسيّة الوحيدة للمشهد السياسي، إذا تسنّى غلق قوس الانقلاب. وفي هذا السياق يأتي تذكير البرلمان الأوروبي في تصويته على الملف التونسي بدور الرباعي الراعي للحوار، وفي ذلك تلميح إلى أنّ المخرج لن يكون إلا بحوار وطني شامل بمرجعيّة الدستور والديمقراطيّة.
بعد 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهو تاريخ أضخم تظاهرات الشارع الديمقراطي، دبّت حركة في الأحزاب والمجتمع المدني (اتحاد الشغل) باتجاه تحمّل الأدوار، وكأنّ تحفيز المبادرة المواطنيّة أتى أكله. فهناك حركة من النواب باتجاه طرح أوسع لمستقبل المؤسسة الأصليّة البرلمان وتفعيل دورها في سياق ترتيبات جديدة، ورشح حديث عن لقاء لم يتأكّد بين الغنوشي والطبوبي..الخ.
فالمشهد برمّته يتحرّك نحو حوار وطني شامل ينقذ الدولة المختطفة ويفعّل تدريجيًّا المؤسسات الديمقراطيّة المعطّلة وسيكون لاتحاد الشغل دور ريادي إذا التقط اللحظة، بعد ترميم صفّه الداخلي، فالهشاشة التي تعرفها المنظّمة الشغيلة غير مسبوقة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: