06-أكتوبر-2021

على ما يبدو أنّ سعيّد اختار أخيرًا الآلية البعثية للتغيير الاجتماعي وتحقيق حلمه "التأسيس الجديد" كما يسمّيه (صورة أرشيفية/ أنيس ميلي/ أ ف ب)

 

في مراجعته للطرح البعثي لميشال عفلق، كتب هشام جعيّط: "كيف يتصوّر عفلق هذا البعث للأمة العربية؟ يتصوّر ذلك عبر عملية يسمّيها انقلابًا. ويمكن فهمه بأنه تغيير عميق أو ثورة. وعليه، فإن الانقلاب يعارض كل اتجاه إصلاحي أو تطوّري، فخلافًا لما حدث في البلدان الأوروبية لم تعرف الأمة العربية طيلة تاريخها غير نوعين في الحياة: الانقلاب أو الانحطاط[1]."


على ما يبدو أنّ قيس سعيّد اختار أخيرًا هذه الآلية البعثية للتغيير الاجتماعي وتحقيق حلمه "التأسيس الجديد" كما يسمّيه. بعد سنوات من العمل بعيدًا عن الرادارات الإعلامية وتجنّب الظهور العلني، انعقدت مؤخرًا حلقة نقاش بالكبارية ضمت قيادات من الصف الأول لقوى تونس الحرة -الحركة الحاضنة لقيس سعيّد- أين ألقى كل من عبد السلام حمدي، سنية الشربطي وقيس القروي تقديمًا لـ"المشروع القيسي"، بينما غاب عن هذه الحلقة رضا شهاب المكي (لينين) لأسباب غير معلومة حتّى الآن.

ومن المنتظر أن تتضمّن التعديلات الدستورية التي أشار لها قيس سعيّد، في التنظيم المؤقت للسلط الذي أصدره تحت اسم "أمر رئاسي عدد 117/2021"، الملامح النهائية لهذا المشروع قبل عرضه على الاستفتاء، والتي على ما يبدو أن النقاش العام حولها قد انطلق فعلًا بينما تنشغل النخب، كعادتها، في المناكفات والمزايدات.

بعد سنوات من تجنب الظهور العلني، انعقدت مؤخرًا حلقة نقاش ضمت قيادات من الصف الأول لقوى تونس الحرة -الحركة الحاضنة لسعيّد- أين ألقى كل من عبد السلام حمدي، سنية الشربطي وقيس القروي تقديمًا لـ"المشروع القيسي"

للإشارة، لم نستطع التوصّل إلى أي مخطوط نهائي ورسمي (ومنشور للعموم) لهذا المشروع، عدا الفيديوهات الأخيرة التي نشرتها صفحة "لنفكر ديمقراطيتنا"، ما نشر على منصة الحوار المتمدّن من نصوص وتدوينات مختلفة لأعضاء الحملة التفسيرية، والتي تقفّينا أثرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

  • بناء قاعدي مموّه وسلطوية مقنّعة بالديمقراطية المباشرة:

في مدوّنته الخاصة، يجيب المنظّر السياسي صامويل أيات (Samuel Hayat) عن السؤال الديموقراطي من وجهة نظر حركة السترات الصفراء: "تطرح المبادرة شكلًا آخرًا للفعل السياسي يقوم على إلغاء الاحتراف السياسي لفائدة المشاركة المباشرة للمواطنين قصد بلورة الرأي الأصلي للشعب دون وساطة. الشعب، هنا، هو كلّ متجانس وموحدّ، دون تقسيم فئوي أو إيديولوجي. مجموعة من الأحرار سيقع تفعيل إرادتهم عبر استفتائهم".

علاوة على أن ما يسمّى بالتأسيس الجديد ليس إلّا امتدادًا لتصاعد شعبويات يمينية ويسارية تستغل الحراك الاجتماعي وتنامي الفوارق الاقتصادية رافعة شعارات أناركية طوباوية ممتدة إلى أيام الفيلسوف الروسي ميخائيل بوكونين في ثلاثينات القرن 18، فإن ما يعرضه صامويل يتطابق مع ما يطرحه أعضاء الحملة التفسيرية: تصويت مباشر + استفتاء+ شعب الأحرار.

يحتوي هذا الطرح على عدة مؤاخذات: الشعب ليس شعبًا واحدًا وإنما شعوب مختلفة. الاستفتاء يفترض أن هناك سؤالًا للإجابة عنه. ما يعني أن هناك من أعد السؤال: صياغته، اتجاهه... وبالتالي وصاية على "الإرادة الشعبية" متمثلة في تحديد الصياغة، فيتحول الاستفتاء إلى تزكية لمن يطرح السؤال لا لمضمونه، وهنا يكون للبروبغندا الدور المحوري.

ما يسمّى بالتأسيس الجديد ليس إلّا امتدادًا لتصاعد شعبويات يمينية ويسارية تستغل الحراك الاجتماعي وتنامي الفوارق الاقتصادية رافعة شعارات أناركية طوباوية

قبل المضيّ في التحليل، وجب الإشارة إلى أن الوظائف المسندة للمجالس، وتوزيعها الهرمي، قد وقع اقتباس الكثير منها من مدوّنة الجماعات المحلية لسنة 1988، وكذلك من نظام الحكم المحلي التي نص عليها دستور 2014، مع اختلاف التسميات (مجالس بلدية/مجالس محلية). لا جديد يذكر على مستوى التنظيم والصلاحيات.

 وفق ما يقترحه "المفسّرون"، فإن رئاسة الجمهورية تتولّى تعيين كافة مكوّنات السلطة التنفيذية تنازليًا من الوزير الأول (يعني نظام رئاسي) وصولًا إلى العمدة مرورًا بالوزراء والولاء والمعتمدين، مع اشتراط مصادقة المجالس على هذه التعيينات في كل مستوى (الوطني، الجهوي، المحلي). بالطبع نجد هنا فرضيتين، إما أن تصادق عليها المجالس أو لا.

المصادقة تفتح الباب للتماهي بين السلطتين، أو أن ترفض، ما يضعنا في وضعية لم يتطرّق لها المفسّرون. هل جزموا أن المجالس ستصادق آليًا، يعني هيمنة السلطة التنفيذية على التشريعية، أو أنه سيقع اللجوء إلى نوع من التسويات والتفاوض، أو الصفقات كما يسميها قيس سعيّد؟ لا يمكن لهذا الطرح أن ينجح إلا إن كانت كل مكونات السلطتين في تماه تام.

اقرأ/ي أيضًا:  هل يتجه قيس سعيّد نحو تطبيق مشروع "قوى تونس الحرة" في الحكم؟

إن هذا ما يحيلنا إلى نظام السوفياتات، أو الكمونات، الذي لا يمكن أن ينجح إلّا عبر وجود هيكل فعل سياسي واحد وجامع، ما يعني إلغاء الوجه التعدّدي للديمقراطية. بالتالي العودة فعليًا إلى 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، لكن قبل حرق محمد البوعزيزي لنفسه. ولئن كان بن علي قد تستر بالديمقراطية التمثيلية واختزال الفعل السياسي في طائفة التجمع مع الاستحضار الشكلي للأحزاب، فإن سعيّد على ما يبدو ينوي أيضًا التلحّف بالديمقراطية المباشرة وإلغاء الفعل السياسي التعددي مع استثناء طائفته أيضًا، ونقترح لها اسم "السعيّدية".

وسواء مع بن علي أو مع نسخته الجديدة، فإن النتيجة واحدة: الإلغاء المباشر أو غير المباشر للفعل السياسي يؤسس للفاشية، كما كتب زياد كريشان في افتتاحيته مع جريدة المغرب ليوم 29 سبتمبر/أيلول 2021.

  • الاستفتاء أو التفويض الشعبي:

سئل لينين مرة عن تعريف الشيوعية، فأجاب[2]: "الشيوعية هي القوة لمجالس العمال". ثم أضاف: "مع كهربة كامل البلاد." ارتبط صعود الاتحاد السوفياتي بالراديو بدرجة أولى، والصحف. من بين الأسس التي يقوم عليها المشروع السعيّدي: المبادرات المواطنية والاسفتاء عليها، أو الاستفتاء على ما تطرحه إحدى السلطات: التنفيذية والتشريعية. إن المشكلة التي تطرحها الاستفتاءات التي تعتبر من ركائز هذا المشروع، وأولها الاستفتاء المقبل على الدستور الذي سيبعث من رماد دستور 2014 سيء الحظ، ليست حول السؤال، ولا المسؤولين، لكن حول السائلين. لا يمكن أن يعترض أي ديمقراطي حول القيمة الديمقراطية للاستفتاء، لكن الاختلاف حول ما يضمره من يطرحون السؤال.

لئن كان بن علي قد تستر بالديمقراطية التمثيلية واختزال الفعل السياسي في طائفة التجمع مع الاستحضار الشكلي للأحزاب، فإن سعيّد على ما يبدو ينوي أيضًا التلحّف بالديمقراطية المباشرة وإلغاء الفعل السياسي التعددي مع استثناء طائفته أيضًا

عندما احتاجت بريطانيا للاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يسأل ديفيد كاميرون الناخبين "عمّا يعتقدون بخصوص البريكسيت"، بل كان السؤال هو "عمّا يشعرون تجاهه؟" (لاحظ الفرق بين الشعور والاعتقاد). الديمقراطية في شكلها الليبرالي لا تتعلق بمدى عقلانية اتخاذ القرار، بل حول مشاعر الناس تجاه موضوع التصويت.

لو كان يتعلق الأمر بالعقلانية لما أعطي للناس جميعاً نفس الوزن الانتخابي لتباينهم الاقتصادي، الاجتماعي والمعرفي. يرفض عالم البيولوجيا الشهير "ريتشارد دوكنز" سؤال البريطانيين، وهو من ضمنهم، عن موقفهم من البريكسيت لعدم إلمامهم بكل الحيثيات والتبعات الاقتصادية والسياسية للموضوع. بل شبه القضيّة بسؤال الناس: "هل نال أينشتاين التقدير الذي يستحقه في علم الجبر؟"، أو "أن يسأل الركاب عن مدار الطيران الذي يفترض للطيار التحليق فيه؟". إذن المعضلة أن الديمقراطية الليبرالية تقوم على اكتساب حق الانتخاب بالولادة لكل الناس وقيامها وصلتها بمشاعر الناخبين.

كما أشرنا، إن الاستفتاء يتطلّب توفر المناخات الملائمة للنقاش العام المفتوح، إلى جانب المعلومات والشفافية، مع ضمان الحد الأدنى من العقلانية. لكن مع تفشّي خطاب التخوين والاتهام بالعمالة، من طرف قيس سعيّد، تجاه كل من يعارضه أو ينتقده، وانتشاء الجماهير بهذا الخطاب، كما حدث مؤخرًا عندما وقع التشكيك في استقلالية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، على خلفية إبداء رئيسها نبيل بفون، رأيه حول شرعية القيام بانتخابات مبكرة، الاستفتاء العام وإجراءات 25 جويلية، يطرح عدة تخوفات حول مصير الجدل العام في المستقبل، ويعيد إلى الأذهان خطاب التكفير الذي ساد الفضاء العام بين 2011 و2013.

  • إشكالية التمثيل:

في مفهومها البدائي الأثيني، وفق السياقات العسكرية لظهورها، الديمقراطية هي حكم الأغلبية. مع التطوّر الديموغرافي والسياسي ورجوع النظم الديمقراطية إلى الواجهة السياسية بداية من القرن 16، ظهرت إشكالية الذئاب والخروف، أي لا يمكن أن تجتمع مجموعة من الذئاب وخروف للتصويت على اقتراح لطبق العشاء.

 يقترح مشروع قيس سعيّد التصويت على القائمات المفتوحة، أي أننا قد نجد مجلدًا للمترشحين، فيما يختصر التمثيل في لوائح تزكيات قد تشترط عدة معايير

في هذا السياق يقول فيلسوف الترحال الدائم ألبير كامي: "الديمقراطية ليست حكم الأغلبية وإنما حماية حقوق الأقليات". تضمن الديمقراطية، في نسختها التمثيلية وعبر التصويت على القائمات، الحد الأدنى من التمثيل الجندري (تناصف القائمات بين الرجال والنساء)، التمثيل الإيديولوجي (التعددية السياسية)، التمثيل الديموغرافي (شباب، كهول، شيوخ) بالإضافة إلى التمثيل الجهوي/الجغرافي. طبعًا هناك عدة إشكالات عند التطبيق مثلًا كإقصاء النساء من ترؤّس القائمات، لهذا لم تتجاوز نسبة حضور النساء في البرلمان الـ 33% في برلمان (2014-2019).

اقرأ/ي أيضًا: لقاء حصري مع "رضا لينين" وسنية الشربطي.. من يقف وراء حملة قيس سعيّد؟

لكن في المقابل، يقترح مشروع قيس سعيّد التصويت على القائمات المفتوحة، أي أننا قد نجد مجلدًا للمترشحين، فيما يختصر التمثيل في لوائح التزكيات حيث تشترط عدة معايير كأن تكون نسبة من التزكيات نسائية، ونسبة أخرى من الشباب... لكن بالنهاية، قد نجد مجالس غير متوازنة، وقد تتوازن... لا ضامن حتى الآن، فيما ظهر من المشروع المنتظر، غير المزاج الاجتماعي وطبيعته.

عرضًا نشير إلى أن هناك الكثير من الاختلاف حول طبيعة المجتمع بين مختلف المكونات السياسية، لكن يبقى الإجماع، حسب ما رشح من الانتخابات التي جرت من 2011 إلى 2019، أننا إزاء مجتمع ذو أغلبية محافظة (بيمينها ويسارها). ما يطرح عدة أسئلة حول ضمانات الحرية للأقليات.

بعد عقد من محاولة دمقرطة الدولة والمجتمع، نجد أنفسنا أمام لجنة في قاعة مظلمة تحوك التعديلات وفق إرادة سلطوية لفرد واحد، مع تغييب تام للآليات المعارضة والسلطة المضادة

منذ نهاية انتخابات 2019، انطلق ما يشبه الحملات انتخابية/تفسيرية مبكّرة أدّت إلى تشنّج الرأي العام وغياب العقلانية وتوجيه أصابع الاتهام إلى الدستور كونه إما محسوب على طرف دون آخر، أو أن نصوصه فضفاضة، وآخر الاتهامات أنه مليء بالقيود. ينسى أصحاب هذه الاتهامات، أن الدساتير لا يمكن ألا تكون إلا فضفاضة وعامة إذ لا تكتب لإطار زمني محدد، بل لتكون قابلة للتأويل في سياقات وأزمنة مختلفة، وأن القيود التي يتحدثون عنها، لم تكن إلّا للقطع مع الاستئثار بالسلطة والحكم الفردي الذي عرفته البلاد طيلة 6 عقود بعد الاستقلال، وتركة 5 قرون من الركود، لم تنتهِ إلّا للفشل القياسي على جميع المستويات.

بعد عقد من محاولة دمقرطة الدولة والمجتمع، نجد أنفسنا أمام لجنة في قاعة مظلمة تحوك التعديلات وفق إرادة سلطوية لفرد واحد، مع تغييب تام للآليات المعارضة والسلطة المضادة. بالختام، وجب التنويه إلى أن المفسّرين، والمتدخّلين، في حلقة الحوار المشار إليها يصرّون على استعمال كلمة "مقترح". فإلى من يعود التقرير النهائي؟ هو، ومن غيره: "أنا-الشعب".

 

المصادر:

[1]  هشام جعيّط. الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي. دار الطليعة بيروت. الطبعة الثالثة 2008. صفحة 66.

[2] Yuval Noah Harari. Homo Deus. Harper collins publishers. London 2016.  P221

 

اقرأ/ي أيضًا:

سنوات الانتقال العشر في تونس: نظرة من الداخل

كيف توصّل باحث أمريكي في 2019 إلى أن الرئيس سعيّد سينفرد بالسلطة؟